اذاعة بغداد في يومها الاول

اذاعة بغداد في يومها الاول

سندس حسين علي
كان من المقرر أن يبدأ البث من محطة الإذاعة المؤقتة في آذار 1936، إلا أنَّ لجنة تنظيم منهاج الإذاعات اللاسلكية واجهت صعوبات عدة حالت دون ذلك منها: صعوبة إيجاد الخطباء، والموسيقيين، والشعراء، والمطربين، واختيار المحاضرين. والعامل المهم في التأخر هو عدم إكتمال الإعمال البنائية خلال الـ (45) يوماً، وتأخرها حال دون افتتاحها فتم تمديد انجاز العمل إلى آيار 1936، إما السبب الحقيقي بعدم إنجاز المحطة،

هولأنها صبت كل اهتمامها بمشروع الإذاعة الكبرى الذي كان من المقرر إن يبدأ العمل به بعد إن تمت تهيئة كل السبل لانجازه، غير انه حتى مشروع الإذاعة الكبرى تم تأجيله, لعدم وجود مخصصات في الميزانية الاعتيادية لتدارك نفقات المشروع.
نتيجة لذلك أوصت وزارة الاقتصاد والمواصلات إلى وزارة المالية برصد الاعتمادات المقتضية على السنة المالية 1937، في ميزانية البريد والبرق الاعتيادية تحت فصل خاص بالمشروع. وبعد إن تم انجاز بناء دار الإذاعة العراقية, انحلت تلك اللجنة، وتشكلت لجنة إدارية أخرى، مهمتها دراسة ما تتطلبه الإذاعة.
قررت وزارة الاقتصاد والمواصلات أستناداً إلى موافقة لجنة الإذاعة اللاسلكية العراقية على أن يتولى يونس بحري أدارة محطة (الإذاعة اللاسلكية العراقية) ، وفؤاد جميل سكرتيرا للإذاعة العراقية، كما استوردت الحكومة العراقية عام 1936 مرسلة أخرى من بريطانيا، لتأمين مخابرات (الطيران المدني)، إلا أنها استعملت للبث التجريبي في الإذاعة اللاسلكية.الذي تقرر إن يكون موعده يوم الأربعاء العاشر من حزيران 1936، بعد اكتمال نصب الأجهزة والمعدات الخاصة بالإذاعة بعد نجاح (التجربة النهائية ) وقررت اللجنة أنْ يكون البث في الأول من تموز 1936، وكذلك قررت أنْ يكون البث وبنحو مبدئي لمدة(6) مرات في الشهر.
بعد إكتمال نصب الأجهزة والمعدات الخاصة بالإذاعة, أفتتحت إذاعة بغداد بنحو تجريبي يوم الأربعاء المصادف الأول من تموز 1936. بحضور رئيس الوزراء ياسين الهاشمي ووزير المعارف صادق البصام.
وبسبب شدة الحر, تم اقامة حفلة الافتتاح بعد غروب الشمس لذلك اليوم . احتشدت الجماهيررغم أرتفاع درجات الحرارة، في المقاهي والمحلات العامة التي نصبت فيها أجهزة الراديو للإستماع والإطلاع, بعضهم لم يكن مصدقاً أن ذلك الصندوق الخشبي الأنيق الذي ضم بضعة أزرار عاجية ولوحة زجاجية مستطيلة تشع بلون أخضر باهت يتحرك فيها مؤشر نحيف يمكن أن ينطق بمجرد تحريك ذلك المؤشر فيأتيك بأنباء الدنيا، وهم يصغون الى صوت الإذاعة ينبعث من مذياعهم وبنحوٍ رسمي لأول مرة في العراق, وسادت الجماهير نشوة فرح غامرة بميلاد شيء جديد في حياتهم مثلما حدث، يوم دخلت الكهرباء مدينة بغداد بعد ظلام القرون, وقدعد ذلك اليوم يوماً تأريخياً في حياتهم وكم كانت فرحتهم, وهم يستمعون الى صوت البلبل (بلبل الإذاعة). وهو إشارة المحطة وبصوت يقول (هنا... بغداد).
وبلبل الاذاعة عبارة عن تمثال برونزي صغير ذهبي, موضوع في قفص يدار بواسطة عتلة صغيرة فينبعث منه صوت البلبل وهو يعمل بثلاث سرعات, وهي السرعة البطيئة, والمتوسطة والسريعة وذلك الجهاز هدية من الممثلية اليابانية في بغداد ، في حين يذكر حافظ القباني:
((ان ذلك البلبل دخل مع زميل له الى بغداد في سوق او مخازن التاجر العراقي المعروف حسو اخوان الواقع في شارع الرشيد, اشترت الفنانة عفيفة اسكندر البلبل الثاني فيما اشترت الاذاعة العراقية البلبل الاول, والذي استلم واجبه التغريدي بعد مرور شهر على تاسيس الاذاعة، وعاش عنصر طرائف وحكايات بين العاملين في الاذاعة. وحماية لذلك التغريد الجميل، قام احد الفنيين بتسجيل التغريد على شريط خاص, هو الاساس الذي ينقل عنه التغريد كلما تعرض شريط للتلف)). كان صوت البلبل منذ ذلك اليوم يسمع كل يوم من دار اذاعة بغداد في الساعة السابعة صباحاً.
قام المشرفون على الإحتفال, بتزيين واجهة البناية بسعف النخيل الذي إمتد على مسافة طويلة ولحرص المشرفين على إسماع أكبر عدد من المواطنين الى الإذاعة, جلبت ووضعت أجهزة (الراديو), في الساحات والمقاهي المجاورة لسماع البرنامج الاول لافتتاح الاذاعة. وفي ادناه جدولاً للبث الرسمي المنتظم للاذاعة بعد نجاح البث التجريبي.


