جبرا إبراهيم جبرا الراحل بين مكانين

جبرا إبراهيم جبرا الراحل بين مكانين

فاطمة المحسن
جبرا الذي ملأ الفضاء العراقي في الخمسينات والستينات، نجماً متألقاً من نجوم المجتمع الثقافي المخملي، كان يبدو مستقراً في المكان رغم اقتلاعه من موطنه الأول فلسطين. والمستقر الثقافي، على هذا النحو، هو المكوث في الأدب، باعتباره قيمة تتشكل من خلالها مواطنية الجدارة.

وفي مذكراته يقول جبرا انه سأل سائقاً دمشقياً عن بغداد قبل أن يذهب إليها نهاية الأربعينات، فأجابه : فيها 17 ملهى! وهذا الجواب لرجل بسيط كان أقرب الى لغز عليه أن يحل طلاسمه، فبغداد التي نظر إليها السائق من زاوية لهوها وعبثها، كانت في ترامي مساحاتها وتعدد صورها، مشروعا اختبر من خلاله جبرا مواهبه، كما اختبرته في صحبة عائلية أوصلته الى اكتساب الجنسية العراقية، فقد تزوج لميعة العسكري أبنه عائلة من الوزراء والضباط الكبار في العهد الملكي.

كان انتساب جبرا الى العراق في ذاكرة المثقفين الذين عاصروه وأتوا بعده، أقرب إلى البداهة، فلم تخطر ببال المجتمع الثقافي إشكالية ما في هويته، حتى بعد أن كتب روايته " البحث عن وليد مسعود" وبطلها الفلسطيني المهاجر.بيد ان الشاعر أحمد دحبور يرى ان " ثنائية العراقي الفلسطيني كانت تلازمه دراميا بما يتجاوز الفصام إلى عملية التوحد، فهو في العراق نجم المجتمع الناجح، المثقف المسيطر، ولكنه في الأعماق، ذلك الفلسطيني المسيحي الخليط من فلاح ومدني والمجروح وطنياً، إلى حد ان أصبح الجرح شخصياً". وأيا كانت القراءات السايكولوجية لهوية جبرا، فقد فضل المكوث في العراق رغم خراب أزمنته، وتوفي بعد رحيل رفيقة عمره بسنتين.
في العقود الأولى من مكوثه جبرا ببغداد، كانت العلاقة شبه مختلة بين شغف المثقف وتطلعه إلى التعبير عن صوت الفقراء ومشاكلهم، وبين البقاء في برج الثقافة العاجي الذي تشكلت على أساسه تجمعات ومنتديات الفن والأدب. ولعله بين كل هذا، لم يكن يوماً يعاني تناشزاً بين دورين، فهو لم يوهم نفسه منقذاً للجماهير،ولا معبراً عن طموحاتها، وحتى في كتاباته النقدية تجنب التورط في الآيديولوجي، مهملا في قراءاته للشعر والتشكيل، الخطاب السياسي المضمر في أعمال كثيرة، بل تجنب الخوض في شعر البياتي وسعدي، رغم انه كتب عن موجات الشعر واتجاهاته.
وفي العودة الى سجلات تلك الفترة، نجد تمايز خطاب جبرا عن كتاب الرواية العراقية، فبطل روايته " صيادون في شارع ضيق" يعلن اشمئزازاً من الجماهير التي تجوب شارع الرشيد في تظاهرات ضد الملكية والامبريالية. وعندما أصدر مجلة "العاملون في النفط" وهي المجلة التي تمولها شركة النفط البريطانية، لم تثنه مقاطعة الماركسيين للمجلة، وهم كثر في ذلك الوقت، بل استمرت تلك المقاطعة حتى بعد أن صارت تصدر عن شركة وطنية، ولكنها غدت مصدر رزق للأدباء الصعاليك الذين ما كانت المجلات والصحف تدفع لهم خبز يومهم، وكان سركون بولص واحداً منهم.
أين جبرا في زمن الاحتدامات العراقية، ماذا تبقى منه: وجه الغريب القادم من كمبردج،الفاقد وطنا للتو 1948، أم الاديب الذي لا يقيم كبير وزن لضوضاء السياسية وتهديداتها؟ كان جبرا يبحر كصياد في شارع ضيق، عنوان روايته التي وضعها بالانكليزية. ولكن بغداد كانت ملعبه، فهو أتاها زمن نهضتها الثانية، فوجد نفسه داخل مجتمع من التشكيليين والأدباء والباحثين الذين كانت الثقافة الانكلوسكسونية مرجعهم، أي انه لم يكن مغترباً عن هذا المجتمع الثقافي، كما كان الكثير من نجومه من العائدين مثله من دراسات في بلدان غربية، ووسط حركة أدبية رائدة تنظر إلى مشروع الثقافة على انه حالة حضارية ونهضوية.
