كيف تأسست مكتبة الخلاني العامة؟

كيف تأسست مكتبة الخلاني العامة؟

ناجي جواد الساعاتي
منذ عشرين عاما او تزيد، كنا نخبة من الاصدقاء نتفاعل مع احداث البلد وحاجاته الكثيرة كما يتفاعل ابناء جيلنا المتحمس لتلك الحاجات والمتحمس للنهوض ببعض اعبائه فكلنا يدرك جيدا ما خلفته الحرب العالمية الاولى من تخلف في شتى مناحي الحياة، وما جلبته الحرب العالمية الثانية من مصائب وويلات، فسحقت بلادنا جيوش المتطاحنين الطامعين بخيراتنا والساعين للتمركز فيها عسكريا لاهمية استراتيجيتها حين اتخذت من العراق جسرا لتحقيق رغباتها وغاباتها،

وتركت مشاكلنا التي لا تعنيها ولا نصطدم بمصالحها عرجاء شوهاء، فالامية المتفشية في مدننا وكذلك الجهل والمرض المطبق في قرانا، كان كل ذلك يمس مسا من بعيد على سبيل المجاملة، وتقضي له الحلول النصفية لا الجذرية.
ولما انفرجت عن البشرية جمعاء اكبر ازمة عالمية باعلان نهاية الحرب الكونية الثانية وبعودة الحياة الى غايتها الانسانية وسيرها في مجراها الطبيعي، وتحقق ذلك الحدث السعيد عام 1945، قر قرار تلك النخبة من الاصدقاء ان تقوم بخدمة عامة مفيدة وهل هناك كالتعليم ونشر الثقافة من خدمة يحتاجها بلدنا الغارق في الجهل؟ فاقترحنا ان ندعو لتدريس الاميين من ابناء جارتنا، وراينا في – جامع الخلاني – خير مقر، وفي علاقتنا بالسيد محمد الحيدري خير مجيب، لما نعهد، في شخصه الكريم من مميزات فلما توافرت لامثاله من علماء الدين، من عقلية متحررة، وصدق في العزيمة ورغبة خالصة في الخدمة العامة.. وكان السيد الحيدري – حفظه الله – عند حسن ظننا فقد قدم لنا غرفة في طرف من اطراف الجامع، ورحنا ننشر دعوتنا وسرعان ما توافد الرجال من اصحاب المصالح والحرف، الذين لم تسمح لهم اعمالهم المضنية بتوفير فرصة للدرس والتعلم، على المواظبة، وتلقفوا دروسنا الاولية بشوق ولهفة، واصغوا بادب ورغبة.
وكانت ومضة مشرقة من السيد الحيدري حيثما انار ندوتنا ذات مساء من العام نفسه، واعرب عن امنيته الكريمة الكبيرة في نشر الثقافة وتركيز دعائمها، معولا في ذلك على شحذ همم الشباب وجمع شمل الخيرين الساعين لبذل المال والجهد لاسعاد الاخرين، ثم راح السيد الحيدري يشرح لنا فكرته النيرة في بذل الجهود المتظافرة لجمع الكتب من البيوت الكريمة، والمال من الايادي المحسنة الرحيمة لتأسيس – مكتبة الخلاني العامة – في هذا الجامع لتكون منارا لنشر الثقافة وكنزا لادخار جواهر المعرفة.
وما ان انهى السيد الكريم اقتراحه حتى اشرقت اسارير الحاضرين، وتدفقت تبرعاتهم باريحية عالية، وكان السيد الحيدري البادي بالفضل والجود حين تبرع بمكتبته وتبعه جل الاخوان في تلك الليلة المباركة، حيث وضعت اللبنة الاولى لتشييد – مكتبة الخلاني العامة - ، التي راح يؤازر الدعوة لها اكثر الاصدقاء والاخوان ويساندها جل الناس الاخيار، حتى ازدحمت الغرفة وغصت رفوفها بالكتب، فقد جمعنا خلال شهور قليلة ما لم نكن نتوقع جمعه خلال سنين طويلة، اذ كانت امنيتنا صغيرة وطموحنا محدودا.. ولكن المجتمع – اي مجتمع – يضم دوما بين جوانحه عددا من الطيبيين، والفكرة الطيبة لا تحتاج الا الى الخبرة والقيادة المخلصة لينساب ذلك المال الزلال، فتحيي الامال وتخضر الاماني.
