من تاريخ الانتفاضات الوطنية في العراق.. وزارة الداخلية ووثبة كانون الثاني 1948

من تاريخ الانتفاضات الوطنية في العراق.. وزارة الداخلية ووثبة كانون الثاني 1948

د .قحطان حميد العنبكي
كانت سنة 1946-1947 أسوء سنة عرفها العراق في تاريخه الزراعي الحديث. فقد قلَّ المطرُ،وكَثُر الجرادُ ومُنيت المزروعات بأضرار منوعة،وتضاعفت الرغبة في تصدير الحنطة والشعير إمعاناً في الإثراء السريع من دون أن يُلتفت إلى حاجة البلاد واستهلاكها المحلي، فلم يدخل شهر أيلول سنة 1947 الا والبلاد تشكو أزمةً حادةً في الخبز،

وعاد ذلك المنظر المؤلم الذي ألفه الناس أيام الحرب العالمية الثانية،يوم كان الرجال والنساء والأطفال يتجمهرون على المخابز والأفران،ويتدافعون بالمناكب والسكاكين ليحصلوا على القليل من الخبز.

ولما اشتدت الأزمة قرر مجلس الوزراء تأليف لجنة من مدير الداخلية العام،ومتصرف لواء بغداد وأمين العاصمة لبيان أفضل الطرائق لتوافر الخبز ومعرفة أسباب قلته.فكان من جملة مقترحات هذه اللجنة هو تكليف مدير السجون العام ليقوم بعمل إعداد المسجونين للقيام بمهمة إعداد الخبز،وان يسارع المزارعون لتسديد حصة الحكومة من حاصلات الحنطة والشعير،في وقت((لم يكن في البلاد حنطة ولا شعير،إلا الشعير الذي ادخره المتنفذون لتأمين أموال السحت لهم)). وقد تكلل عمل المسجونين بالنجاح وقامت مديرية السجون بعمل اكثر من (25.000) صمونة في كل يوم لسد حاجة المسجونين فــي بغداد والألوية الأخرى.لكن ذلك لم يبعد أصابع الاتهام إلى الإدارة وتقصيرها في هذا الموضوع ولاسيّما إنها تحوم حولها شكوك الفساد.
كمـا أشار التقرير الذي أعده اثنا عشر نائباً إلى مجلس النواب إلى أن البلاد تواجه أزمة خبز مستحكمة الحلقات لم تجابه مثلها في تاريخها الحديث وارتفعت أسعار الحنطة والشعير بشكل عالٍ جداً يتعذر معه على عامة الناس الحصول على الحبوب أو الخبز لغلائه الفاحش.
وهذا ما زاد من تذمر الناس من الحكومة ،ومما عجل بالانفجار الشعبي بوجه الحكومة ،التي لم تعطِ للموضوع الأهمية اللازمة بل العكس من ذلك أنَّ رئيس الحكومة صالح جبر عَدَّ الأزمة شيء ثانوي وأنها أزمة عابرة وذلك واضح في تصريحاته عندما زعم أنَّ الوضع مطمئن وأنَّ الحنطة موفورة ولا داعي للخوف من أزمة الخبز، وما زاد في تذمر الرأي العام منه حينما رفض مناقشة أزمة الخبز في جلسات مجلس النواب ووصفها بأنها أزمة تافهة.
مما جعل رئيس الحكومة مكروهاً من الشعب نتيجة تدهور الحالة المعاشية بعد ارتفاع أزمة البطالة وانتشار العوز والفقر بين معظم فئات الشعب، وذلك عجل من سقوط الحكومة فيما بعد.
عندما عقدت معاهدة بورتسموث بين الحكومتين العراقية والبريطانية ونشرت موادها يوم 16كانون الثاني1948،خرجت تظاهرات صاخبة منددة بوزارة صالح جبر ونوري السعيد،وتجددت هذه التظاهرات يوم 19 كانون الثاني وتصدت لها الشرطة مما أدى إلى مقتل أحد المتظاهرين تبعه مصرع ثلاثة آخرين وعدد من الجرحى في اليوم نفسه.ومما يذكر بهذه المناسبة ان الشرطة كان موقفها سلبياً وقمعياً تجاه الشعب على الرغم من إنها أداة تنفيذ بيد السلطة،حيث داهمت ردهات المستشفى الملكي وأطلقت الرصاص على المستشفى التعليمي فسقط عدد من القتلى والجرحى من طلاب الكليات المتجمهرين في الكلية الطبية لتشييع زملائهم.
