شيء عن مجلس الاعمار.. عندما اصبح العراق ورشة عمل كبيرة

شيء عن مجلس الاعمار.. عندما اصبح العراق ورشة عمل كبيرة

هشام المدفعي
كانت عائدات وموازنة الحكومة العراقية قبل تأسيس مجلس الاعمار سنة 1952 , لا تتجاوز ( 7 ) ملايين دينار سنوياً . تخصص منها مبالغ لأعمال التشييد كالطرق والمباني الرئيسية وصيانة وتشغيل ما موجود منها . لم تكن هذه المبالغ تسد الحد الادنى من ما هو مطلوب لمواكبة تلك الاعمال ومتطلبات الادامة والصيانة ومواكبة متطلبات النمو السكاني , اضافة الى سد العجز الناجم من التخلف الموروث عبر السنين .

بعد ثورة مصدق في ايران وتهديدات الحكومة الايرانية لشركات النفط بالتأميم , وقرار تلك الشركات بنقل مصفى النفط من مدينة عبدان الى قرب مدينة عدن في اليمن , دخلت الحكومة العراقية بمفاوضات مع شركات النفط العاملة بالعراق على تعديل حصتها من عائدات النفط . ونجحت الحكومة العراقية آنذاك في الاتفاق مع شركات النفط على زيادة حصة العراق من تلك العائدات حتى بلغ حجم العائدات المتوقعة في سنة 1952 نحو 50 مليون ديناراً .
كانت موارد النفط المصدر الرئيس والاكبر للدولة العراقية ، منذ ان تم الاتفاق مع شركات النفط للعمل في العراق ، مقابل حصة معينة من الارباح تعطى للعراق . وقد استمرت المفاوضات بين الحكومة العراقية وشركات النفط ، لتحسين العوائد النفطية ، ولهذا الموضوع تاريخ حافل ، يعرفه الكثيرون ، غير ان عقد الخمسينات شهد تطورا كبيرا في هذا الموضوع الحيوي .
عندما تشكلت وزارة توفيق السويدي في شباط 1950 ، كان من منهاجها السعي لجعل امتيازات النفط الممنوحة للشركات الاجنبية ، اكثر فائدة للبلاد مما هي عليه ،والاهتمام بتأسيس مجلس للإعمار يمول من موارد النفط ، ويقوم بأعمال الاعمار الكبيرة . وهكذا شرّعت الوزارة السويدية قانون مجلس الاعمار رقم 23 لسنة 1950 . وشرَعت باجراء المفاوضات مع شركات النفط ، واستطاع الوفد المفاوض حمل شركة نفط العراق التي لها حصة الاسد في الامتيازات على قبول دفع الحد الاعلى المقترح من قبل العراق والسعي لزيادة الحد الادنى لكميات النفط المصدرة . ورغم هذا التطور فان واردات العراق من النفط ، لم تكن من الضخامة ما يسمح بالقيام باعمال اعمارية كبيرة . وفي ايلول 1950 تسلم نوري السعيد مقاليد الحكم ، فعقدت وزارته مع شركات النفط الاجنبية اتفاقية جديدة في الثالث من شباط 1952 ، قدرت بموجبها ايرادات النفط بما لايقل عن ( 50) خمسين مليون دينار سنويا ، واسرعت الى تعديل قانون مجلس الاعمار واصدار القانون رقم 6 لسنة 1952 ، خصَصت به (70%) سبعين بالمائة من صافي هذه الايرادات لميزانية الاعمار .
ووضعت منهاجاً حافلاً لخمس سنوات ، يتضمن تنفيذ مشاريع تنموية كبيرة. واصدرت القانون رقم 25 لسنة 1952 خصصت بموجبه مبلغاً قدره 155مليون و374 الف دينارلتنفيذ المنهاج العام . وبعد ذلك تشكلت وزارة الاعمار بموجب قانون رقم (27) لسنة 1953 . ووضع اول منهاج استثماري للسنوات 1955-1959 وخصص فيه مبلغ (303,306) مليون دينار لتنفيذ مشاريع المنهاج المذكور.
لمعرفة زملائي المهندسين اعيد تقديم المنهاج الاستثماري لتقديم فكرة عن ما خططه المجلس لإعمار العراق خلال السنوات الخمس الاولى، وهذا يعتبر مباشرة بالمشاريع الرئيسية كمنهاج لحين الانجاز ، وهي خطة محكمة منها يستدل على جدية العمل على تحقيق الهدف وتحقيق متطلبات الاعمار.
العراق ورشة عمل كبيرة
تكونت وزارة الاعمار لتكون مسؤولة عن دعم مجلس الاعمار ، وتمثيل مجلس الاعمار في مجلس الوزراء وتعكس جميع متطلبات الحكومة وتوجيهاتها الى المجلس .
يرأس مجلس الاعمار مسؤول رفيع المستوى بدرجة رئيس وزراء ، وله صلاحيات واسعة في تنفيذ المنهاج وتحقيق اعمار العراق ، أما أعضاء مجلس الاعمار فهم من الوزراء المعنيين بالتنمية والاعمار يساعدهم رؤساء هيئات المجلس وخبراؤه ، كما يكون من اعضاء المجلس عدد من الخبراء الكبار العالميين ذوي الاختصاص .
أما مجلس الاعمار فتكون من هيئات متخصصة تحوي كل منها الاعداد والاختصاصات المطلوبة من المهندسين والكوادر الساندة والخبراء العالميين المطلوبين لتحقيق المنهاج وهذه الهيئات التنفيذية تعادل مديريات عامة ، يرأس الواحدة منها مدير عام متخصص وهي:
• الهيئة الاولى مسؤولة عن مشاريع والري والبزل .
• الهيئة الثانية مسؤولة عن الابنية والطرق والجسور والمصايف والسياحة .
• الهيئة الثالثة مسؤولة عن الصناعة والكهرباء .
• والرابعة عن الزراعة .
• والخامسة مسؤولة عن تخطيط وتنفيذ مشاريع الاسكان .

