من تاريخ الحركة الثقافية في العراق..نادي القلم (1934 ــ 1958 ) ودوره الفكري

من تاريخ الحركة الثقافية في العراق..نادي القلم (1934 ــ 1958 ) ودوره الفكري

د .أياد يونس عريبي
حاول النظام الملكي الهيمنة على التحولات الاجتماعي، لكنه لم يتمكن من تحجيمها فالتطورات الاقتصادية والاجتماعية لنصف قرن، التي تسارعت تسارعا كبيراً في الخمسينيات أسهمت في التأكل التدريجي للبنية الاجتماعية التقليدية , وأوجدت مجموعات اجتماعية جديدة، كانت البنية الطبقية الجديدة تفتقر الى الأدوار المحددة بوضوح، الامر الذي ترك فراغاً اجتماعيا ملحوظا، لم تنبثق طبقة اجتماعية واقتصادية جديدة وقوية ومترابطة بما يكفي لتوجيه التحولات الى قنوات بناءة.

كان للتحول من حياة فكرية معتمدة على الدين والطائفة والعائلات التقليدية الى أخرى تأسست على القيم العلمانية والخبرة الفنية والتعليم تأثير عميق على المجتمع العراقيوشجعت التعليم العلماني مع التأكيد على العلوم والحديثة وتعليم النساء والتخلص من ظاهرتي الحجاب وتعدد الزوجات, كما ان النخب الجديدة ميزت نفسها عن مثيلاتها التركية بالسعي لإحياء ذاكرة تاريخية عراقية عربية معينةعن طريق التأكيد على التراث العربي , ومن الطبيعي ان هذه التحولات الاجتماعية والثقافية لم تحدث بليلة ويوم , وانما هي تحولات تراكمية بفعل قطع العراق شوطاً على طريق التقدم , وهذا ما ادى الى تبديد القيم والعادات البالية وبصورة تدريجية .
ترجع فكرة تأسيس هذا النادي الى عام 1933, اذ اجتمع عدد من المثقفين في دار الدكتور محمد فاضل الجمالي , وتذاكروا في انشائه , كفرع لنادي القلم العالمي المسمى P.E.N.CLUB)) وقد اختير لرئاسته الشاعر جميل صدقي الزهاوي والدكتور محمد فاضل الجمالي نائبا له, وقد اجيز هذا النادي من وزارة الداخلية في 14 تشرين الاول 1934اما غايته فكان يدعو الى تعارف المؤلفين وحملة الاقلام في العراق وبقية البلاد العربية , والعالم ومساعدة الباحثين وتقديم العون لهم , اما شروط القبول فيه فيقبل كل من له شخصية ادبية او علمية , وذلك بأن يقدم طلباً الى رئيس النادي على ان يزكيه اثنان من الاعضاء ويجري قبوله بعد تصويت مجلس النادي , اما مالية النادي فتتحصل من رسوم الاشتراكات الشهرية والتبرعات والاعانات كما اشار النظام الاساسي للنادي بانه لا دخل له بالسياسة.
لما لم يكن للنادي مقراً دائما له , كانت اجتماعاته تعقد في دار احد اعضائه , حيث كانت تلقى المحاضرات من قبل احد اعضائه , او احد المدعوين من الشخصيات العربية او الاجنبية ساهم يوسف غنيمة في نشاط النادي سواء بحضوره اجتماعات النادي او باستضافة اعضاء النادي او بألقاء محاضرة.
يعد تأسيس "نادي القلم" العراقي حدثا ثقافيا بارزا في النصف الاول من القرن العشرينلأنه أول منظمة ثقافية تمثل الادب الذي ظهرت مؤسساته فيما بعد باسم ( اتحاد الكتاب او الادباء ) وهو اقدم نادي قلم في منطقة الشرق الاوسط, وقد انشأ النادي صلات مع نوادي القلم الاخرى في العالم اذ ارسل النادي مجيد خدوري لحضور مؤتمر القلم العالمي في الارجنتين عام 1937 , كما حضر السيد عطا امين اجتماع نادي القلم في لندن بدعوة من المستر ه.ج ويلز (Mr. HG Wells) الكاتب الذائع الصيت.
