حوار مع الشاعر العراقي هاشم شفيق : الشعر رؤيا وخيال وطيران في اللامتحقق

حوار مع الشاعر العراقي هاشم شفيق : الشعر رؤيا وخيال وطيران في اللامتحقق

اجرى الحوار / هادي الحسيني
الشاعر العراقي هاشم شفيق واحد من أهم شعراء جيل السبعينات العراقي، الجيل الشعري الذي أحدث انفلاقات شعرية بالحداثة والتجديد على مّر السنين بالرغم من الأحداث الدراماتيكية التي عصفت بأبنائه، فكانت فترة السبعينات داخل العراق عبارة عن صراع للأيدلوجيات مع صعود سريع للدكتاتورية المتمثلة بنظام البعث السابق،

الأمر الذي جعل من المثقف العراقي آنذاك أمام خيارين صعبين فإما مديح السلطة والسكوت على الظلم ! أو المسير الشاق في طريق الشعر من أجل الانتصار للإنسان المظلوم في تلك الأرض، وكان خيار الشاعر هاشم شفيق واضحاً في طريق الشعر منذ نشره لقصائده الأولى منتصف العقد السبعيني في بعض المجلات الثقافية حتى صدور ديوانه الأول ( قصائد أليفة ) عام 1978 ليرسم من خلال ديوانه هذا مسيرة شعرية حافلة بالإبداع والانجاز الشعري على مدى أكثر من ثلاثة عقود مضت.

ومن يتعرف على هاشم شفيق عن قرب سيقف على تلة الشعر الصافي النابع من عمق الإحساس ورقة الجملة الشعرية التي تحيلنا في الكثير من الأحايين إلى عوالم غاية في الروعة والجمال وفي الوقت نفسه سيتلقَ الحزن العميق الذي يخيم في أسئلة الشاعر داخل قصائده المدججة بمآسي الإنسان التي تخللتها فترات مظلمة عبر الاعتقالات والحروب والحصار والموت على حد سواء.
يمتاز شفيق بطيبته العراقية وهدوئه المعروف الذي يحسد عليه من أغلب أبناء جيله الأمر الذي انعكس إيجاباً على قصيدته الخالية من التشنجات أو الانفعالات والتي قد تخرج الشعر من طوره في بعض الأحيان، ولهذا فأن هذا الشاعر الهادئ في حواراته الجميلة وفي قصائده المدججة بالمعرفة والحفر في أعماقها نجد أن جملته الشعرية تحمل أسئلة كونية متمردة على الواقع وخرابه ومتمرداً بقوة على أحداث العراق منذ فترة السبعينيات وحتى اليوم والتي جعلت من المثقف العراقي وبخاصة الشاعر أن يبحث عن ملاذ آمن ليكتب بحرية بعيداً عن الرقيب، وبعيداً عن السلطة التي حاولت في ذلك الوقت أن تجعل من الأديب العراقي ذليلاً وتابعاً لها بشتى الطرق والوسائل .
وكان خيار هاشم شفيق آنذاك الهجرة بعد أن تمت دعوته إلى أحد المهرجانات الشعرية عام 1979برفقة الشاعر فوزي كريم ومن هناك تمكنا من الإفلات من قبضة تسلط المؤسسة الثقافية التي كانت تديرها ثلة من أدباء السلطة ليبدأ شوطه الجديد في عالم الترحال والاستقرار بمدن وعواصم عالمية وعربية، فمن باريس إلى بيروت ومنها إلى قبرص وبراغ ودمشق، حتى استقر به المطاف في العاصمة البريطانية لندن، وخلال سنوات المنفى الطويلة استطاع شفيق أن ينتج الكثير من المجاميع الشعرية التي أحدثت صدى كبيراً في خارطة الشعر العربي بشكل عام، كما ترجمت العديد من قصائده ودواوينه إلى لغات عدة مثل الفرنسية والانجليزية والاسبانية والبولندية والفارسية والكردية .