بتكوين مجلس ووزارة الاعمار , وإقرار المشاريع الانمائية الجديدة للطرق والجسور والمباني والصناعة والكهرباء توسعت آفاق عمل المهندس العراقي وبدأت وزارة الاعمار تدعو المهندسين العالميين لوضع التصاميم ، والمهندسين العراقيين للالتحاق بالوزارة والهيئات العائدة لها للمساهمة في تنفيذ تلك المشاريع .
والطريف في بداية الامر ، ان الكثيرين اعتقدوا ان الامر ضربٌ من الخيال ، وان هذه الارقام والمشاريع المقترحة لم تكن سوى وهم من الاوهام . ولكن ما ان بدأت الحكومة العراقية بتسلم ايرادات النفط المتفق عليها ، حتى انقلب الخيال الى حقيقة شاخصة . وبدأ التغيير الحقيقي في احوال العراق الاقتصادية والاجتماعية . واخذت الشركات العالمية تتنافس بقوة للحصول على فرص العمل في العراق ، ولا سيما مع مجلس الاعمار الذي اخذ على عاتقه قيادة النهضة العمرانية في العراق .
بتأسيس مجلس الاعمار ووزارة الاعمار ، بهيئاته المتخصصة لكل نشاط تنموي ، توسعت آفاق عمل المهندسين العراقيين . والتحق المهندسون العراقيون بكثرة بهيئاتها ، للمساهمة في تنفيذ تلك المشاريع . وقد حددت الحكومة العراقية الافضلية للمشاريع الانشائية ، وفق حاجة البلد الفعلية لها ... وكانت سنة 1957 قد شهدت الثمرات الاولى للسياسة الإعمارية الجبارة التي وضعت اسسها الراسخة .
امتدت اذرع العمران الى مختلف انحاء العراق ، واخذت الايدي العاملة العراقية المعنية بقطاع التشييد ، بالعمل بشكل كامل في مختلف المشاريع العمرانية . ظهرت الحاجة الى أيدٍ عاملة متخصصة اكثر في البناء والاعمار ، مما فتح باب الهجرة للعمالة المتخصصة للعمل في العراق ، ولمختلف صنوف قطاع التشييد .وهاجرت أسر كاملة من مختلف انحاء العراق ، ولاسيما من المناطق الجنوبية الى المدن ومراكز العمل . واصبح الامر واضحاً ببغداد التي ازدادت معدلات الهجرة اليها بسبب كثافة الاعمال العمرانية فيها . وهنا لابد من الاشارة الى ان السلطات لم تقم باي عمل تنظيمي لهذه الهجرة الواسعة ، مما كان له تأثير سلبي على ديمغرافية المدن وتقاليدها بمرور الزمن ، كما لا يخفى على الجميع . كما هاجر الآلاف من العمال العرب الى العراق من الاردن وسوريا وفلسطين طلبا للعمل .ودخلت تقنيات جديدة في مختلف الاختصاصات ، وتدرب العديد من القوى العاملة العراقية مع الشركات العالمية والعربية ، مما ساعد في استمرار اعمال البناء التي لم يكن باستطاعة المقاول المحلي من القيام بها ، لا من الناحية الادارية ، ولا من الناحية الفنية .
وفي قطاع البناء دخلت تقنيات جديدة في أعمال لصناعة المواد الانشائية كالسقوف مسبقة الصنع والبلاط بأنواعه للأرضيات وفنون النجارة والاعمال الحديدية والفنية كل ذلك عدا التقنيات الجديدة في المشاريع العملاقة كالسدود. وازاء هذا انتقل عددٌ من المقاولين العالميين والعرب الى العراق وأسسوا لهم مكاتب وشركات في بغداد.