خواطر حرب على حرب

خواطر حرب على حرب

كامل شياع
أني أعرف الحرب فهي التي إختطفت ولدي وكل تلك الأمهات عِرفنها .. ألسن وحدهن في زمن الحروب الكبيرة والصغيرة اللائي تجتمع فيهن حللاَ من السواد مآسي الحروب؟ ، فللرجال فقط بساطة الموت اللا إرادي المفروض !، ونحن عرفناها في عراقنا تضرب الدمار في أوصال شعبنا الطيّب،
عرفناها بالملموس حتى كلفتنا تلك المعرفة دماً نازفاً من العروق ومن الضمائر.

عرفنا معنى أن يموت الرجال دون ثواب.. بصمت يشبه التسليم بالإنتحار!
وعرفنا انها آيلة للجحيم تلك الدعوات التي أحيت فينا حماقات جاهلية
بينما لم تخلف على الأرض سوى الموت من دون حصر.
عرفنا ان قلب الأم أصدق.. وليستنفذ بعد ذلك كل المتقوّلين والمداحين والفصحاء والأدعياء القوميين قاموس اللغة ما إستطاعوا ليبرروا حالة موت واحدة او ليسقطوا عنها مسؤولية فاعليها ..
عرفنا ان يوم العقاب آتٍ وسيكون واضحاً بوضوح الجريمة،
عرفنا ولم نزل نحرض ضد مشعليها بلسانٍ تيبس من القمع والحنين وجور المنافي،
فهل أنتهى الأمر أو تعادل:
فعل شائن بقول شريف؟
لكننا نلقي أصواتنا لآفاق أبعد
حيث تمتد خطى شرفاء الناس ومحبي الحياة أبداً،
وحيث الإنحياز لأجل السلام يعني الفعل لأجل السلام،
وحيث رفض الحرب يعني العمل لإلغاء أسباب الحرب،
وحيث تستبدل نهاية أعمار الناس قبل الآوان باستقبال ولادات جديدة
وحيث كل الطيبين هم جسد واحد او ضحية واحدة مادامت الفاشية تتناسخ بربريتها في مسوخ تتولى …
الحروب من صدّرها لنا ؟ من أذكاها فينا؟
الأم تعرف والضحايا والشهود وأصحاب القول الآخر.
************

إنها ذكرى البلاد التي سأبكيها غداً، تحضرني هذا المساء
البلاد التي تستعيرني قناعاً للموت ، وتستعيدني إليها بالحروب
البلاد التي يتداركها السياسيون بالغايات، أو التي تستباح
أي فصلٍ سيبدأ ؟
كأنّ آبائنا أسلافنا الغابرون ..
كأنّ هذا الحاضِرَ رسمناهُ مشهداً تدشنه المراثي
كأننا في حَربٍ إنتَهَت منذ ألفَ عام
كأنَّ العراق بوابة منفى
كأنَّ التاريخَ كانَ مُحتجِباً خَلفَ حماقة
وانت أيها الصغير المعتصِمْ بخِطأكَ
رُبّانَ الرّحلةَ التائهة.. أو لِسانَ الإرادة التي تقاضي جنون الاشياء
هل بَلَّغتَ رِسالتكَ الآن؟ هل عرفت مَن هوَ الأقوى فقط؟
اِنَّها ذكرى البلاد التي تَستَعيرُني …
مشهداً يحرقُ الذاكرة ومنفى يأتيني من كل الجّهات
****
آلهة الحرب مرّت من هنا فسلبتنا تراباً ورجالاً لن يستعادون
وأحيت فينا عصبيات قديمة وخلَّفتنا قرابيناً للوهم بأننا سنكون
الأقوى، قرابيناً تثقلنا أوسمة الحروب الخاسرة
او يصهرنا فراغ المعاني..
هل نحنُ ندفع ام ندافعْ ؟
ألقادة : إشترعوا حرباً.. سؤالاً مفتوحاً لمقدمات غائبة
ألقادة: وخمدوا في الجحيم، فلا يستوي الخراب الملموس بعدئذٍ والوعد الملموس
القادة: لايبصرون …
*********************