وقد اصدر النادي مجموعة نفيسة ضمنها المحاضرات التي القيت في اجتماعاته الدورية وتقع هذه المجموعة في اكثر من ثلاثمائة صفحة , كما تنوعت موضوعاتها على سبيل المثال كتبت عن المجريطي امام فلاسفة الاندلس في الرياضيات والطبيعيات , كما تناولت المجموعة بحث بعنوان قصة فتح بغداد , وفي هذه المجموعة خلاصة وافية لأعمال المؤتمر الرابع عشر لأندية القلم , وقد عقد في بوينس ايرسبالأرجنتين (5-15 ايلول 1936).
انضم عدد كبير من النخبة العراقية الى هذا النادي , وممن انضم اليه هو انتخاب مير بصري عضواً فيه عام 1942 , وقد القى في احدى الجلسات ملحمته الشعرية ( نهاية الابطال ) وقد كان حاضراً مع الضيوف الاديب البريطاني اليك وو (WuAlaak) الذي كان يزور بغداد وقتذاك , فلخصها له باللغة الانكليزية اذ اثنى عليها الاخير كثيرا.
توقف نشاط هذا النادي بصدور مرسوم الجمعيات رقم 19 لعام 1954 , استأنف النادي نشاطهُ مجدداً بعد تجديد اجازته في الخامس من اذار عام 1956, وتولى الدكتور محمد فاضل الجمالي رئاسته وعضوية كل من توفيق وهبي وعبد الكريم الازري ورفائيل بطي وعبد المجيد محمود والدكتور احمد سوسة والدكتور جواد علي والدكتور عبد المجيد عباس, وقد استمر على النهج ذاته.
ونذكر هنا ان انتعاش الحركة الثقافية أسست علاقات اجتماعية كان لها إثر واضح بالتفاعل الخلاق بين الدولة ومثقفيها، فاطمأنت لهم واجيزت صحفهم واخذوا ينشرون العديد منالمقالات الأدبية والاجتماعية التي اتسمت موضوعاتها ومعالجتها بوعي ثقافي ملموس وعمق فكري محسوس، تجاوزت في أحيان غير قليلة اطارها الزمني والمكاني.
افرزت دراسة الإنتاج الثقافي ابان مدة ما بعد الحرب العالمية الثانية , وما يتضمنه من مؤلفات في السياسة والتاريخ، حركة فكرية نابضة بالحياة , كانت تنشئ ببدائل عن السياسة التسلطية التي هيمنت على الحياة العراقية السياسية , ولحسن الحظ أسس هذا الإنتاج الثقافي لذاكرة تاريخية يمكن للمثقفين العراقيين استلهامها من اجل الانتقال الى الديمقراطية.
شهدعقد الخمسينيات من القرن العشرين نهضة فكرية , وثقافية حددت معالم الطبقة الوسطى المتعلمة الجديدة بشكل ليس اقل مما فعلته العوامل الاجتماعية والاقتصادية فالأفكار والقيم الجديدة المستوردة في غالبيتها من الخارج، أحدثت تقاطعا مع الماضي واوجدت فجوة أجيال، فالطلبة العراقيون الذين انظموا الى المدارس في الثلاثينيات والاربعينيات برزوا في الخمسينيات بآراء وطموحات مختلفة تماما عن الجيل السابقفالأفكار الجديدة تقاطعت مع القيم التقليدية للنظام , واسهمت بإزعاج المؤسسة الحاكمة في اعوامها الأخيرة، وكانت مصدر العديد من المشاكل للنظام، وكون الآراء الجديدة هي الأكثر انتشارا والأكثر جهراً من قبل المعارضة، فقد كان لها اثر فاعل في صياغة رؤى الأنظمة الجديدة التي تلت الثورة.

عن رسالة ( الجمعيات الاجتماعية والدينية والفنية واثرها الثقافي في بغداد)