دقيقة ساعة المادة
10 8 مساءاً تلاوة القران الكريم للمقرىء عبد العزيز الخياط
40 8 مساءاً نشرة الأخبار الداخلية والخارجية والتجارية المهمة قدمها
ابراهيم حلمي العمر وكيل مدير الدعاية والنشر
00 9 مساءاً عزف على آلة الكمنجة للموسيقار العراقي صالح الكويتي
25 9 مساءاً محاضرة مكافحة الامراض الشائعة في العراق للدكتور خليل المصفى
40 9 مساءاً اسطوانة عراقية, سورية, تركية
00 10 مساءاً جوق المطربة سليمة باشا
00 11 مساءا الختام بالسلام الملكي

قرأ وكيل مدير الدعاية والنشر السيد ابراهيم حلمي العمر النشرة الاخبارية الاولى لعدم وجود من يشغل وظيفة مذيع, ثم القى وزير المعارف انذاك محمد صادق البصام، كلمة الافتتاح التي أشار فيها الى أهمية الاذاعة ودورها في رفع المستوى الثقافي للشعب العراقي, وأشار الى الجهود التي بذلت لانجازها, و سلط فيها الضوء على الجهود التي بذلتها اللجنة العليا وفروعها لتنظيم شؤون الاذاعة, والتجارب التي قامت بها, لإخراج البث الإذاعي الى حيز الوجود. وعدت تلك الخطبة أول وثيقة بينت السياسة الإذاعية في العراق, واضاف ان امله ان يكون ذلك المشروع:
((مقدمة عهد جديد في ثقافته العامة وأنﹾ يكون خير وسيلة لإبراز المواهب بالقاء ماتجود به القرائح وتفيض به النفوس, وعرض مايمكن عرضه من صور الحياة الحقة التي تعمل في اثارة الشعور, وبث روح الطموح, وتمجيد أعمال البر بالوطن, والتفاني في خدمة الجميع...أما كون المحطة الحالية (داخلية) في الوقت الحاضر فلا يعني انها ستبقى كذلك فنحن ننظر اليها كنواة للمحطة الكبيرة التي رصدت المبالغ لتشييدها تحت إشراف وزارة المعارف)).
لما كانت الحكومة العراقية شاعرة بلزوم رفع المستوى العلمي للشعب العراقي كي يتبوء مكانته من الناحية الثقافية, إذ بذلت كل مافي وسعها من الجهود لتأدية ما عليها من فروض وطنية في ذلك المضمار, وما الإذاعة اللاسلكية الا أحدى الوسائل التي تأمل أن تكون محققة للهدف الذي توخته الحكومة من ذلك التأسيس كمدرسة في أستطاعتها أفهام جمهور الشعب كل ما يتعلق بشؤونه الثقافية والاجتماعية. ومن ذلك يتضحان الهدف الأول للإذاعة هو تنوير الأفكار وخلق وعي فكري، والمساعدة على تطوير المجتمع وتسليحه بالثقافة التي حرم منها الكثيرين على مقاعد الدراسة،كذلك بث الاخلاق السامية من خلال الإستماع الى القران الكريم.
ألقى الشاعرعبد الرحمن البنا في حفلة الإفتتاح قصيدة من محطة الاذاعة العراقية بتلك المناسبة. نذكر بعض الابيات منها:
تناول أصداء الكلام مقلدا
ورجع مايتلى عليه ورددا
أطل على الأفواه يخطف كل
مانقول فيلقى ماتخطف كالصدى

أخف من الوهم الدقيق على النهى
وأسرع من البرق الجنوح إذا بدا

يبث على الأسماع منه إذاعة
فلا لامست عينا ولاصافحت يدا

ولكنها جاءت من الفن آية
بقرب لاسلكيهاماتبعدا

أرتبطت الاذاعة العراقية منذ أفتتاحها بوزارة الاقتصاد والمواصلات مالياً، بعد أنْ أمر رئيس الوزراء, ياسين الهاشمي, بترك أمور تعيين موظفي الاذاعة لتلك الوزارة كما تم احتساب مصروفات الاذاعة بما في ذلك كلفة الملاك وأجور المحاضرين مع المصروفات الأخرى على أن تتخذ الاجراءات اللازمة لرصد الاعتمادات المقتضية للسنين القادمة في ميزانية البريد والبرق الاعتيادية.

عن رسالة ( توجهات الاذاعة العراقية الوطنية 1936-1958)