الأعسم وأنا قطوف من الذاكرة لا تمحى

الأعسم وأنا قطوف من الذاكرة لا تمحى

د. حسن مجيد العبيدي
عرفتُ المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الأمير بن عبد المنعم بن محمد الأعسم (1940-2019) عندما دخلت برغبتي إلى قسم الفلسفة بجامعة بغداد عام 1978، وعَرفني إذ كان من ضمن أساتذتي الذين درسوني في هذا القسم في المراحل الجامعية كافة، من البكالوريوس حتى الدكتوراه.

كان يجايله أثناء دراستي في القسم عمالقة الدرس الفلسفي العراقي المعاصر، يوم كان هذا القسم وحيدا متفردا في جامعات العراق كافة (تأسس عام 1949م)، إذ كان من ضمن زملائه ياسين خليل (ت1986)، وعرفان عبد الحميد فتاح (ت2007) وكامل مصطفى الشيبي (ت2007)، وحسام الآلوسي (ت2013) وجعفر آل ياسين ( ت2009)، وحازم طالب مشتاق (ت2017)، ومدني صالح (ت2007)، وناجي التكريتي ( الذي كان المرحوم يلازمه ملازمة الظل، لا يفترق عنه في لحظة)، وموسى الموسوي ونمير العاني وقيس هادي أحمد وفاتنة حمدي وسهيلة علي جواد، وأميمة الشواف، وعامر عبود النفاخ، وصالح الشماع، وياسين محمد أمين. ثم التحق في بداية الثمانينات إلى القسم عبد الستار الراوي وعلي حسين الجابري وفضيلة عباس مطلك.
ألقى المرحوم الأعسم في المرحلة الأولى من البكالوريوس على مسامعنا محاضرات في منطق أرسطو، وفي الفلسفة اليونانية المتأخرة، وفي الفلسفة الإسلامية، وقد وجهني لبحث في هذه المرحلة عن أثر الفارابي في ابن تيمية ( مازال البحث مخطوطا لدي)، وقد أشر بقلمه الشريف على البحث ما نصه ( يا حسن أنت واعد، هيئ نفسك للدراسات العليا)، وقد عاضده بهذا الرأي أستاذنا الدكتور ناجي التكريتي.
كان المرحوم الأعسم شديد التأنق في ملبسه وهيئته، وذا وجه سمح وبشوش، وصوت جهوري مميز، شديد الحرص في الدرس الفلسفي الجامعي ولا يتأخر عنه دقائق معدودات، يحمل في حقيبته وهو يدخل كل التراث الفلسفي العربي الإسلامي مفهرسا ومبوباً، وهي صفة لازمته وميزته بين زملائه العاملين في الفلسفة العراقية المعاصرة، بل وحتى العربية.
كما كان شديد الاهتمام بتوجيه الطلبة نحو كل فعل خير وعلم نافع، وكان لا يبخل بأي استشارة توجه له عن أي مصدر أو مرجع، إذ كان ملماً الماماً بارعا بالمكتبة الفلسفية العربية الإسلامية، ومفهرسا لها، في مضانها الأصلية. وكنا نحن الطلبة نهرع إليه إذا ما أردنا الإفادة من معرفته العلمية المعمقة في التراث الفلسفي العربي الإسلامي بفروعه كافة من علم كلام وفلسفة وتصوف، إذ كان يقوم بهذه المهمة وهو سعيد بها لأن فيها نفع لطلبته في كافة مراحل التعليم الجامعي.
جاء المرحوم الأعسم بطلب الانتساب عضواً تدريساً في القسم عام 1972، بعد أن حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كيمبردج عن اطروحته في ابن الريوندي وكتابه فضيحة المعتزلة تحت إشراف المستشرف جون لاينز. (طبعت الأطروحة أول مرة بنسختها الأصلية في منشورات عويدات).
ولانتسابه للقسم قصة يرويها زميله الدكتور ناجي التكريتي: (( أن الأعسم تقدم بطلب الانتساب تدريسا للقسم فرفض طلبه من بعض أعضاء القسم كونه ليس من خرجي قسم الفلسفة، بل هو من خريج كلية أصول الدين، فتدخل التكريتي بقوة لتعينه في القسم، إذ كان الأعسم زميلاً له في كيمبردج أيام الدراسة))، وليكون الاعسم بعد ذلك عضوا فاعلا ومهما في الدرس الفلسفي حتى وفاته رحمه الله.