انها حربٌ معلنةٌ عليك، إنها حربُ بك
فأي مجدٍ تنتظر ؟
وأي العروش سيسنِدُ دمكَ يا أبن النائبات
للمرةِ الأخيرةِ فقط!
أنتم أيها المتأهبون الموتى احفظوا أسمائكم العزيزة
ووصاياكم فهي كل ما يبقى لنا …
وإسترجعوا ما لم تكونوه لمرَّةٍ واحدة .. وما كنتموه والخطى التي أوقفتكُمْ
عند هذه الميتة المريبة !
والخطى التي تفتحُ الجبهات والخطى التي تخطئُ الجهات ،
فأنتم شهود الآتي
أيها الاحياء المرتهنون أينَ القبور التي سنغفوا فيها صرعى؟
**********

لهذا الموكب الحربي المكللّ بالمنايا، لهذا الواجب التدميري
لهذه الإستباحة والهدر والإستهلاك المطلق للحياة
لهذا الموت
إفسحي أيها الجِهات الآفاق
لهذا البدءْ السالِف لهذا الإعصار الأخير
إخمدي أيتها البدايات .
مَن إصطفانا كي يعُلِنَ فينا وَصيةُ الخراب ْ ؟
*********************

فصولاً مِنَ الرماد قَد حاصرت ذلك َ المشهد القديم
فصولاً تتناهبُ الأمل
فلا تستدر للوراء وانتَ تعلَمُ أنَّ تاريخَ كلَ ألحروب
قد تُمليهِ عَليكَ حَرب واحدة
لا تنتظِرُ سقوطَ دَولةَ الخرابَ ألذهبي دولة ألحليفَ العَدُوْ
فبأسُ هذا الرأس ألصغير قَدْ أحرقَ جَسدُك النهري بنوايا ألفروسيَّة
أنتِ أيَتُها ألجهات إنفسِحي … وأَنتِ أيَّتها الجِهات إختَلِطي
***************************

قَليلاً…. قَليلاَ كَي نُوَدّعَ هذا ألموكِبَ ألأسوَد
كي نَدْفعَ هذِه ألأبديَّة التي لم نوعد بها
……
قُلْ أنَ حرباً بَدأت لأنَ حروباً عُطِلَتْ
قُلْ إن الحرب لن تكون خُدعة
وأنَ من يبشٍرَ بها غيرَ مَن يخوضَ فيها، وإنها لم تفضح طبقة بل شيّعَتها للقبرِ
قل أنَها سَتَصَنعُ أبطالاً يستحضرون مآثرهم وَحدَهُم ..
أو أنصاباَ لجنودٍ مجهولين
لكِن لكَ أيُّها البَعيد كم تمثِلُ الحرب حقّاً ؟
كيف ينبغي تمثيلها؟
****

الحرب العالمية الأولى ، الثانية ، حرب خليج الخنازير
حرب داحِس والغبراء، حرب فيتنام ، حرب بيروت ، الحروب الصليبية
حروبُّ دون صلبان ، حروبُّ للترقُبِ أو للحذر ،
حروبُّ نُعلِقها بالمعاهدات
حروب تحرِقُ الأوراق ، حروبٌّ تعلنُ السلام ، حروب تتفسَّخ
حروب … حروب … الحروب دائرة.

*************
لـ 4 شباط 1979
بقلم كامل.....

أذكر ظهيرة إستضاءت بأول هلال الغربة
أذكر أبواب المدينة حين أشرعت للسفلة
أذكر الوقفة المستريبة في أماكن عرفتنا
أذكر ساحة الميدان
أذكر ان القلب كان مترباً لكن لم أقل وداعاً
أذكر حاضراً مبهماً
أذكر منذ الطفولة كوى لم أفتحها لنفسي؛
أذن،
طوبى للثابت في الكائن:
وجه الأم ووجه المدينة....