الشاعر هاشم شفيق تجربة شعرية غنية ناضجة بكل معنى الكلمة، تجربة استطاعت أن تنقل القارئ العربي عبر إنتاجه الشعري الثر إلى عوالم بعيدة وقريبة، إلى مساحات من الوعي والإدراك والتلقي وكيفية ولوج النص الشعري إلى المتلقي في الوقت الذي أصبح فيه الشعر صعب التذوق، لقد تمكن هذا الشاعر من رسم قصائده قبل كتابتها على الورق فكان يراقب عن كثب مآسي الإنسان في كل مكان يتواجد فيه أو المكان الذي سيزوره لاحقاً، وغالباً ما نرى الوجع العراقي يلوح في قصائده التي كتبها خارج الوطن لارتباطه الحسي والقلبي في تلك الأرض التي أنجبت شعراء كباراً على مر السنين، وعن الشعر والإنسان والمنفى وتجربته على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، كان لنا معه هذا الحوار الذي تحدث فيه بصراحة وبصدق ..
* من خلال قراءة التاريخ يصح القول أن تطورات الأمم تعكس تطوراتها الفكرية والفنية وترقى بذائقتها في الفنون والآداب الى مستويات غاية في الجمال والرقة ، وخلال التطورات الانسانية عبر حضارات اليونان وبلاد الرافدين ومصر والصين وحضارة اوروبا الحديثة كانت المعادلة صحيحة . والسؤال هنا : هل الثقافة العربية في بدايات القرن الواحد والعشرين في نهوض شامل ، أم في تراجع شامل ، وإذا كانت الحالة سلبية فكيف تفسر الدعوات المستمرة للحداثة والتجريب في قصيدة النثر والرواية أو ما وراء الرواية ؟
- من وجهة نظر خاصة ، العرب لا يملكون الآن من ثروات يتباهون بها أمام الأمم سوى الآداب والفنون ، سوى الهاجس الثقافي وما عداه تبدو الصورة قاتمة وسديمية ، فثروة النفط هي ثروة عمياء ، لا نعرف كيف تسير والى أين تمضي ومن يقودها وأين تصب وهي في المحصلة ثروة آنية وليست مستقبلية ، بينما الآداب والفنون هي الثروة البعيدة
والوحيدة ، الجلية والواضحة والتي تعرف كيف تسير ومن ينتجها ولمن تتوجه في النهاية.
تحت هذا المنظور وفي ظل هذا السياق أني أتحدث عن الأدب الحر ، غير المسيّر ، غير الدعائي ، وأتحدث عن منتجه ذلك المبدع المتنوّر ، غير الخاضع ، المبدع الناقد لواقعه والساعي الى التغيير، تغيير الإنسان نحو الأفضل ، تغيير العقل العربي والفكر والفن وجميع النشاطات الجمالية والإبداعية نحو الجديد والمتنوّر واللامع ، القادرعلى الإكتشاف
والإبتكار والتحوّل ، من أجل مضاهاة هذه المنتوجات الإبداعية والعقلية والفكرية والفنية بالصنيع الإنساني الإبداعي للآخر .
لقد تراجع العرب عما كان سائداً في بدايات عصر النهضة العربي ، والتراجع تجلى في المجالات السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، وهم الآن قياساً بما مضى قبل سبعين عاماً في اقل تقدير في حالة يرثى لها .
هم الآن يستعيدون القيم السلفية ، والثيوقراطية ويستردون الزمن الظلامي ، حتى الزمن الجاهلي كانت له قيم في بعض الجوانب أكثر تقدمية وأكثر انفتاحاً ولا أريد أن أقول أكثر وعياً من السائد الحالي .
اننا الآن نلهج بالماضي ، لا يعنينا المستقبل ، لا تعنينا المبادىء التنويرية ، وشيئاً فشيئاً نسدل الستار الثقيل والمعتم على القيم الحضارية والإنسانية والليبرالية التي نادى بها الفكر المتقدم والجديد .
* عام 1978 أصدرت مجموعتك الشعرية الاولى ( قصائد أليفة ) حين كنت شاباً الامر الذي بشر الشعر العراقي بمولد شاعر جديد ، شاعر عرف طريق التكوين الشعري ، وقد ظل اسمك مرتبطاً في الذاكرة الشعرية العراقية بعد مغادرتك العراق ، هل ان مجموعتك قصائد أليفة كانت بمثابة القوة الداعمة لتكملة مشوارك الشعري وتألقك فيه خلال سنوات المنفى الطويلة ؟
– لكل شاعر بصمته ، ووسمه ، ودمغته ، التي يسعى الشاعر والمبدع الحقيقي وضعها على نتاجه الجمالي والفني « قصائد أليفة « كانت بالنسبة الي الوسم الذي وسمني حقاً ، ومن هنا ظهرت تسميات كثيرة بهذا الإتجاه ، في ندوات ومقالات ومتابعات ونقود عديدة ،
منذ بدء نشر الديوان أدرجتْ تحت افقه واتخذّتْ من سياقه تسميات مثل « ألفة القصيدة « و « كيمياء الألفة « « الشعر الأليف « القصيدة الأليفة « و « الشاعر الأليف « وغيرها من اشتقاقات تنتسب لأفق هذا الديوان .
