من ذكريات الادب الطريفة في الجيل الماضي.. هرّ الاب الكرملي وسنانير الجيران

من ذكريات الادب الطريفة في الجيل الماضي.. هرّ الاب الكرملي وسنانير الجيران

رفعة عبد الرزاق محمد
منذ سنوات فتوتي وانا مهتم بامر كتاب الحيوان للجاحظ فاجول بين صفحاته التي تقع في عقلي وقلبي موقعا محمودا ، فضلا عن تحقيقه المذهل الذي نهد اليه العلامة الاستاذ عبد السلام محمد هارون وهو من دخل التاريخ من اوسع ابوابه لما قدمه للمكتبة العربية خدمات جليلة .. فاجد في هذا الكتاب هنا وهناك من الطرائف والنوادر النفيسة الشيء الجزيل ، ومن ذلك حديث هذه النبذة الفريدة .

في ذيل الجزء الخامس من ( الحيوان) كتب المحقق الثبت هارون ان صديقه الاب انستاس ماري الكرملي في بغداد قد كتب اليه حول ما دعاه ( سنانير الجيران ) . يقول الكرملي : كان في بيتنا في سنة 1878 هرّ كثيف الشعر سميناه (مرجان) وكنا عودناه الا يأكل من اناء ايا كان ، بل من الارض فقط ، فكنا نشتري له طحال الغنم فيأكله لانه حريص عليه ، ونضعه في وعاء او قدر بين يديه ، فاذا حاول اخذه ضربناه ضربا موجعا . ولما كنا نضعه على الارض كنا نشجعه على اكله . وبعد ممارسات عدة اعتاد الامر . وكان يمنع جميع الهررة اصدقائه من الدنو من لحوم البيت او طعامه ، وكثيرا ما كان يجري حربا شديدة بينه وبين اصحابه ، حتى اننا كنا نرمي اللحم في الاوعية ،ونذهب الى خارج البيت ، تاركين تلك الانية بلا غطاء عمدا ، معتمدين على حمايته لها ، فما كان احد من السنانير يجسر على الدنو منه ، لان مرجانا كان هناك رقيبها الامين ، وكان بمنزلة (شرشير) في جهنم . وكان قد اعتاد هرنا هذا ان يتردد الى بيوت الجيران ، فاذا راى في احدها فراخ هرة اخذ منها كل يوم فرخا ،واتى به الى سطح الدار واكله ، ورايت ذلك ثلاثة ايام متواليات ، ثم تركت مراقبته . وفي شهر شباط ( فبراير ) من هذه السنة اي سنة 1942 رايت في دارنا هرا كبيرا ، كان ياتي بفرخ هرة جيراننا ، وياكله لا على سطح دارنا ، بل على سطح الدار التي يجد فيها الفراخ . ولهذا قالت العرب ــ على ما يبدو ــ ليهو ابرّ من هرة ، لانهم ينسبون الى الهرةّ لا الى الهرة اكل الفراخ ، مع ان الحقيقة التي لاريب فيها هي ان السنّور هو الاثيم .. وهذا معروف في ديار العراق كلها ، ولا يجهله احد . اما السبب فلا يعلم الى الان . والسلف يقول : ان القط تفعل ذلك برا باولادها ، اذن هذا معنى قول الجاحظ : وذكورة سنانير الجيران تأكل اولاد الهرة.
هذا ما ذكره الاب الكرملي من احوال هره المدعو (مرجان). وكان هرا اثيرا لدى صاحبه الاب العلامة ، وقد ذكرتني هذه العناية بهرة الدكتور شبلي شميل التي زانها تاريخ الشعرالعربي الحديث بقصيدة عصماء للشاعر طانيوس عبدة . وكانت هذه الهرة عزيزة على صاحبها ولها لحرية المطلقة في تصرفاتها . قال سليم سركيس : انها هرة بيضاء جميلة كان الفيلسوف شميل شديد العناية بها ولم يكن له اولاد فصرف عاطفته الى الهرة ، فاقترح على طانيوس عبدة نظم قصيدة فيها ، ومما قاله الشاعر :
بيضاء مثل القطن قد فتحت
اكمامه ملساء مثل الحرير
حتى اذا اقبل استاذنا
وانتدب الطاهي بعد الفطور
نطت الى احضانه واعتلت
من صدره عرشا كعرش الامير
يقول يا بنتي ولو مكنت
قلت له يا بابا الصوت الجهير
كم حولت اوراق ( داروينه)
الى فراش مستطيب وثير