لم يتعب جبرا إلا في زمن التردي الثقافي الذي اضطره ان يكتب عن اقصوصات تافهة سميت روايات الحرب، ويصوغ ميثيولوجيات متصنّعة عن صورة القائد الضرورة من خلال أبطال تاريخيين أكل الدهر عليهم وشرب.والمفارقة الأبرز كتابته رواية "عالم بلا خرائط" صحبة عبد الرحمن منيف صديقه الأقرب والممتنع عن زيارة العراق وقتذاك، والرواية تتحدث عن عالم القمع الهلامي.
هل اضطر جبرا الترّجل عن برجه العاجي؟ إشكال بين إشكالات الغربة والشيخوخة، ولكنه يبقى المعلم الذي رفد الحركة الثقافية العراقية بمصادر عززت اتجاهات المعرفة والبحث فيها، فقد صاحب الحركة التشكيلية والمعمارية العراقية ناقداً ومنظراً و مؤرخاً ومساهماً في تفعيل الجدل حول مدارس الفن العراقية،كما كان مشاركاً فاعلاً في المنتديات والتجمعات التي بدأت مطلع الأربعينات واستمرت في نشاطاتها اللافتة في الخمسينات وما بعدها.
ومن خلال كتاباته، قدم جبرا انتباهات ذكية ودقيقة لتشخيص مفاصل مهمة في حركة الشعر العراقي، وعلى وجه الخصوص في دراساته لشعر الجواهري والسياب، مازال النقاد يستهدون بها في العودة الى تلك الحقبة.
تلبّس جبرا دور العراب الثقافي في العراق عن جدارة، فكتاباته النقدية وترجماته عززت منحى البحث في ما تعنيه الأبعاد المختلفة للأبداع ،فعندما اكتشف شغف السياب بأسطورة تموز من خلال مجموعة من القصائد وفي المقدمة منها "إنشودة المطر" 1952، ترجم كتاب "الغضن الذهبي" لفريزر، ليكون لشعراء الأسطورة العرب مرجع يعودون اليه في البحث عن اشكالية الرمز ودلالاته، وكانت للأساطير الرافدينية حصة في كتاباته وترجماته.ولعل اسهامة جبرا في مجلة " شعر" اللبنانية، قد مكنته من اقناع صديقه بدر شاكر السياب حضور مؤتمر روما عن حرية الثقافة 1962، الذي أسهمت فيه سلمى الخضراء الجيوسي وأدونيس، ومجموعة " شعر" المعروفة،وحيث وقف فيه السياب وقفته المشهودة في نفض اليد عن تاريخ التزامه القديم، في خطاب شرح فيه كيف يرى حرية المثقف.
شغلت قضية المثقف ونخبويته كتابات جبرا، وهو بين الكتاب العرب الأوائل الذين تحدثوا عن مفهوم الاغتراب في الثقافة، فقد لاحظ ان اغتراب المثقف لا ينحصر في غيابه عن وطنه،بل قد يكون مغتربا في وطنه " وإذا كان الاغتراب بارزاً وأليماً بالغياب الجسدي عن الوطن، فهو قد يكون أشدّ بروزاً وألماً بالحضور الجسدي في الوطن نفسه.وإذا كان هذا ينطبق على العديد من المثقفين في أقطار العالم المختلفة، ما تقدّم منها وما تخلّف، فإنه ينطبق بصورة خاصة على العديد من المثقفين العرب في فترة من أصعب فترات التاريخ العربي، وأشدها تمزيقاً للنفس تحت الضغوط المتناقضة، سياسية كانت أم اجتماعية".
التقيت ابن جبرا سدير في معرض الكتاب اللبناني الأخيرة،ولفرط عراقية اللهجة والنبرة والشكل، خلته من المهاجرين الخارجين للتو، وعندما عرفني عليه النحات العراقي محمد غني حكمت، طرحت سؤالا واحداً : هل تفكر بتحويل بيت جبرا إلى متحف يقصده الناس؟ قال انه ينتظر أن تهدأ الاوضاع. ولم تهدأ الأوضاع.

سبق لهذه المادة ان نشرت
في صحيفة الحياة اللندنية