هناك شعراء يتميزون منذ الديوان الأول ، وآخرون يتميزون بعد اصدارهم الرابع كأدونيس
في « أغاني مهيار الدمشقي « أو الخامس كسعدي يوسف في « قصائد مرئية « والسياب في اصداره الثالث والبياتي في اصداره الثاني ، بينما نجد في المقابل نزار قباني يتميز منذ اصداره الأول وكذلك الماغوط وأنسي الحاج وحجازي وعبد الصبور وأمل دنقل وحسب الشيخ جعفر ، لا بل هناك شعراء لم ينشروا سوى قصائد قليلة ولكنهم عرفوا من خلالها وبات يشار لهم بالبنان كشعراء متميزين كفاضل العزاوي وسركون بولص ، فالأول نشر في مواقف والثاني في مجلة شعر وقد تأخر سركون طويلاً بسبب كسله المزمن حتى اصدر ديوانه الأول في نهاية الثمانينات في أثينا عن دار مبتدئة وبعيدة ، وثمة من عرف من خلال نشره لقصيدة واحدة كعبد الأمير الحصيري في العراق .
أما الآن فلو نشر شاعر شاب ومجدد مئة قصيدة ، فلسوف لن ينتبه اليه أحد ، بسبب الفوضى الشعرية السائدة الآن ، وكثرة شعراء التقنيات الحديثة والتواصل الإجتماعي
وغياب المعيار النقدي والمجلات المتخصصة والأدبية التي تتابع الأجيال الواعدة والجديدة.
* في المشهد الثقافي العراقي منذ مطلع السبعينيات كانت حركة الشعر العراقي وتطور الوضع السياسي في ذات الوقت حيث كنا نرى اليسار واليمين السياسيين في المشهد الثقافي المتأثر في الوضع السياسي وقتذاك ، هل كانت ثمة تجزئة معينة حيال ذلك ، وهل كانت هذه عبارة عن نظرية قابلة للدحض ؟
– في مطلع السبعينات ابان صعود الديكتاتورية وتجليات تشكل ملامح الطاغية ، وطغيان سياسة الحزب الواحد على الحياة الثقافية والإجتماعية في العراق ، كان الحزب الشيوعي العراقي يناضل ضد هذه السياسة رغم اخطائه الكثيرة ومنها انخراطه فيما يسمى آنذاك « الجبهة الوطنية « والتعاون مع الحزب الحاكم ، واذا كان السياسي متواطئاً كان المثقف اليساري واعياً للدور الذي تقوم به السلطة الكلانية ، كانت للمثقف العراقي أوانذاك هواجسه وشكوكه وأسئلته الحارقة ضد انتشار الظاهرة الفاشية لدى الطرف السلطوي ، السؤال الذي أرق الشاعر والرسام والمسرحي والسينمائي والمصور والنحات والمغني والملحن والصحافي والكاتب الذي لم يبع قلمه وكلمته أمام الإغراءات الرهيبة التي وجدها أمامه ، اغراء بالمال والمنصب والوظيفة والمقعد الدراسي وغيرها ، فانخرط الكثير من الأدباء والفنانين والكتاب في فيض هذا اللمعان الذي سميته مرة في مقال قديم بضراوة الذهب ، متحدثاً من خلاله عن الشهيدين الشاعر خليل المعاضيدي والقاص حميد ناصر الجلاوي .
إذاً في ظل هذا المنحى تشكل طرف معارض قاد الجبهة الثقافية الوطنية المناهضة للثقافة السلطوية الفاشية ، سلطة تأليه القائد وتكريس النهج الحربي وسلطة افراغ الساحة من الصوت النظيف والمعارض ، من هنا انقسمت الثقافة الوطنية مع وضد ، أسماء الضد معروفة
والأسماء المتواطئة أيضاً معروفة وهناك وثائق وأدلة تؤكد وتؤرخ لتلك المرحلة السوداء من ثقافتنا العراقية .