ومن الطرائف ان اقترح الاستاذ رفائيل بطي في جريدته ( البلد) ليوم 21 اذار 1944 مطالبا احد الشعراء من تلامذة الكرملي او اصدقائه ان يخلد الامر كما خلدت هرة الدكتور شبلي شميل في ديوان طانيوس عبدة .
استجاب الدكتور مصطفى جواد للامر فنظم قصيدة عنوانها ( هرّ الاب الكرملي) نشرتها جريدة (البلاد) في 15 ايار 1944 ، منها :
(مرجان) وما يدريك ما مرجان
هر يهش لذكره الانسان
رباه نسطاس الاديب واهله
روعي لديه حديث (الحيوان)
فاق السنانير القديمة وابتغى
شرفا تقصر دونه الاخوان
في لبدة الاسد الهصور مدجج
واذا تجهم تصرف الاسنان
لم تبلغ الانمار بعض صفاته
ويقل عن فتكه السرحان
وابو الحصين بخبثه ومكره
فدم لديه وحظه النسيان
اعيا مربيه بكل جريــــــرة
تركت قدورهم تغني ( بانو)
من نصف قرن لم تزل اخباره
تحكىفيعقب ذكره احسان
لو ان جاحظنا تأخر عهده
لانضاف في حيوانه عنوان

ومن ملتقطاتي النادرة في مجموع شعري للمرحوم ابراهيم الواعظ ( كتب على الالة الطابعة سنة 1946 ) انه نظم بتاريخ 26 اذار 1944 قصيدة في هرّ الاب الكرملي ضمنها احواله التي ذكرها الكرملي في رسالته الى محقق كتاب الحيوان للجاحظ ، ومنها :
كان لانستاس فيما مضى
هر عظيم ماله من نظير
سماه مرجان بلا علية
تسمية المرء العليم الخبير
كثيف شعر الجسم مكثاره
فهو له مثل الفراش الوثير
يشبه ليثنا في تقاطيعه
لكنه من صرخة يستطير
ادبــــــــــه الاب بآدابه
وما غدا في امره يستشير
لا ياكل اللحم اذا ما راى
لحما طريا في فناء القدور
يسطو على الجيران في دارهم
وينشل الافراخ نشل المغير
يزدرد الفرخ ولا يرعوي
فيه ولا يخشى عذاب السعير
يجيره الاب ويحميه من الحوادث والاب نعم المجير
واذكر ايضا انه كان عند الشاعر الزهاوي في داره كلب اسود دعاه ( ولك) هو بمقام قطة الدكتور شميل البيضاء ( الادب العصري لرفائيل بطي ج1 ص 13 )
واعود الى قصيدة طانيوس عبدة عن هرة الدكتور شميل التي خلدها في ديوانه ( القاهرة 1925 ، جـ 1 ص 114) و منها :
الهرة البيضاء يا سادتي هرة مولانا الحكيم الكبير
والله لو خيرني خالقي حين يعيد الخلق يوم النشور
لاخترت ان يخلقني هرة اصحبه كالظل وقت الهجير
اصحب استاذي الى داره في ذلك اليوم الرهيب الاخير
........................ .........................
واخيرا لا ادري ماخاتمة هرّ الاب الكرملي ولعله لم يدرك وفاة صاحبه الراهب ، ثم مات ولم يعني احد بامره ولم يرثيه احد كما رثى شاعر الانكليز توماس غراي حبيبته الهرة التي غرقت في اناء السمك االذهبي .

وقال طانيوس عبدة في ديوانه ( القاهرة 1925 ، جـ 1 ص 114 ) مقطوعة عن هرة الدكتور شميل ، منها :
الهرة البيضاء يا سادتي
هرة مولانا الحكيم الكبير