حين سألني جبرا: كيف  شمَّعت  الخيط؟

حين سألني جبرا: كيف شمَّعت الخيط؟

صلاح حسن
"شمعًت الخيط" بهذا المثل العراقي المشهور استقبلني جبرا ابراهيم جبرا حينما جئت أزوره في فندق القدس في عمان بعد فراق دام سنوات. يقال هذا المثل العراقي للناجي من بطش السلطات الجائرة مهما كانت. كنت قد فررت في العام 1992 بأعجوبة من أيدي المخابرات العراقية في ذلك الحين بمساعدة اشخاص لا أعرفهم،

حضروا من تلقاء أنفسهم إلى مقهى حسن عجمي وأخبروني بضرورة الهرب إلى أي مكان قبل حضور عسس الليل. المفارقة ليست هنا، ولكنها تكمن في الشخص الذي يستخدم هذا المثل. وحين يكون هذا الشخص جبرا ابراهيم جبرا فإن المفارقة ستتحول إلى موقف وقرار خطير.
كان ذلك قبل سنتين او ثلاث سنوات من وفاته ولو كنت أذكر جيدا، فالمناسبة كانت مهرجان جرش الثالث عشر. كنت مدعوا لقراءة نصوص للاطفال، وكان جبرا مدعوا إلى مؤتمر في لندن وينبغي عليه أن يمر على عمان لأنها كانت المنفذ الوحيد للعراق إلى الخارج. طلب لي فنجان قهوة وبدأنا نسترجع ذكريات قديمة عن بغداد وشارع الأميرات واتحاد الادباء وسألني عن المعجزة التي جعلتني أنجو من الكارثة (كيف شمعًت الخيط).
أخبرته بالقصة فهز رأسه في الهواء كأنه يعتذر عن سذاجة السؤال، وسألني إن كنت بحاجة إلى مساعدة مادية، ولكنه استدرك وقال إن لديه هدية لي سوف يحضرها في المساء اذا عدت إلى زيارته ليلا. كانت قنينة عصرية عادة ما يحرص القادم من العراق تقديمها كهدية إلى أصدقائه المنفيين الذين يعرفون مرارتها وطعم الطين فيها. في الصباح الذي تلا هذا اللقاء غادر جبرا إلى لندن ولم أره بعد ذلك ابدا.
تعود علاقتي بجبرا إلى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، وأول مرة التقيه بشكل مطول كان في دار المأمون للترجمة حيث كنت أعمل هناك مصححا لغويا. أخبرني أنه وجد لي بعض القصائد منشورة في صحف ومجلات متفرقة تصدر كلها خارج العراق الذي كان يخوض وقتها حربا عبثية مع ايران. كما أخبرني أيضا أنه يحتفظ بهذه الصحف والمجلات في بيته ويمكنني أن أزوره والحصول عليها. كنت سعيدا للغاية من سلوك هذا الرجل الذي كنت أنظر له بهيبة ووقار شديد.
بعد يومين كنت في بيته في حي المنصور الراقي في شارع الأميرات. بيت جبرا عبارة عن مكتبة كبيرة فالكتب تستقبلك أينما اتجهت حتى الممرات كانت تزدحم بجانبيها بكتب متعددة الأشكال واللغات. كنت مرتبكا قليلا وأنا اجلس على طرف الكرسي حين فاجأني جبرا بصحن أنيق فيه أنواع مختلفة من الشوكولا، وأظن أنها المرة الأولى التي أتناول فيها شوكولا حقيقية، فمن عادة جبرا أن يقتني الكثير من الحلويات الغربية عندما يكون في زيارة إلى أوروبا. تناولت قطعة وبدأت اقلبها في فمي لطعمها المذهل قبل أن أزدردها وتناولت أخرى مثل طفل محروم يشجعني جبرا بتناول المزيد غير أني توقفت. بعد قليل ذهب جبرا إلى المطبخ وأحضر شايا مثلجا وقال لي جرب هذا. كنت مندهشا بقدر ما كنت فرحا بهذه الاكتشافات الجديدة (شوكولا وشاي مثلج) وفي بيت جبرا ابراهيم جبرا الذي أحضر لي قصائدي المنشورة في الخارج! أي نوع من الرجال هذا الشخص؟
لم أكن أتكلم كثيرا وقد شعر جبرا بقلقي فقام وأحضر الصحف ومجلة كبيرة هي مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس وقد نشرت لي قصيدة طويلة أخذت صفحة كاملة من المجلة. كنت أتمنى أن أسمع من جبرا رأيه فيما اكتب وكدت أهم بسؤاله ولكني تراجعت في اللحظة الاخيرة. لقد كنت في الخامسة والعشرين.
خرجت من بيته وأنا أكاد أطير من الفرح، ليس بسبب القصائد المنشورة في الخارج فقط ولكن لاهتمام جبرا الملحوظ بي هذا الرجل الذي كنت أنظر إليه بوصفه شخصا يعرف كل شيء عن الأدب والفن والترجمة اضافة إلى إبداعه في هذه المجالات كلها. قبل أن اخرج أعطاني رقم هاتفه وقال إنه يمكنني أن اتصل في أي وقت اشاء. عندما كان يقال لي أن جبرا في الخارج كنت انتظر بفارغ الصبر عودته محملا بعدد من الصحف والمجلات الجديدة التي كنا محرومين منها في العراق، إضافة الى الشوكولا والشاي المثلج طبعا.
البعض من المثقفين العراقيين كان يعتقد أن جبرا كان مستفيدا من نظام الدكتاتور صدام حسين نظرا للمكانة التي يتمتع بها والامتيازات المادية التي يحصل عليها، ولكنني شخصيا أعتقد أن نظام الدكتاتور كان هو المستفيد من وجود جبرا في العراق، فلا أحد يستطيع أن ينكر اسهامات جبرا الكثيرة في مختلف المجالات الأدبية والفنية. لقد كان وجود جبرا بيننا محرضا بحد ذاته، وعندما يقول شخص مثله وبفم مملوء لشخص هارب من جحيم القتلة (كيف شمعًت الخيط)؟ الحمد لله أنك استطعت الهرب، يعني ذلك أن جبرا كان معنا وليس ضدنا ابدا.