* كيف تنظر الى موضوعة الاغتراب أو المنفى داخل الشعر العراقي فيما مضى ، وأقصد هنا مرحلة قبل سقوط النظام العراقي ، وهل ضاع الاغتراب أو ضاع المنفى بعد تلك المرحلة ؟
– لا ، لن يضيع المنفى ، والإغتراب باق ، ما دام هناك قمع وظلم وعسف وسجون وقتل وغياب للحريات والغاء للتعامل بالوسائل الديموقراطية والسلمية ، ما دام هناك لصوص وقتلة ومأجورون وطائفيون وحكام مستبدون ، سيبقى المنفى كملاذ ووطن حقيقي بديل عن الأوطان المصادرة من قبل شرذمة من المترعين بالعتمة .
في المنفى كان الإبداع يتشكل ويحارب من أجل القيم الإنسانية ، وينتشر كقيمة جمالية ، تقف مع الحقائق ، وتنحاز للمرهف المهجوس بالجوهر الفني والإنساني في حقلي الفنون والآداب الإبداعيين .
أن خيرة الأدباء العراقيين والفنانين كانوا في المنفى ، والمنفى العراقي شكل ظاهرة تاريخية لم تدرس حتى الآن ، اقتفت آثارها حركات أدبية وثقافية عربية كثيرة .
كانت للمثقفين العراقيين في العالمين العربي والأوروبي دور نشرهم ومطابعهم وصحفهم ودورياتهم وصالاتهم الفنية ومراكزهم الثقافية العديدة ومؤسساتهم الإنسانية التي لطالما وقفت ضد الحروب ورفعت راية السلم العالمي ونافحت من أجل القضايا الإنسانية العادلة .
* هل وصل الشعر العراقي عند تخوم المعرفة حيث المعرفة احدى الشروط الحديثة من شروط الكتابة الشعرية ، وهل ثمة عملية تماهي مع الحديث والتجريب والتجديد في الشعر من خلال تلك المعرفة إن أنت ألقيت برؤيتك حيال ذلك الوصول ؟
– ليس ثمة من وجود لنص أدبي وشعري وحكائي وسردي قد وصل الى تخوم المعرفة فالمعرفة بذاتها هي شيء مطلق ، ليس له حد وقعر وسطح وشكل وإناء ، انها شيء غير مرئي ومحسوس تجسد في عمل ما ، قد يطلق على بعض الأعمال الخالدة كأعمال شكسبير وفلوبير وغوته ودانتي والمتنبي وأبي العلاء والجاحظ وأبي حيان التوحيدي ، تطلق هذه الصفات ولكن من باب التوكيد والإشارة النسبية لبلوغها نوعاً من درجات الكمال وليس بلوغها تخوم المعرفة والإحتياز الكلاني للعلوم الكونية الشاملة .
فقط الأساطيرهي التي تحدثت عن الوصول الى المعرفة الكلانية ، فهناك من عرف الكارما
واستبطن الهرمسية وخبر ورأى كل شيء كما لمسنا ذلك في ملحمة كلكامش الإسطورية ، والإسطورة كما تعرف هي غير الواقع المجسد والمرئي ، فالشعر كما أعرفه هو كائن لغوي ، جذوره تكمن في غابات الحس وفي النار المندلعة من الوجدان ومساحات الباطن ، كل شعر حقيقي وأصيل مصدره الفطرة والروح الخلاقة وينابيع العفوية ، وعليه في المقابل أن يكون متسلحاً بثقافة عميقة ، وملمّاً بقضايا عصره وخابراً تجارب الحياة ومطباتها الكثيرة ، أن في ذلك قوة لتجربته الشعرية ، ويمنحها العمق والمتانة والرؤى الكاشفة لوسائل تعبير جديدة .
وعوداً الى بدء ، ولو افترضنا جدلاً أن الأدب قد وصل الى تخوم المعرفة كما أشرت لانتهى في الحال دوره ، كونه قد أنجز مهمته ورسالته الجمالية ، حيث وصل الى التخوم
وأكمل ما أنيط به من دور ، وحقق الكمال المعرفي .