أنجز الأعسم أكثر من كتاب قبل حصوله على الدكتوراه، وذلك عندما كان طالباً في البكالوريوس، منها: كتاب المنحى الروحي للغزالي تحت إشراف المرحوم كامل مصطفى الشيبي، وكتاب عن نصير الدين الطوسي مؤسس علم الكلام الفلسفي الإسلامي. وقد طبع هذان الكتابان أول مرة في دار نشر عويدات في بيروت، ثم أعاد المرحوم طبعهما بأكثر من طبعة بعد أن نقحهما وأضاف عليهما المزيد. كما كان له صولات وجولات في المجلات الثقافية العراقية قبل سفره إلى كيمبردج.
وبعد أن التحق الأعسم تدريسيا في القسم، أسهم بشكل فاعل ومميز في مؤتمر الفارابي والحضارة الإنسانية المنعقد في بغداد عام 1975، من خلال الادراة والتنظيم والمتابعة لشؤون المؤتمر، إذ اقترح المؤتمرون أن يعاد تحقيق نصوص الفارابي المنطقية والفلسفية ورسائله الصغرى بعد أن طبعت طبعات غير محقة، فانبرى الأعسم لهذه المهمة وسافر إلى افغانستان وبعض البلدان الإسلامية لتصوير وجلب مخطوطات الفارابي منها ومن ثم إعادة تحقيقها، وقد كلف الأعسم مجموعة من طلبته لمساعدته في تحقيقها ومنهم كاتب هذه السطور وحسن فاضل جواد ومحمد محمود الكبيسي وآخرين، فظهرت مطبوعة ولو متاخرة بمدة طويلة بكتاب صادر عن دار التكوين في دمشق عام 2015.
تفرغ الأعسم علمياً عام 1977، إلى جامعة باريس الرابعة لسنة واحدة، وهناك ألقى محاضرات على طلبة الدراسات العربية في الجامعة عن كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي. وقد طبعت هذه المحاضرات فيما بعد كتاباً تحت عنوان: التوحيدي في كتاب المقابسات، وصدر عن درا الأندلس في بيروت. وأعيد طبعه مرات عدة في دور نشر عربية.
وكما أشرت من قبل ، التحقت في قسم الفلسفة عام 1978، وأنهيت مرحلة البكالوريوس بتفوق عام 1982، تقدمت بعد ذلك بطلب الانتساب لدراسة الماجستير، في ذات السنة، وانتظمت طالبا في خريف عام 1982، مع زملائي عبد الجليل كاظم الوالي ومجيد مخلف طراد ومشهد سعدي العلاف. إذ درسني من ضمن الذين أساتذتي المرحوم الأعسم، وكان موضوع المادة العلمية (المصطلح الفلسفي عند العرب)، الذي سيصبح فيما بعد مرجعاً مهما في الدرس الفلسفي العراقي والعربي لما فيه من نصوص فلسفية لفلاسفة عرب مسلمين عن الحدود والرسوم والاصطلاحات وهم: جابر بن حيان، والكندي، والخوارزمي، وابن سينا، وأبو حامد الغزالي، وسيف الدين الآمدي. وفي هذا الموضوع تعلمت على يديه طرائق البحث العلمي والتحقيق للنصوص الفلسفية بالرجوع إلى مضانها الأصلية ومقارنتها وتطور المصطلح من اليونان حتى العرب المسلمين. وقد طبع الكتاب أول مرة في بغداد عام 1986، وقد قمت بعمل فهرس تفصيلي للكتاب بأعلامه واصطلاحاته وغير ذلك. بعد أن وجهني لهذا العمل الذي سأنتفع به ما حييت.
في عام 1983، وبعد أن أنهيت السنة التحضيرية تقدمت بطلب لأعداد رسالتي للماجستير وبتوجيه من الأعسم نفسه تحت عنوان: نظرية المعرفة عند الفارابي، ، وبعد أن قدمت الخطة العلمية للرسالة، فوجئت أن المرحوم ياسين خليل قد أرسل بطلبي ليخبرني أن ما قدمته يجب أن تغير خطته بالكامل، فوضع لي خطة علمية جديدة لا تتناسب مع ما كنت اخطط له من دراسة عن الفارابي والمعرفة عنده، لاسيما وأن المرحوم ياسين خليل من الفلاسفة العراقيين والعرب المتمرسين جدا بالدراسات المنطقية والفلسفية المعاصرة, دون الغوض بمتون الفلاسفة العرب المسلمين.