استمرت التظاهرات الاحتجاجية الساخطة بعد يوم 19كانون الثاني1948،وفي 26 كانون الثاني،أحرقت الجماهير الغاضبة سيارات الشرطة مع دراجتين بخاريتين،كما هاجموا مركز الاستعلامات الأمريكية ومطبعة التايمس في شارع الرشيد،وشددت الشرطة من إجراءاتها وحاولت جاهدةً السيطرة على الوضع لكن من دون جدوى،بل ازداد الأمر سوءً صبيحة يوم الثلاثاء 27كانون الثاني1948 بعد محاولة المتظاهرين عبور جسر الملك غازي(جسر الشهداء) من جانبي الرصافة والكرخ، فصدرت التعليمات من وزير الداخليــة توفيق النائب إلى مدير الشرطة العام بتهيئة قوة كافية من الشرطة وتجهيزها بالأسلحة الرشاشة وتوزيعها فوق البنايات والمنارات والجوامع،وعندما حاول المتظاهرون عبور الجسر من كلا الجانبين أطلقت الشرطة النار عليهم فسقط العديد من القتلى والجرحى.
ولم يقتصر موقف وزارة الداخلية ومؤسسة الشرطة التابعة لها في بغداد فحسب،وانما كانت الإجراءات قاسية ومتشددة في جميع مناطق العراق التي شهدت تظاهرات ضد المعاهدة ووزارة صالح جبر،فقد خرجت تظاهرات كبيرة في كل من النجف الاشرف وكربلاء والسليمانية وفي الموصل وكركوك وغيرها من المدن العراقية،وعلى أثر تدهور الأوضاع الأمنية واحتقان الشارع العراقي ومعارضة الأحزاب و الصحافة لإجراءات الحكومة، كذلك استقالــة رئيس مجلس النواب عبدالعزيز القصاب وحراجــة موقف الوصي الذي من الممكن قراءته من تصريح كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي:((.. ففي كل مكان من العراق تمرد وتجمع ومقاومة،والكل مجمع على وجوب الحيلولة من دون تنفيذ معاهدة جبر-بيفن)).
أصبحت استقالة صالح جبر مقبولةً للجميع،وتمَّ تأليف وزارة جديدة برئاسة السيد محمد الصدر الذي تردد في بادئ الأمر في قبول رئاسة الوزارة،ويقول عبد العزيز القصاب في مذكراته انه في اليوم الثاني من استقالة صالح جبر((زارني أحد رؤساء العشائر وكان قادماً
من الكاظمية وأخبرني..بأن الناس هناك ضد استقالة صالح جبر ويدعون بأنه اجبر على الاستقالة لأنه شيعي..)).ويبدو أنَّ قبول الصدر للوزارة جاء لتلافي المضاعفات التي قد تنجم عن استقالة صالح جبر،على اعتبار ان الصدر من العوائل الشيعية ذات السمعة الطيبة في بغداد وبقية المدن العراقية ومن الممكن قبوله من جميع الأطراف لذلك نلاحظ رؤساء الأحزاب يوافقون على وزارة يؤلفها السيد محمد الصدر.وبذلك أصبحت شخصية الصدر ((هي الشخصية التي أُلقي على عاتقها مهمة تهدئة الشارع وامتصاص ردود فعل وثبة كانون الثاني1948،حتى إذا تمَّ ذلك،وترك الوزارة بعد أربعة شهور ونصف لشهر)).
على كل حال انتهت الوثبة،وشكلت لجنة تحقيقية لمعرفة المسؤولين عن الحوادث المؤلمة،اشترك فيها من وزارة الداخلية كل من عمر حفظي مفتش الإدارة في وزارة الداخلية وعبد الحليم السنوي مدير الحقوق بوزارة الداخلية،واتهمت اللجنة مدير شرطة بغداد (مزاحم ماهر) لقيامه بإصدار أوامر إطلاق النار على المتظاهرين بعد موافقة وزير الداخلية توفيق النائب،وأُغلق التحقيق بناءً على توجيهات الوصي عبد الإله.وقد أشار التقرير الذي رفعته اللجنة المذكورة إلى تقصير الحكومة واتهامها باستغلال ذلك الأمـــر لأغراض سياسية وحمل الحكومة مسؤولية تدخلها في أمر التظاهرات وعدّه مخالفاً لأحكام القانون((..وعلى هذا فان تدخلها–أي الوزارة-في أمر التظاهرات على الوجه الذي وقع كان مخالفاً لأحكام القانون مما يدلل على أنَّ غرضها من هذا التدخل كان لدافع سياسي الا وهو الدفاع عن معاهدة(بورتسموث)وقمع أي حركة ترمي إلى الاحتجاج عليها أو معارضتها،هذا ما تظاهر للجنة من سير التحقيق في مسؤوليـة الوزارة نكتفي بتسجيله)).

عن رسالة ((وزارة الداخلية العراقية 1939-
1958دراسة تاريخية))