من تراثنا الثوري .. انتفاضة فلاحي الشامية عام 1954

من تراثنا الثوري .. انتفاضة فلاحي الشامية عام 1954

كانت الزراعة المنتشرة في منطقة الشامية في الفرات الاوسط هي زراعة الشلب (الرز) التي تتطلب جهوداً استثنائية من الفلاحين، مقابل ممارسة ملاكي الارض لسلطة اوتوقراطية متطرفة تحرمهم من اية معاملة انسانية، اضافة الى حصولهم على نسبة متدنية من المنتوج الزراعي. ولم يكن للفلاح امكانية الاستعانة بالسلطة الادارية او القضائية لانصافهم،

اذ كانت القوانين العشائرية والاعراف السائدة تمنعهم من ذلك. هذا الحال حد من مقدرة الفلاحين على القيام بانتفاضات للمطالبة بحقوقهم، حتى في نطاق ضيق، لان مثل هذه الانتفاضات تهدد السلطة الحكومية القائمة وبنفس الوقت تهدد سلطة المشايخ. ومع ذلك، اخذ الشعور بالظلم ينمو في صدور الفلاحين تدريجياً.
وكان للتطورات السياسية المتسارعة في العراق وازدياد نشاط الاحزاب دوراً هاماً في نمو هذا الشعور بالظلم بين الفلاحين. ولكن المحرك الاكبر لمشاعر الغضب لدى فلاحي المنطقة هو مقارنتهم بين تعامل هديب الحاج حمود مع فلاحيه وبين تعامل بقية ملاكيهم، وكما اشرنا سابقاً، كانت قسمة هديب للحاصلات الزراعية مناصفة مع فلاحيه، اضافة الى المعاملة الانسانية والمساعدات الكثيرة التي كان يقدمها لفلاحيه.
لقد لعب هديب الحاج حمود، عندما كان مسؤولاً عن الحزب الوطني الديمقراطي في منطقة الفرات الاوسط، دوره الفعال، مع القوى الديمقراطية الاخرى (الطلاب والعمال والمثقفين والمحامين) في اسناده وتأييده لانتفاضة الفلاحين عام 1954، وزحفهم من القرى المجاورة نحو مدينة الشامية، مطالبين بــ (قسمة الحاصل الزراعي مناصفة) بين الملاك والفلاح بدل الثلث، وجعل المصاريف الزراعية مناصفة ايضاً. وبعد هذه المظاهرات الجماهيرية الواسعة في تأييد هذه المطاليب المشروعة والعادلة للفلاحين. شنت السلطات المحلية حملة واسعة ليلاً، وداهمت البيوت واعتقلت العشرات من الفلاحين والطلبة والعمال والفلاحين.
اندلعت المظاهرات الفلاحية يوم السادس من شهر شباط عام 1954 في الشامية، بدأها فلاحو المناطق الاخرى ومساندة اهالي المدينة. الامر الذي اعتبرته الحكومة والملاكين عملاً تحريضياً من هديب الحاج حمود ومن الحزب الشيوعي العراقي وبقية الاحزاب السياسية. اذ تعتبر هذه الانتفاضة امتداداً للانتفاضة الوطنية عام 1952 التي هزت النظام السياسي في ذلك الوقت، وهي مقدمة ملهمة للاحداث الكبيرة التي تلتها في انتفاضة 1956، وهي مؤشر كبير على تطور النضال الشعبي الذي تتوج بانتصار ثورة تموز عام 1958.
حاولت سلطات الحكومة الامنية قمع تلك المظاهرات، الا انها لم تستطع ذلك ولعدة ايام. ومقابل ذلك قامت بتوقيف هديب الحاج حمود وعدد اخر من المحامين والمعلمين والطلاب. الا انها لم تستطع توقيف الفلاحين النشطاء بسبب تعاطف الاهالي معهم وحمايتهم عن طريق استظافتهم المستمرة من دار الى اخرى. وكان لهديب موقفه المشرف في حماية الفلاحين، وبالاخص الناشطين منهم من امثال اسود فرحان ورحيم ال حميدي، من فلاحي منطقته واخرين، ورفض تسليمهم الى الشرطة.
اوقف مع هديب الحاج حمود كل من المحامين حسن الحاج وادي ويوسف الشريفي ومحمد عبد المصحب وموجد الحاج حمود، والطلاب صادق عبد الكاظم العطية ورشيد سوادي العطية وغالب سباح ومهدي الحافظ وحمزة محمد وعزيز محمود ومحمود رفعت وعدنان عباس علوان وفؤاد الحاج محمد ومالك حبيب غلام وعبد الاله شفيع وعدد اخر من الطلاب. اوقف هديب الحاج حمود في سراي ناحية العباسيات، واوقف الطلاب في سراي ناحية غماس والمحامون في ناحية الشنافية. ولا بد من الاشارة هنا الى احتفاء هذه المدن بالموقوفين، بحيث تحول مكان التوقيف الى ديوان عشائري وضيافة مستمرة من قبل الاهالي.
