عبد الكريم قاسم وابوه .. ذكريات وحقائق

عبد الكريم قاسم وابوه .. ذكريات وحقائق

د . ســامــي الصــــقــار
كان عبد الكريم قاسم من ابناء محلتي في بغداد (المحلة تعبير اداري يرجع الي العصر العثماني، معناه الحي، ولا يزال مستعملا بهذا المعني في العراق وتركيا. ويتولي رئاسته شخص يسمي (المختار) لان اهل المحلة هم الذين يختارونه، ويطلق هذا الاسم ايضا علي رؤساء القرى، كما هو الحال في فلسطين).

محلتي فتسمي (الست هدية) نسبة الي زوجة احد الخلفاء العباسيين، وقد كان لها ضريح بقبة بقي قائما حتي اواسط الثلاثينات من القرن العشرين، فهدم (مع الاسف الشديد) عند انشاء (ساحة زبيدة) الواقعة في شارع غازي (الكفاح حاليا) عند اتصاله بشارع الامين. وكان في تلك القبة يحفظ علم المحلة الذي كان يحمل في المظاهرات والاحتفالات.

وهذه المحلة التي كان عمي (السيد عبد المجيد الصقار) مختارها، هي من المحلات القديمة، واغلب سكانها من اسر عريقة، وكان ابناء عشيرتي يشكلون اكبر كتلة سكانية فيها، ولذلك يطلق عليها احيانا اسم (محلة الصقارة) وقد اشتهر من ابناء هذه المحلة نجار اخرس هو (رشيد الاخرس) الذي تصدي في ثورة 1920 لمصفحة بريطانية في شارع الرشيد بفأس النجارة، فقتلته. وقد ادي تسامح اهل المحلة وترحيبهم بالغرباء الي استيطان اعداد غير قليلة منهم فيها، وكان بينهم بعض التركمان واليهود. وقد برز بين السكان الاصليين عدد من الشخصيات البارزة، بينهم بعض الضباط في الجيش العثماني، مثل (المقدم ناجي الصقار والعقيد احمد قاسم القيسي والعميد خليل ابراهيم الحداد والعميد علي قنبر والمقدم سلمان مروان والعقيد محمود فياض العلي) وغيرهم ممن دخلوا في الجيش العراقي عند تشكيله سنة 1920، فتولوا مناصب مهمة فيه (عدا ناجي الصقار الذي رفض العمل بحجة ان الجيش قد تشكل في ظل الاحتلال البريطاني). وعلاوة علي هؤلاء كان هناك من ابناء المحلة شخصيات سياسية مثل جميل المدفعي (الذي تولي رئاسة الوزراء عدة مرات) والحاج محمود رامز النائب المزمن وصاحب الصوت المدوي بالمعارضة في مجلس النواب، والاستاذ حسن رضا القاضي الكبير ورئيس محكمة التمييز، ومنهم اللواء شاكر محمود رامز الذي شغل وظيفة مساعد لرئيس اركان الجيش العراقي في العهد الملكي، ثم عين مديرا عاما للطيران المدني.
وكان من ابناء هذه المحلة ابراهيم الحداد (ويشتهر باسم برهم) الذي كان رئيس صنف الحدادين في بغداد، وبعد تقدمه في السن تولي تلك الرئاسة (وتسمي مشيخة) قريبه وزوج ابنته (عبد الرحمن الجدة). وهناك (الحاج محمود البنية) وهو الذي شيد الجامع المعروف حاليا ببغداد، وكان رئيس صنف البقالين، و(اسطة قنبر) رئيس صنف البنائين، وضمت المحلة نفسها عددا غير قليل من الحدادين والبنائين والخياطين والبقالين، وغيرهم من اصحاب المهن. وكان بين سكانها (قاسم والد عبد الكريم) الذي كان (خراطا للخشب، ويسمي لدي العامة جراخ ـ وهي كلمة تركية بالمعني نفسه) وهو الذي يهذب قطعة الخشب الخام ويصقل جوانبها ويحكم استدارتها فتصلح يدا للفأس والمطرقة، كما يتولي زخرفة بعضها بما يحضره من الدوائر والاخاديد المحيطة بها، فيجعلها قوائم للكراسي والارائك والطاولات، وهو الذي يصنع احجار (طاولة الزهر). وقاسم هذا كان شخصية محترمة، كنت اراه ايام طفولتي في مقهي المحلة المسمي (قهوة عباس افندي). وكان يميل الي الهدوء والي شيء من العزلة، بخلاف رواد المقهي الاخرين الذين يملأونها ضجيجا. وقد تزوجت ابنته من شخص لا اتذكر اسمه الاول، يسمي (ابن حيمد) كان كاتب الضبط الاول في محكمة جزاء بغداد التي يرأسها (عبد العزيز الخياط) اشهر قضاة العقوبات في زمانه. اما (ابن حيدر) هذا فكانت اخته زوجة لحلاق اهل المحلة، وقد عرف بلقبه فقط (نونة) ولا اعرف سبب تلك التسمية رغم انني كنت احلق شعري لديه.