الشعر الآن بحاجة الى البساطة الدفينة ، الى سبر الأغوار البشرية ، الى كشف كنه الحياة ، ومعرفة لغز الإنسان في وجوده الدائب على الأرض ، حيث الشقاء في الحياة ثم مواجهة النهاية المحتّمة والختام بالموت ، على الشعر الكشف عن جذور المأساة وعن معنى السعادة
والصراع الدائم بين قوى الخير والشر ، بين الظلام والنور ، بين السلم والحرب ، يستطيع الشعر عبر الرموز والعلامات والبنى اللغوية والرؤيوية وحقول الدوال أن يكشف عن جوهر هذه الثنائيات التي تزخر بها الحياة .
* انت لا ترى العالم إلا من خلال الشعر ، هذا ما اعرفه عنك ، وعندما جاء عام 1979 حيث قمع السلطة آنذاك كنت اول الذين اعلنوا القطيعة مع النظام واخترت المنفى لتشكل معارضة ثقافية ، ولم يكن اختيارك هذا سياسياً بقدر ما كنت شاعراً ، كيف تصف لنا تلك المرحلة التي عصفت بالبلاد ومهدت لحروب وويلات كبيرة مازالت البلاد تئن منها ،وانعكاساتها على تجربتك الشعرية ؟
– الشعر هو ملاذي ، هو مكاني الأليف وناصيتي ايضاً التي يحلو التسكع على جادته الطويلة ، الشعر هو الفطنة ، هو التأمل والحلم والمنطقة الواقعة ما وراء المجاهل ، وهو ايضاً « ذلك التردد ما بين الصوت والمعنى « كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري وحالتي يمكن وصفها بذلك التردد المتأتي من تلاقح الصوت بالمعنى ، فإذا كان الشعر هو نبع فطنة وشلال هواجس وتيار رؤى ونهر اشارات فالسياسة هي شبكة مصالح ومجموع مؤامرات
وسلسلة انقلابات ، وهي نفق يمر به العاطلون عن العمل والمنتفعون والإنتهازيون والمبشرون بالكوارث والجنرالات والحروب ، وهم قلة واستثنائيون اولئك الذين لا يسعون الى مصالحهم الشخصية ويرون أنها فن الممكن لعمل شيء مفيد لمواطن قابع في محنته اليومية .
حين وقعت الحرب ، كنت خارج العراق ، ولكنني ، كنت أعيش حرب لبنان ، لقد عشت حرباً مزدوجة، واحدة خارج الحدود تمس ظلوعي كون العراق بلادي ، وأخرى تمس القلب كوني في بلد كأنه بلادي ، حربان حملت في داخلي ، واستطعت أن أكتب عن الإثنتين بحس واحد ، وكان معي هناك الكثير من الأصقاء الشعراء والأدباء والفنانين الذين كتبوا ورسموا وغنوا ولحنوا وأخرجوا مسرحيات ومثلوا ضد الحرب ، أياً كان هدفها ومقصدها وأنى كانت شرارة انطلاقها والمكان الذي وقعت فيه وألهبته ، نحن بدورنا ألهبنا المخيلة بنار الإبداع كونه وسيلة وسلاحاً جمالياً فعالاً ومؤثّراً لا يقل مضاء عن السلاح الحربي .
* في ضفة أخرى من ضفاف النقدية الشعرية نجد ان حركة النقد العراقي تُجزأ في احدى معارضها النقدية جزءين يتعلقان بالمنجز الشعري العراقي الأول داخل العراق حيث مرحلة ماقبل التغيير الدراماتيكي في العراق اي ماقبل عام 2003 والثاني خارج العراق بنفس المرحلة ومقابل هذا لدينا المنجز الشعري مابعد التغيير المذكور داخل وخارج العراق كيف ترى العلاقة مابين تلك التجزئة التي تخص المنجز الشعري العراقي ؟
– المنجز الشعري العراقي واحد ، غير قابل للتجزئة ، ثمة ظواهر وحركات نقدية منذ البدء رافقت منجزات الشعر العراقي الحديث ، أن كان النقد يعيش خارج العراق أو في داخله ، فهما سيّان ، جوهرهما واحد وهو البحث في تقصي عمليات الإبداع الفني والجمالي للأدب العراقي ، والقصد هو ، إذا كان ثمة حضور نقدي على سبيل المثال لا الحصر ، للناقد فاضل ثامر في الداخل ، فثمة في الخارج حضور نقدي للناقدة فاطمة المحسن ، كلاهما ناقد حصيف ولبيب وقدير ومتمكن من أدواته النقدية والمعرفية والفنية ، وإذا كان هناك شاعر ناقد كسامي مهدي في الداخل فكان هناك فاضل العزاوي من يوازيه ويعدله في الخارج ، كلاهما شاعر وناقد ومترجم وصحافي ومن جيل واحد ، فيما عدا الإتجاه السياسي لكليهما ، هذان الشاعران كلاهما رفد المكتبة النقدية العراقية برؤاه وتصوراته
وإسلوبه المتميز الذي أضافه للحركة النقدية في العراق وفي العالم العربي .
