سامي عبد الحميد  ..الصــــورة الاخيرة

سامي عبد الحميد ..الصــــورة الاخيرة

علي حسين
أحالتني الصورة الأخيرة للمعلم الكبير سامي عبد الحميد وهو على كرسي نقال ن يعاني من حصار المرض ، إلى سنوات كان فيها هذا الفنان والاب والمعلم الكبير، ملء السمع والبصر، حيث امتدت تخوم دولته الإبداعية إلى كل أطياف المجتمع العراقي لتجده وقد استقر رمزاً ثقافياً يدين له العراقيون جميعاً بالحب والامتنان.

انظر إلى صورة سامي عبد الحميد باسما ممطمئنا ، فاقرا في ملامح وجهه رحلة الفن والثقافة ممتزجة بأفراح ومسرات الماضي.. ونتخيل صوته الممزوج بالعذوبة وهو يقف على خشبة المسرح يؤدي شخصية جعفر لقلق زادة ويصرخ اريد ان امثل ياناس
رحل سامي عبد الحميد وهو يحمل سنواته التي تجاوزت التسعين، لكن الذاكرة تظل رسم لنا صورة لصبي صغير يتجول في ازقة السماوة ، ثم وهو شابا في بغداد يحاول مع زملاء لهمابرزهم يوسف العاني وابراهيم جلال وجعفر السعدي وبدري حسون فريد اصطياد حكايات العراقيين وأحلامهم وقلقهم ونرى بغداد كلما استرجعنا اعمالا مسرحية اضاءت ايام وليالي هذه المدينة .
سامي عبد الحميد فنان جاهد بعزم من اجل تقديم تعريف مرئي لفلسفته الخاصة بالمسرح. ومن الصعب اعتبار الوسائل التي استخدمها في نشر هذه الفلسفة وسائل تقنية فقط، بل هي في المقام الأول وسائل معرفية وجمالية، وهو في كل هذا اثبت أن بإمكان الفنان سبر اغوار العلاقة بين الوسائل البصرية والمعرفية بالمسرح بدربة ودراية ووعي اجتماعي وفكري متميز.
فنان يمنح أعماله المسرحية تكوينات خاصة ربما تبدو غريبة أحياناً على عين المشاهد لكنها تحمل في داخلها مفاجأة تنطوي على مغامرة جديدة في المسرح. هو واحد من القلة الذين يراهنون على قدراتهم الإخراجية، لاطمئنانه من الخبرة التي يمتلكها ولذلك هو يعتقد بأن أية مسرحية كائناً من يكون كاتبها هي في متناول قدراته. وكان لرهانه سلسلة طويلة من الأعمال الناجحة مع طلبة المسرح، أو مع الفرقة القومية للتمثيل.. سامي عبد الحميد فنان يقف مؤرخو المسرح بخشوع أمام الحصيلة الفنية المزدحمة التي قدمها والتي ضمت أشهى الأفكار وأغرب وجهات النظر صارعها بشغف على خشبة المسرح.
سامي عبدالحميد.. تسعون عاماً من الجهد والبحث والمتابعة والنشاط على خشبة المسرح.. فنان بقدر ما يحرص على عملية الممازجة بين رؤاه الإبداعية وبين أفكار النص المسرحي، فإنه يحرص في الوقت نفسه على أن يشد وتائر قلبه في أضلع خشبة المسرح العراقي.. هو ابن العراق المأخوذ بجماله. لم ينظر إلى المسرح كمفردة مجردة أو حالة عابرة وإنما نظر إليه باعتباره جزءاً من عملية بناء هذا المجتمع. الأستاذ وهو اليوم على فراش المرض يرغمنا على التأمل ملياً في أعماله التي تكتسب تنوعها وخصوصيتها بشمولية الفنان واتساع نظرته وقدرته على الإفصاح عن دواخله الإنسانية بشاعرية متفردة ومتوقدة.
كانت المرة الأولى التي التقي فيها المعلم سامي عبد الحميد في نهاية السبعينيات، يومها ارسلني استاذي الراحل صلاح خالص لكتابة موضوع عن مسرح يوسف العاني.. في ذلك الوقت كان سامي عبد الحميد يعرض مسرحية بيت برنارد البا على قاعة مسرح بغداد، حيث حول منتصف قاعة المسرح الى قفص حديدي كانت النسوة"ناهده الرماح، فوزية عارف، مي شوقي، إقبال محمد علي،
عواطف نعيم، سميرة الورد، باهرة رفعت واقبال نعيم ، اشبة بسبايا يحرسهن سوط العمة المتجبرة والتي ادت دورها باتقان فنانة الشعب زينب..هذه المسرحية التي يمكن ان يكتب عنها دون تحفظ، بانها صنعت المسرح التجربيي العربي، والتي اثبت فيها سامي عبد الحميد، انه الأستاذ و المعلم، والمستقبلي وصاحب الرؤية الفنية الواضحة.. وقد كانت هذه المسرحية بوابة دخولي الى عالم النقد المسرحي، حيث كتبت عنها مقالا نقديا نشر في جريدة طريق الشعب، وهو اول موضوع ينشر لي
بعدها كتبت عشرات الموضوعات والدراسات، وكان سامي عبد الحميد ايضا محورا مهما فيها، فقد نشرت عام 1980 اول كتاب لي وهو دراسة عن اساليب الاخراج المسرحي في العراق، واتخذت من تجربة سامي عبد الحميد أنموذجا ليصدر الكتاب واحصل من خلاله على اول مكافئة"دسمة"في حياتي
سامي عبد الحميد، ولد ليكون رجل مسرح ولكن على نحو عاصف. وملحاح ومثابر، عام 1994 كاد الحظ ان يقف الى جانبي حين اختار سامي عبد الحميد نص مسرحي كتبته بعنوان دون كيشوت في بغداد، ليقدمه للفرقة القومية للتمثيل، وقد وقع الاختيار على محمود ابو العباس ليؤدي دور دون كيشوت وناصر طه ليؤدي دور سانشو وحكيم جاسم ليؤدي دور الملك واياد راضي ليؤدي دور المؤلف سيرفانتيس وسها سالم لاداء شخصية دولسينا، كان هؤلاء السحرة يشكلون ظاهرة لن تتكرر في المسرح العراقي، ولان ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد وقفت ظروف عدة ضد تقديم العمل كان منها رفض الفرقة القومية اجازة النص بسبب ايحاءاته السياسية.
ذكريات كثيرة جمعتني مع المعلم خلال اكثر من 35 سنة توزعت بين كلية الفنون الجميلة ومسرح بغداد وعملنا في لجنة المسرح العراقي سوية، وكان اخرها اداءه لشخصية غائب طعمة فرمان في مسرحية عودة غائب التي كتبتها عام 2007 واخرجها حيدر منعثر.
كان تشيخوف يقول لصديقه غوركي وهما يغادران مزرعة إيسيانا بوليانا : لماذا تعتقد ان تولستوي يمتدح ما نكتب؟ يضحك غوركي وهو يقول: لانه ينظر الينا كأطفال، كل ما كتبناه لعب اطفال بالنسبة اليه»..في كل مرة اذهب فيها الى بيت سامي عبد الحميد، اسال نفسي لماذا يعاملني هذا العملاق كزميل له، لاكتشف ان الكبار دائما ما يعطفون على مقلديهم في الحياة.
رحل المعلم بعد ان اضاء حياتنا بالحب والفن والابداع.