البعد الثقافي للتظاهرات

البعد الثقافي للتظاهرات

 علي لفته سعيد
لم يكن تاريخ الأول من تشرين الأول تاريخاً عابراً في الروزنامة العراقية، فهو قد شكّل، فضلاً عن تظاهرات الجوع وتظاهرات البحث عن وظيفة وردة لفعل ضد إقالة القائد العسكري عبد الوهاب الساعدي أو فض اعتصام أصحاب الشهادات العليا بالماء الحار والعصي، وتظاهرات التحشيد ضد الأحزاب الحاكمة بكل انتماءاتها الطائفية والدينية،

شكّل تاريخاً ثقافياً مهماً ربما سيكون لو تمّت ديمومته التوعوية إلى أن يكون تاريخاً مفصلياً أيضاً كما هو تاريخ التاسع من نيسان/ابريل عام 2003 تاريخ الاحتلال الأمريكي للعراق أو تاريخ سقوط ما اصطلح عليه بالنظام السابق في الوعي الجمعي العراقي. إن هذه المفصلية التظاهراتية ما كان لها أن تكون بهذا الحجم والقوة، وتكون لها مدلولات داعمة في بعدها الثقافي لولا الزخم الثقافي المسبق. فهي وإن كانت عفوية لكنها لم تكن لتحصل لولا هذا الزخم الثقافي الذي انطلق من كتابات المثقفين الذين يحملون الجرأة في التوصيف لما يجري في العراق سواء كانوا أدباء أو صحافيين أو فنانين. وطوال السنوات العشرة الأخيرة أو على الأقل السنوات الأخيرة لما بعد دخول تنظيم «الدولة» (داعش) التي صار تاريخها في حزيران/يونيو عام 2014 على أنه تاريخ مفصلي أيضاً.
إن البعد الثقافي الذي أسّس له المثقفون العراقيون هو الذي جعل من ماكينة التظاهرات تنطلق إلى أبعادها التي ظهرت عليها في الاحتجاجات الأخيرة التي صاحبت تظاهرات ما بعد الأول من تشرين الأول/ اكتوبر وهذا البعد تمثّل بكتابات العديد من المثقفين سواء على صفحاتهم في شبكات التواصل الاجتماعي أو في الصحف المحلية والعربية وحتى اللقاءات التلفازية في الفضائيات المختلفة لأنه كان عملية شحن غير مرئي للذاكرة العراقية من أن ما يجري هو عملية إهانة للعراق شعباً وتاريخاً ووجوداً لأن الطبقة السياسية التي تندّر بها العراقيون وسمّوها بالفاسدة تشبيها بطبقة البيض الفاسدة هي التي جعلت السلطات المختلفة في العراق تسعى إلى اعتقال الناشطين وقيام جهات مستفيدة من الوضع الراهن بعملية اغتيالات لنشاطين آخرين أو محاولات فاشلة للاغتيال.
وكأن العمل في وأد الصوت الثقافي هو الذي يمكن أن يثبط من عزيمة المتظاهرين والمحتجّين في التوقّف عن التظاهرات، بدون أن تأخذ السلطة في العراق في بالها إن العمق الثقافي هو أساس وأسّ هذه التظاهرات، ولا تتمكن من وأد الصوت الثقافي، لأنه تغلغل في عقل الشاب العراقي الذي وجد سواء كان يدري أو لا يدري إنه يمثّل ويتمثّل هذا الحراك الثقافي لكي يواجه الفساد ويكرّر ما يقوله المثقّفون من أنهم (يريدون وطناً محترماً) وإنهم (هيهات منا الذلة) وأنهم (وطن بلا حرامية) وكذلك (كلا كلا للأحزاب) وهي شعارات مواجهة مباشرة ما بين السلطة والثقافة التي لا تريدها أن تكون فاعلة في بعدها المستقبلي، فتراجع من خلال هذا المقابلة الضدّية، التعليم في العراق وبالتالي تراجع حجم الوعي بالمستقبل لكنها أي السلطة ولا أقول الحكومة تخيّلت إن الاستمرار بهذا التراجع هو الذي يضمن لها الاستمرار بالبقاء في الحكم لأن الشعب وخاصة الطبقة الشبابية منها ستكون مشغولةً بالبحث عن لقمة العيش والخوف من المجهول والانشغال بالممارسات الدينية التي أثبت إنه أجل كل شيء ليمارسها ويعود إلى تظاهراته لأنه يستمد من هذه الممارسات حقيقة حصولها في التاريخ الإسلامي ومنهجها وثورتها ضد الظلم.
لكن العقل الشبابي برهن على إن التأثير الثقافي الذي استمر طويلا هو الذي أثار في داخلهم التوثّب والوثوب لكي يفكّ القيود عن الخوف ليس للبحث عن لقمة العيش أو إزالة الخوف، بل لأن العقل الشبابي أيقن أن لا حصول على هذه الجزيئيات إلا من خلال الحصول على هدنة واعية مع السلطة، وفهم الحياة على إنها وطنٌ آمن، وليس سلطة مخيفة.
إن الوعي الثقافي كان مواجها للحراك السياسي وأيديولوجية المصالح التي ركّزت على إنه من الصعوبة أن تكون هناك تغييرات في العراق من خلال ثوابت سياسية جعلوها قانونية بما يشبه القرآن وهي أن الدستور لا يمكن تغييره، وهو دستور جامد ودائم، وكذلك لا يمكن العودة إلى الحكم الرئاسي لأنها تعني العودة إلى الدكتاتورية، ولا يمكن إلغاء مجالس المحافظات لأنها ثابتة في الدستور وغيرها من القنوات التي تصبّ في صالح السلطة التي بيّن البعد الثقافي أنه حتى قانون العفو العام قد شمل الفاسدين وسراق المال العام. مثلما بيّن البعد الثقافي إن كلّ هذا هو محض افتراء للبقاء في سدّة السلطة وإداراتها لزمنٍ أطول وهو ما جعل الحكم في العراق يختلف عن أي حكم في الدول العـربية على الأقـل.
فهناك مظاهرات أسقطت حكومات كما حصل في تونس ومصر والسودان واليمن والجزائر في حين في العراق لا حكومة يمكن لها السقوط من خلال التظاهرات لأنها، أي الحكومة، هي أنها سلطة متعدّدة الرؤوس تجتمع في ثلاثي أضواء المسرح العراقي وهو الشيعة والسنّة والكرد، وكل لهم مآرب في البقاء في السلطة والسيطرة على الحكومة. لذا فإن هذا العمل يحتاج إلى مواجهة العمق الثقافي للشباب الذين بيّنوا إن الخطاب الثقافي المستمر هو صاحب التأثير الأقوى في تغيير قناعات الكثير من الناس حتى الذين ينتمون إلى الأحزاب فقد تظاهروا بثيابٍ غير ثياب الأحزاب، ليعلنوا عن حاجتهم إلى وطن (محترم).