كان قاسم عديلا لقصاب من اهل محلة (المهدية) المجاورة لمحلتنا واسمه (عباس البعنون)، وهو من عائلة امتهنت القصابة، شأنها شأن اكثر سكان تلك المحلة الذين يرجعون في اصولهم الي عشيرة (المهدية) التي تقيم بجوار مدينة المقدادية (شهربان القديمة) وهي من اعمال لواء (ديالي). وعباس شخص محترم، كان له دكان في سوق الاغا (عند تقاطع شارع الرشيد مع شارع الامين)، وكان الاغنياء من بين زبائنه، وكان يجهز البلاط الملكي باللحوم. لقد انجب قاسم ولدين هما (حامد وعبد الكريم وانجب عديله عباس البعنون (فاضل واولادا اخرين).
اما عبد الكريم فقد كان من الاذكياء الجادين الذين لا يميلون الي الاختلاط، دخل الكلية العسكرية وبرز فيها، كما برز في الخدمة العسكرية بعد تخرجه، فتأهل لدخول كلية الاركان مما فتح الطريق امامه للتقدم في السلك العسكري، دون ان يكون له سند من عائلته، وهذه مزية عرفها العراق منذ تأسيس الحكم الوطني فيه سنة 1920، اي تقدم ابناء العامة الاكفاء بدون عائق. اما فاضل (ويلقب بالمهداوي)، وهو ابن خالة عبد الكريم (كما اسلفنا) فلم يوفق في دراسته، وانتهي به المطاف الي التعيين في وظيفة (مراقب) اي مفتش تابع للبلدية. ولكن الفرصة سنحت له عام 1937 للدخول في الكلية العسكرية، عندما تولي الفريق بكر صدقي رئاسة الاركان اثر انقلابه، حيث اراد توسيع الجيش فتساهل في شروط القبول لتلك الكلية (من حيث اشتراط الشهادة الثانوية بمعدل عال)، فدخلها المهداوي، كما ان عددا من المعلمين دخلوها، وكان بينهم احمد حسن البكر (رئيس الجمهورية فيما بعد) وطاهر يحيي (رئيس الوزراء في عهد عبد الرحمن عارف) ومجيد جليل (مدير الامن العام في عهد قاسم) وغيرهم كثير.
ويتضح مما تقدم ان عبد الكريم قاسم نشأ في بيئة شعبية عربية نقية، عاش فيها المثقفون الي جانب اصحاب الحرف اليدوية في وئام تام وتضامن، وكأنهم اسرة واحدة، ولذلك فلا غرابة ان نري العميد عبد الكريم الجدة (وهو ابن عبد الرحمن الجدة شيخ الحدادين) الذي صار امرا للانضباط العسكري في عهد قاسم، نراه يدافع بنفسه عن قاسم في مبني وزارة الدفاع حتي النفس الاخير، عندما دهمته احدي الدبابات فقتلته. كما لا غرابة ان نري الضابط الشاب (كنعان الحداد) الذي اعدم مع قاسم في دار الاذاعة، إذ هو ابن العميد خليل الحداد، آمر شرطة القوات السيارة في اواخر الثلاثينات، وهو (أي خليل) ابن ابراهيم الحداد آنف الذكر، وخليل هذا هو خال عبد الكريم الجدة القتيل في وزارة الدفاع. في الحقيقة ان عبد الكريم قاسم احاط نفسه بضباط هم من صميم الشعب العراقي، من ذلك مثلا اللواء احمد صالح العبدي، رئيس الاركان، فهو من محلة (حمام المالح) المجاورة لمحلتنا، ومساعده العميد سعدون المدفعي، هو من محلة (الفضل) القريبة. اما العميد مجيد جليل فهو من ابناء قرية صغيرة في لواء ديالي تسمي (منصورية الجبل) وابوه مزارع بسيط اعرفه شخصيا. ويمكن تعميم هذه المقولة علي كثيرين ممن استعان بهم عبد الكريم، بمن فيهم ابن خالته (فاضل المهداوي) الذي عينه رئيسا لمحكمة الثورة، فهو ابن قصاب، وعمه قصاب ايضا.

عن مقال طويل بعنوان ( مذكرات شخصية عن قائد ثورة 14 تموز العراقية )