الشيخ جلال الحنفي والمقام العراقي

الشيخ جلال الحنفي والمقام العراقي

انوار ناصر حسن
لعل من أكثر المواضيع سخونة وأثارت جدلا ً في الأوساط الثقافية ولاسيما في الوسط الديني إهتمامات الحنفي بالمقامات العراقية والأنغام ... أذ كيف يمكن التوفيق بين رجل محسوب على المؤسسة الدينية وله باع في مجال الشرع والدين والكتابة في المسائل الفقهية والـــتاريخية ، يــنحو مــنحا ً آخـــر ذلـك هـو الأهــتمام بـــالمقام وقــرائه والأنـغـام وأصــولـهـا .

ويبدو للمتتبع لتراث هذا الرجل وأهتماماته إنه عدَّ المقام جزءا ً لا يتجزأ من الحياة البغدادية الأصيلة ، وأنه تراث غنائي لا ينفصل عن تراث أهل بغداد وبالتالي هو جزء من الموروث الشعبي ويدخل ضمن دائرة أهتماماته.
أن أهتماماته بالمقام العراقي وأصوله نما عنده وتطور وتعلق به منذ الصغر عن طريق الاستماع إلى الأسطوانات المقامية لمشاهير قراء بغداد آنذاك كمحمد القبانجي ورشيد القندرجي وعباس الشيخلي وآخرين غيرهم . وفي مرحلة لاحقة كان يجتمع مع آخرين من رفاقه في مقهى للمقام العراقي توفر فيه جهاز للأسطوانات لغرض سماع ما يذاع من المقام العراقي .
وفضلا ً عن السماع بدأ بمرحلة الأستفسار والسؤال عن أصل هذا اللون من الفن عن طريق المساجد والأنتقال من مسجد إلى آخر إذ أمكن له التعرف على بعض مقرئي المساجد فحصل منهم على بعض المعلومات عن هذا المقام وأنتفع منه فصار يزداد أعجابا ً وتعلقا ً به وخاصة بما كان يسمعه من الملا ( أحمد ) القارئ بجامع الفضل وهو أول مقرئ كان يشغله بالأستفسار عن هذه المقامات . وكذلك أسئلته للشيخ ( خالد النائب ) أستاذ الدين والعربية بمدرسة البارودية عن قــواعــد قــراءة الـــمقام . وبهذا بات الحنفي يعد المقام من العلامات المضيئة لما تتميز به بغداد بلدته العريقة من مميزات .
ان أهتمامه بالقراءات القرآنية جعله في مرحلة لاحقة ينتقد القراء الذين لا يلتزمون بقواعد القراءة المقامية حتى انه اعترف قائلا ً " ... أحضر قاعات الفواتح ومجالات التلاوة القرانية واستمع إلى من هم في عداد القراء وكذلك أستمع إلى الاذاعات فلا أجد في الموضوع ضبطا ً والتزاما ً بحقوق التلاوة وشروطها وواجباتها واجدني ذكرت بعض من يخرجون على قيم التلاوة وطلبت منهم أن يلتزموا بقواعدها فاذا أنهم لم يعيروا ذلك شيئا ً من التفاتة " .
وشدد على قارئ القرآن الالتزام بأصول التلاوة " ولا ينحرف عنها ثم يتحكم في امر القراءة على نحو ما يروق له فلذلك يجب وضع حد له في أي مكان من العالم الأسلامي وساتابع القراء الذين تظهر لهم أسماء في المناهج القرائية لأنبه على ما يقع منهم من تفريط وتقصير حفاظا ً على هذا القانون الادائي الذي عرفه الاولون واخذوه ممن جالسوهم وتتلمذوا على يدهم برعاية جد تامة " .
وخلال الأربعينات والخمسينات تعرف على عدد كبير من مقرئي المقامات وألتقط لهم بكامرته الخاصة كثيرا ً من الصور . وفي مكتبته مجموعة لصور هؤلاء المقرئين موثقة ومشروحة بدقة متناهية وهـي تمثل ثروة معرفيه لا يستهان بها عند الكتابة عن مشاهير قراء المقام العراقي .