عدت إلى الأعسم وبيدي الخطة الجديدة لدراسة الفارابي بعد تعديلها من قبل ياسين خليل، فرفض الأول الأمر جملة وتفصيلاً، ليقترح علي فيما بعد دراسة موضوع المكان في فلسفة ابن سينا، وليكون المشرف على رسالتي، وكان لتوجيهاته العلمية الدقيقة والمنهج الصارم الذي علمني إياه أكبر الأثر في مسيرتي العلمية حتى اليوم. وما بين عام 1983 وعام 1985 أنجزت رسالتي للماجستير لتنال رضا واستحسان السادة المناقشين المرحوم حسام الآلوسي وناجي التكريتي ولتنال درجة الامتياز. وليسهم الأعسم بطبعها كتابا يصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام 1987. وقد كان المرحوم الأعسم قد أشرف على رسالة ماجستير أخرى قبلي عن الزمان عند الغزالي لمحمد محمود الكبيسي.
في عام 1989 عين الأعسم عميدا لكلية الفقه بجامعة الكوفة، وهو الخبير بشؤون وأهل ومجتمع النجف كونه من مواليد هذه المدينة التاريخية العريقة، إذ فيها نشأت أسرته الكريمة وعشيرته وما زالت. فقام بإدراة هذه الكلية خير إدارة واحدث فيها تغييرات كبيرة على مستوى التدريس والإدارة والشؤون العليمة، وفي حينها دعاني لتدريس مادة الفلسفة في هذه الكلية، وكنت أقدم إليها من مدينتي بغداد التي تبعد عن النجف حوالي 180 كم، سعيدا فيما أقوم به، وفرح بتكليفه لي هذه المهمة.
وفي هذه السنة (1989) تقدمت بطلب الانتساب لدراسة الدكتوراه بقسم الفلسفة بجامعة بغداد، وقبلت في القسم وانتظمت طالبا فيه، وكان من ضمن أساتذتي الذين درسوني الأعسم، إذ درسني مادة فكر عربي حديث، وكنا نذهب مع بقية الزملاء عبد الجليل كاظم والي ومجيد مخلف طراد إلى مكان خارج الجامعة للقاء به وعنه نأخذ العلم.
في عام 1992، أعيد بقرار رئاسي تأسيس جامعة الكوفة دون كلية الفقه ، فعين الأعسم مرة أخرى عميدا لكلية الآداب فيها. فقام بمهمته على أتم وجه وأكمله، ففتح قسم الفلسفة لأول مرة في هذه الكلية، بعد أن كان قسما وحيدا بجامعة بغداد. وفتح بذات الوقت الدراسات العليا في القسم على مستوى الماجستير والدكتوراه، واستخدم للتدريس فيه كبار المتخصصين من جامعة بغداد وهم: كامل مصطفى الشيبي ( أصبح رئيسا للقسم)، ومدني صالح وحسام الآلوسي وقيس هادي أحمد وعلي حسين الجابري ونظلة الجبوري.
في عام 1993 استدعاني الأعسم وهو عميد كلية الآداب للانتقال إلى جامعة الكوفة من جامعة بغداد، فقبلت الأمر بكل سرور، فصدر أمرا بتعيني رئيسا للقسم عام 1993، ولكن في عام 1995، تم إعفاء الأعسم من مهامه عميدا للكلية، ليعود بعدها تدريسا في كلية ابن رشد جامعة بغداد.
عمل الأعسم عندما كان عميدا لكلية الآداب بجامعة الكوفة على تأسيس جمعية العراق الفلسفية، على أن يكون مقرها في بغداد، وقد نجح مع زملائه الآخرين في تأسيس هذه الجمعية ومنهم: عبد الستار الراوي، يوسف حبي، حسام الآلوسي، علي حسين الجابري، نظلة الجبوري، وكاتب هذه السطور، وآخرين ممن لا تسعف الذاكرة ذكرهم.
في عام 1995 صدر مرسوم رئاسي بتأسيس بيت الحكمة، وكان من ضمن أقسامه قسم الدراسات الفلسفية، وقد عملنا في حينها على النهوض بهذا القسم بكل ما أوتينا من قوة، وكان لعلي حسين الجابري الدور الفاعل في هذا الجانب، ومن جهتي أسهمت في تأسيس مكتبة بيت الحكمة مع بقية الزملاء من التخصصات الأخرى، ليصدر بعدها أمر رئاسي بتعيين الأعسم رئيسا للقسم، وهنا ستحدث انعطافة كبيرة ومهمة في الدراسات الفلسفية في العراق والعالم العربي، مع مجي هذا العَلم الفلسفي العراقي.