فهذا السيد وائل السعيدي يهدي مكتبته الصغيرة في عددها الكبيرة في مغزاها. وذاك السيد يحيى الباجه جي تهزه اريحيته فيقدم مجموعة طيبة من كتبه ثم تسعفنا عائلة المرحوم المجاهد الكبير والوطني الحر محمد جعفر ابو التمن فتهدي مكتبته ذات الكتب النادرة والمظان القيمة. وبهذه الاريحية والتجارب الكريم تضاعف نشاطنا، وزاد بالخيرين ايماننا، والناس هم الناس في كل مكان تسحرهم الدعوة الخيرة، ويساندون العمل المجدي الذي تعود ثماره لصالح المجموع.. لقد غصت الغرفة بالكتب المنهالة من هنا وهناك، فوقعنا من امرنا في حيرة، واجتمعنا لحل ازمة الكتب المكدسة، فاشار علينا السيد الحيدري باشغال الارض الخربة التي تهدمت ولم يبق منها سوى بقايا جدار وكومة من تراب واحجار.. فدهشنا للاقتراح الضخم وكادت تقعد بنا همتنا عن تحقيق هذا الامر المحال، اذ من اين ناتي بالمال لتشييد القاعة والخزانة؟ والناس اصحاب المال والاعمال لا زالوا يقاسوم الأمرين من الظروف التي فرضتها سنو الحرب، كما ان ندرة المواد الانشائية وغلاءها الفاحش كندرة المواد الغذائية سواء بسواء.
ولكني اعود لنظرتي المتفائلة لطبيعة الاشياء واوكد على ما امنت به دوما من ان الروح الخيرة في الانسان تطغى على الشر، فالانسان اقرب للاصلاح منه للهدم وللفضيلة منه للرذيلة.. وبهذه الروح المتفائلة والايمان المطمئن عقدنا العزم على اكمال المشروع والسعي به قدما، وفي صباح الغد التالي عرضنا طلبنا على المرحوم المواطن الغيور السيد صادق البصام لنحصل تحويلا – بجسور الحديد – من لجنة التموين العليا.. ومنحنا التحويل، وجمعنا المال لشراء الحديد، وما هي الا بضعة ايام حتى طرحت كمية – الجسور الحديدية – في ساحة الخلاني، تستعطف الايدي الكريمة والسواعد المؤمنة لتتبرع برفعها عن الارض حيث مقرها على قاعة المكتبة وخزانتها.
ويجمل بي ان اوضح ما صاحب مشروعنا هذا من تلكؤ وتعثر واراني ملزما ان اشرح هذه الناحية بوضوح، فقد ظهر لي من هذه التجربة ان آفة المشاريع الخيرية العامة اهمالها، وذلك بانطفاء جذوة المتحمسين لتأسيسها، وبالاخير انفضاضهم من حولها، وعدم مدها بالمعونة التي تعهدوا مواصلتها.. اذ في بداية كل مشروع يتحمس له جمهور خير، وتندفع لمساندته نخبة طيبة، لذا فباعتقادي ان ذكاء المؤسسين يجب ان ينصب على استغلال هذه الطاقات الخيرة من هذا الحماس المتأجج وذاك الاندفاع المتدفق. والا ضاعت الفرصة اذا ما توالت الشهور والايام وتداولت الاعوام وشغل كل بمشاغله الخاصة التي تكفي وحدها لاذابة جهود الانسان.
وهذا ما حدث فعلا لمشروعنا ، لمكتبتنا الفتية، فقد انصرف كل منا لبناء حياته فشغلته همومه اليومية عن الهموم الاجتماعية ، ورحنا لانزور المكتبة الا لماما، ولا نسعى وحدها سعيا حثيثا، وانطفات جذوة حماسنا وتركنا المكتبة واعباءها على السيد محمد الحيدري وحده ولحلمه الواسع، وحسن تقديره لظروفنا، لم ينح باللائمة على احد منا، ولم يتخل عن مشروعنا، فصبر صبر المؤمنين، حتى كتب لمشروع المكتبة النجاح، ورأينا يوما كيف ترفع فيه – الجسور الحديدية – بهمم المتبرعين لتستقر فوق المكتبة لتحنو على روادها من المطالعين المتطلعين للمعرفة، ولتحافظ، على تراث انساني فكري ضخم في مختلف فنون الادب والعلم والمعرفة تجاوزت مظانه 26000 ستة وعشرين الف مجلدا.

مجلة (الكتاب) آب 1973