وفي مقابلة اجريت مع هديب الحاج حمود، قال عن توقيفه: ((قبيل الانتخابات النيابية عام 1954 حدثت مظاهرات فلاحية مسلحة في مركز القضاء تطالب بانصاف الفلاح ورفع حصته من الحاصل الى النصف، وقد كنت من بين المؤيدين لتلك المظاهرة المطالبة بالغاء نظام دعاوى العشائر. وكان من نتيجتها ان اصدرت الحكومة العراقية امراً بالقاء القبض عليّ مع لفيف من المحامين والفلاحين، خاصة واني احد اعضاء الحزب الوطني الديمقراطي المعارض لتلك السياسية. فأوقفت اول الامر في سراي مدير ناحية ام عباسيات يوم كان مديرها مشحن الحردان. وقد تحولت ام عباسيات الى ما يشبه المضيف او دار ضيافة لاستقبال زوار هديب الحاج حمود وكان من بينهم متصرف الديوانية عباس البلداوي، وهو من الاصدقاء المقربين لي. وبقيت حوالي اثنا عشر او خمسة عشر يوما لا اتذكر بالضبط وكان ذلك جزءاً من اجراءات الحكومة المشددة لكبح المعارضة. ثم جرى نقلي بعدها الى الشامية وتمت محاكمتي، وكانت هيئة الدفاع تتالف من عدد كبير من المحامين ضاقت بهم المحكمة بسبب كثرة عددهم امثال توفيق منير رئيس نقابة المحامين وعبد الغني مطر عضو الهيئة الادارية للنقابة وعبد الوهاب الحسك وكاظم جعفر وغيرهم. وقد جرت المحاكمة يوم 25 اذار عام 1954 م وانتهت بالافراج عني بعد ان طلب مني دفع كفالة، فرفضت ذلك وفضلت البقاء في السجن تضامناً مع الفلاحين ومطاليبهم. واخيراً جاء احد اصدقائي المقربين الذي قام بدفع الكفالة وكانت حسبما اتذكر مبلغاً بسيطاً))
فقد كتبت جريدة ((الاهالي)) في اذار 1954 تأييداً للانتفاضة قائلة: ((ان فلاحي الشامية كما في بقية انحاء الريف العراقي اخذوا يشعرون بسوء احوالهم وثقل الاقطاع الجاثم على صدورهم وقد بدأوا يحسون بالغبن الذي وقع عليهم في قسمة الحاصلات وما يقع في نصيبهم من نسبة ضئيلة لا تتناسب مع كدهم وكدحهم. وقد كانت الحركة التي قاموا بها.. لا تتعدى المطالبة بانصافهم ورفع هذا الضيق عنهم كما ثبت.. الا ان السلطات الحكومية التي لم تعتمد معالجة الاوضاع العامة، بما تقتضي من اعمال صحيحة باصلاح الفساد ورفع الظلم وانسجام المسؤوليات الديمقراطية المعين لها في الدستور، قامت بشن هجوم بوليسي على فلاحي الشامية، فاحتلت المدينة بقوات الشرطة واوقفت عدداً كبيراً من الفلاحين والطلاب والمحامين وهي لم تستطع ان توجه للكثيرين منهم تهماً محددة عن وقائع معينة، فانها اوقفتهم واحالتهم الى المحكمة بتهم غامضة مستخدمة نصوصاً مطاطة في القانون)).
وقد اصدر الحزب الشيوعي العراقي بياناً في 30/8/1954، دعى فيه فلاحي الشامية لاستمرار النضال من اجل تثبيت مكسب المناصفة وتحقيق مطالبهم الاخرى في الغاء الديون ووقف اعتداءات الاقطاعيين على متوسطي وصغار الملاكين.
ونتيجة لهذا الاهتمام الكبير بالانتفاضة ارسلت نقابة المحامين في بغداد وفداً كبيراً من اعضاءها بصفة (هيئة الدفاع عن العدالة) برئاسة المرحوم توفيق منير وعضوية عدد كبير من كبار المحامين، للدفاع عن الموقوفين. بحيث ادى الامر الى احراج ممثلي السلطة والى اطلاق سراح الموقوفين بعد محاكمة شكلية.
قوبل هديب الحاج حمود بموقف معادي من ملاكي المنطقة، وخاصة من بعض اعمامه الذين حاولوا تنظيم تهجمات (هوسات) مضادة والتوجه بها الى قرية الايشان للانتقام، الا ان جهودهم لم تفلح بسبب رفض جماهير الفلاحين لهذا التحرك، ومعارضة بعض ابناء الملاكين من المثقفين لذلك.
وقد اثمرت هذه الانتفاضة بدفع الحكومة الى اصدار مرسوم قسمة الحاصلات الزراعية بين الفلاح والملاك مناصفة. وقد سمي هذا المرسوم من قبل جماهير الفلاحين باسم ((قانون هديب الحاج حمود)).

عن كتاب (هديب الحاج حمود شيخ السياسة البيضاء)