من ناحيتي لم أر ظهور تجزئة للحركة النقدية في ما قبل 2003 وما بعدها أرى أن الزمن
ممتد على نحو طبيعي في سياق الحركة النقدية العراقية .
* نسبة من النقاد يزعمون خفوت وانكفاء الحركة الثقافية العراقية والشعر جزء منها بسبب النظام الشمولي او السلطة الايدلوجية قبل عام 2003 هل توافق على هذا الراي ؟
– إنه أمر بَدَهي ، أن تنحسر الثقافة ويتراجع الإبداع ، في ظل الرقابة ، في ظل السلطة التوتاليتارية التي تحاول الهيمنة التامة على العقل الإنساني وإسدال الستار عليه ، غاية السلطة الشمولية تحجيب الفكر وفرض فكرها الديماغوجي ، الفكر الذي يرى بعين واحدة الى القضيا العامة ، أجل لقد كانت الثقافة في العهد السابق في حالة من العماء المدروس والمفروض والممنهج من خلال عقول تتسم بنزعة فاشية .
هكذا كان حال الثقافة في عراق الثمانينات والتسعينات تحديداً ، لكن انظر الآن الى الوضع الثقافي الراهن أنه يعيد انتاج العقلية السابقة ، ويجتر الأطر السابقة ذاتها وفق رؤية ذرائعية ، ترسخ السياق الواحد بالتدريج وتطرد الجديد والبوّاح الذي يكشف المسكوت عنه ، ذلك الذي يكشف الأحجبة والستر الثقيلة المسدلة على الوعي الجمعي وعلى نور الإبداع ، الثقافة الموجودة الآن في العراق ، ثقافة سوداء ،تهلل للماضوي ، للفائت ، للمطوي ، للمندثر , وتؤله اشخاصاً هم عبارة عن حثالة من لصوص السياسة الذي يعج بهم العراق الجديد ، ثمة رقابة الآن في وزارة الثقافة الحالية ، رقابة دينية ، لا تقل شأناً عن الرقابة البعثية ، ان لم تكن أدنى منها على الصعيد المعرفي على الأقل .
هناك رقابة على الكتاب من قبل ما يسمى « دائرة الشؤون الثقافية « هناك رقابة على اللوحة والمنحوتة والقصيدة والنص المسرحي والقصة والرواية وثمة شبه منع للأنشطة الموسيقية والفنية والغنائية والتشكيلية الراقصة من قبل جهات غامضة تتمسك بالدين كواجهة وهم منه براء .
الرقابة في العهد الجديد منعت كتابي الذي هو سيرة ذاتية لمجرى حياتي ، وقد طلبوا مني مقابل طبعه حذف مشاهد من الكتاب تتعلق بالطفولة ، وهي ترد في أية سيرة تكتب في العالم لكن العقول الضيقة الأفق والمحجبة تراه يخدش الحياء ، بينما معظم
كتبي قد طبعت في بلدان عربية مثل سوريا ولبنان والاردن ، لم يطلب مني يوماً حذف حرف مما نشرت طوال أكثر من ثلاثين عاماً البتة .
الكتاب الآخر الذي تمّ منعه هو رواية للقاص محمد سعدون السباهي وديوان شعر للشاعر حسين علي يونس ، أنا سلمته بيدي لهذه الدائرة اياها وايضاً لقي ذات المصير.
ألا يدل هذا الى وجود ظلام ثقافي وفساد فكري وصدأ في وعي من يتسنم سُدّة الثقافة ، فإذا كان وزير دفاع يتسلم حقيبة الثقافة ، ألا يتصور هذا الوزير بأن القصيدة قنبلة واللوحة رصاصة والمنحوتة دبابة والراقصة كلاشن كوف ، باختصار أن الوضع الثقافي الرسمي تحديداً هو في الحضيض الآن .