عزيزي فيصل*،
تحية،

في يوم من صيف 1749، توجه جان جاك روسو لزيارة صديقه ديدرو، حيث كان محبوساً في مدينة «Vincennes» بسبب آراءه اللامهادنة للسلطات الدينية. وأثناء قراءته لصحيفة « Mercure de France» وجد إعلاناً عن مسابقة تنظمها جامعة «دي جون» لأفضل مقالة تحت عنوان «هل ان إحياء الفنون والعلوم قد يؤدي الى إفساد الأخلاق أم الى نقائها». كان لهذه الإعلان تاثيره العاصف على روسو، إذ إنتابته فجأة حالة من الإلهام تشبه الوحي. فما كان منه ان أوقف العربة ليجلس تحت ظل شجرة من أجل تفريغ شحنة إنفعالاته بكاءً. وحالما بلغ مدينة «Vincennes» أبلغ صديقه ديدور بما إعتراه وهو في طريقه إليه.. إقترح الأخير عليه ان يكتب ما يظنه جواباً شافياً لهذا السؤال. ورغم ان ديدرو لم يكن متفقاً مع آراء صديقه، إلا انه أعتبر آراءه (وهي باختصار تقول ان الفنون والعلوم تفسد أخلاق الناس أكثر من ان تحيّيها) كافية لإثارة النقاش لما فيها من جدّة وإبتعاد عن المألوف في المناخ الفكري والتنويري (العقلي) الذي كان سائداً في فرنسا قبل الثورة الفرنسية. وفعلاً فازت مقالة روسو بالجائزة الأولى في المسابقة وليصبح بعدها روسو مشهوراً.
ما يهمني الآن ليس سرد هذه القصة، وهي طريفة بذاتها، ولكن التذكير بان حالات مفاجئة تعتري النفس، مثل الرغبة بكتابة رسالة، كم هي عادية هذه الرغبة بالنظر ليوميتها المتناهية؟، قد تكشف عن حالات باهرة من الوضوح: إذ فجأة يبدو العالم متجانساً الى أقصى درجة «Homogeneous» متيحاً للكتابة شرطاً مثالياً للبناء خارج الفوضى واللاتجانس. ذلك ان الكتابة ليست مجرد رصف كلمات. والواقع ان كل فعل انساني، وليس الكتابة فقط، لا يعتمد الرصف البحت: أي وضع شئ بجانب شئ، لأنه يقوم على فكرة أبعد من التجميع...على فكرة مجازية. هل تظن ان بناء شارع، وهو يقوم على أساس فكرة رصف عناصر متشابهة: الحجارة او الكتل الكونكريتية، لا يستند إلا على أساس بناء شارع؟ طريق ملائم لسير العربات؟. كلا ان لبناء شارع دلالة مجازية أبعد من إستخدامه المباشر..صحيح ان أفضل الشوارع لا يمكنه ان يقود الى الجنة! ولكن الشارع بحد ذاته هو تنفيذ لفكرة نقيضة لما هو ليس بشارع...لما هو أدنى فنياً من ان يكون شارعاً...لكل سبيل لا يؤدي الى مكان. ومجازيته، أي الشارع، تكمن في تعزيزه فكرة لا يمكن ان تتجسد واقعياً بحذافيرها ولكنها جذابة الى أبعد حد وهي فكرة الحرية. لا أعلم بالضبط ان كانت فكرة الحرية الحقة تتماشى مع وجود شارع رحب، في ألمانيا الغربية يمكنك ان تسوق سيارتك بأي سرعة تجد نفسك قادراً عليها،...ولكن هذا ما يظهره لنا العالم المعاصر، في ألمانيا الشرقية يلاحظ الى جانب سوء نوعية الشوارع تأكيد متشدد على عدم السياقة بأكثر من 90 كم في الساعة.
ولهذا، فان كان وراء الشارع مجازاً ما (صورة آيديولوجية تستند على الكثير من الوهم) فكيف لا يمكن للغة ان تكون الأداة الأولى بدون منازع للمجاز. اللغة تشير الى شئ/ أشياء تبدأ حدوده/ا عندما تنتهي اللغة ذاتها. ولهذا فان اللغة تمسنا ليس باعتبارها مجموعة كلمات، بل مسالك وهمية نحو مواطن الرغبة، الشوق، الفهم والرؤية.
إذا لم يكن هناك عالم ساكن ومتجانس(ظاهرياً) لا يمكن الكلام.
إذا لم ينجح الكلام في قيادتنا نحو تحسس أنفسنا، فانه يصبح مجرد تسجيل أو استباق لما جرى وسيجري لا أكثر.
كم ضروري هو الكلام عندما نبلغ أنفسنا؟
وإذا كان ضرورياً فأي مستوى للكلام هو القابل للكتابة؟
* 24 تشرين الأول/أكتوبر 1989.