وأصبح من المعروف لدى الناس أن الحنفي يعرف من أحكام المقام وأنغامه الشيء الكثير وأصبح حجة في تراكيبه وأوصاله وتحاريره . حتى أنه حضر كثيرا ً من المؤتمرات واللقاءات التراثية الفولكلورية وألقى بحوثا ً كثيرة عن المقام وقواعد التلاوة المقامية . فمثلا ً ألقى سنة ( 1964 ) بحثا ً في " موسيقى التلاوة البغدادية " وكان هذا في مؤتمر موسيقي في بغداد ونشر البحث في مجلة التراث الشعبي . كما ألقى في قاعة المركز الثقافي العربي الأسباني في بغداد بحثا ً آخر عن المقام العراقي وقواعده .
ومن الطريف ذكره هنا أن حبه وعشقه للمقام العراقي دفعه إلى تعلم الضرب على العود عن طريق مدرس خاص لقاء أجور شهرية فحفظ على يده الكثير من السلالم والقطع الموسيقية البغدادية .
وعـنـدمـا سافر إلى القاهرة في بعثة دراسية إلى الأزهر عام ( 1939 ) كان للموسيقى مكان في داخله الأمر الذي جعله يقوم بشراء آلة العود من أسواق القاهرة . والبدء بتعلم قواعد جديدة في ممارسة العزف إلا أنه ترك القاهرة بسبب الحرب وأضطر إلى ترك العود الذي يملكه هناك آملا ً في رجوعه إلى الدراسة بعد أنتهاء الحرب وأستقرار الـحـال ألا أنه سمع وهو في بغداد بألغاء مديرية الأوقاف للبعثة الدراسية .
وفي بغداد لم ينقطع عن متابعة العزف على العود حيث أشترى ذات مرة آلة عود من ( فاضل العواد ) المشهور بصناعة العود وكان ثمنه دينارا ً واحدا ً لمواصلة المزيد من التعرف على المقامات العراقية ولكن كلف الحياة والأقامة في المساجد والتناقض بين الرغبة وواقع الحال عاقته عن مواصلة العزف فلم يكن من حرمة المسجد عليه أن يكون له فيه عود يضرب عليه .
ويورد الحنفي في مذكراته أنه في يوم من الأيام"جاءني شخص من الأوقاف وفي أثناء جلوسه صار ينظر إلى يمينه وشماله وتحت الأريكة،فسألته عن أي شيء تبحث؟فقال لي أنني سمعت بأنك تمتلك آلة عود.فقلت له وكنت حينها فقد فقدت العود منذ زمن قليل.لو كان العود مـــوجـــودا ًلـــقمت بـــتعليقه عـلـى الـجـدران ولـــيــس أضـعـه عـلـى الأرض أو أخــفــيـــه" .
وهذا يدل على أن الحنفي كان يثمن الأشياء ويقدر قيمتها ومكانتهُا مهما كانت بسيطة أو غير بسيطة ولكن حرمة المسجد أولى عنده بالتكريم والأعتزاز.
أن أرتباط الحنفي بالمقام وبتاريخه وبقرائه دفعه إلى وضع كتاب عام( 1964 ) عنوانه ( المغنون البغداديون والمقام العراقي ) وهو أشبه بمعجم مختصر في تراجم طائفة من قراء المقام العراقي البغداديين الذين قرؤوا المقام ومهروا فيه خلال القرنين ( 19 ، 20 ) وقد تتبع سيرهم معتمدا ً في ذلك على رواية من لقاه من مقرئي هذا الجيل.
وقد أورد في هذا الكتاب آراءه المتضمنة أن المقام العراقي يقرأ في بغداد قراءة تختلف كثيرا ًَ عن قراءته في الموصل وكركوك وهما مدينتان أشتهرتا بقراءة المقام العراقي أيضا ً ولكن على نطاق ضيق . كما أشار إلى أن لقراءة المقام العراقي أساليب متعددة لتعدد المدارس الاقرائية للمقام العراقي وبين أن لكل مقرئ طريقة خاصة في الأداء . وأشار في كتابه هذا إلى موضوعات طريفة أخرى في القراءة كبحثه عن قراءة المقامات العراقية في الموالد النبوية وفي الأذكار وفي الـــتــمـــجــيــد عــلــى الــمــنــائــر .
لقد أوضح في كتابه الكثير من التفاصيل المتعلقة بطريقة قراءة المقام المتضمنة التحرير والميانات والتسليم وأنواع المقامات وفروعها وكذلك اللغة المستخدمة في هذه المقامات ما كان منها فصيحا ً وما كان منها باللهجة العامية . وأي المقامات التي يشترط فيها الفصحى وأي
المقامات التي تؤدى باللهجة العامية .
وله في هذا الموضوع أشارة جديرة بالتقدير وهي أعترافه بأن الأمية تغلب على بعض قراء المقام إلا أنه عرف فيهم خصائص حرية بالأعجاب فهم " يتقنون ضبط الطبقات الصوتية أحيانا ً أتقانا ً عجيبا ً ويتنبهون بسهولة ظاهرة لمن يخرج عليها ويجدون ذلك من اسوأ العيوب التي لا يغتفرونها .
وبعيدا ً عن المقام وقرائه القدامى والمحدثين أستعرض في مجهوداته وأهتماماته المقامية موضوعات أخرى منها المقامات العراقية وكيفية توظيفها في المواليد النبوية والفصول التي تتضمنها تـلـك الـمـوالـيد وكيفية قراءة المولود ومواصفات القارئ وبطانته ( الشغالة ) واشهر قراء المولد النبوي.
وأخيرا ً فأنه تناول في كتابه هذا ترجمة لمائتين وعـــشرين شخصية من القراء والعازفين على الالات التقليدية المستخدمة مع قراء المقام كالسنطور والجوزة والطبلة وقد ثبت أسماء القراء على حسب حروف الهجاء.
عن رسالة (جلال الدين الحنفي وأثره الثقافي
في المجتمع العراقي)