إيلينا فيرّانتي المذهلة دوماً

إيلينا فيرّانتي المذهلة دوماً

نجوى بركات
كتابٌ جديد يحمل توقيعَ الكاتبة الإيطالية، إيلينا فيرّانتي، صاحبة الثلاثية الروائية "صديقتي المذهلة" التي تُرجمت عالمياً، صدر أخيراً في ترجمة فرنسية عن دار غاليمار، بعنوان "فرانتوماليا، الكتابة وحياتي"، وهو مجموعة مقابلات ورسائل تبادلتها مع ناشريها، وأيضاً مع الصحافيين الذين قبلت أن تردّ على أسئلتهم.

والعنوان المأخوذ من اللهجة النابوليتانية هو كلمة كانت والدة إيلينا تردّدها عندما تشعر بضيقٍ لا تتوصّل إلى تحديده: "فرانتوماليا"، أيّ "ذلك الجزء فينا الذي يعصى على الكلام أو على أي شكل آخر من التقليص، والذي يدكّ في أوقات المحن النظامَ الذي اعتقدنا أننا ثابتون فيه". تستعير فيرّانتي هذه المفردة، لتبحث في معنى الكتابة وعلاقتها بحياتها، وهو ما سوف يتيح لمحبّيها وقرّائها استكشاف العوالم التي رسمتها في رواياتها السبع، بدءاً من أعمالها الأولى التي استقبلت بحفاوةٍ كبيرةٍ في إيطاليا، وصولاً إلى "صديقتي المذهلة"، الثلاثيّة التي شهرتها في العالم أجمع.
عن "الحبّ المضايق" (1992)، تقول الروائية التي حرصت، منذ بداياتها، على أن تبقى هويّتها سرّية: "السؤال الذي تطرحه كل رواية هو دائماً نفسه: أهي القصّة المناسبة لأقبض على ما يقبع بصمتٍ في داخلي، وعلى ذلك الشيء الحيّ الذي ما أن يُقبض عليه، حتى ينتشر في كامل الصفحات فيمنحها روحاً؟". الشيء الحيّ ذاك هو من محرّكات الكتابة لدى فيرّانتي، وهو مكوّن من الذكريات ونتف المشاعر ومدينة نابولي، بفقرها وعنفها، وأطياف الخيّاطات اللواتي تشبّه عملهن بعمل الكتّاب، واللغة المحكية القاسية الجارحة، وبخاصة ممّا يشكّل عقدةَ كل رواياتها: شخصية الأمّ والشعور بالهجر والفقد، والصلة الجسدية بالجسد الأموميّ التي هي أشبه بحلم مستحيل.
تقول فيرانتي إن نقاط انطلاق رواياتها هي امرأة تختفي كلياً، طفلة ضائعة، وصداقة نسائية معقّدة وقوية في آن، بالإضافة إلى سؤال جوهريّ، تلخّصه كالتالي: هل يمكن للكتابة أن تمنع الفقد؟ "في الحياتين المتوازيتين للشخصيتين الرئيسيتين ("صديقتي المذهلة")، حيث الواحدة ليست صورة مطابقة أبدا للثانية، يكثر الرجال، والأطفال أيضاً. ومع ذلك، فإن العقدة السرّية لعلاقة الحبّ التي تربط بين الصديقتين، للقطيعة التي تحصل بينهما، والعاطفة القوية التي تجمعهما، تبقى (كما هي الحال بالنسبة إلى النساء كافة) الحبّ المضايق الذي تشعران به حيال صورة الأم، أي الحبّ / النزاع، أو الحبّ/ الصراع الوحيد الذي يدوم في مطلق الأحوال إلى الأبد".
إلا أن أكثر ما يثير في كتاب فيرانتي هذا، هو ولا ريب موقفها من الشهرة ومن تحويل الكاتب إلى آلةٍ دعائيةٍ، هي التي أصرّت على بقاء هويّتها سرّيةً بهدف التملّص من كل ما بات الأدب يستدعيه، ولا يمتّ إليه بصلة من قريب أو بعيد.
تقول في إحدى رسائلها إلى الناشر بشأن روايتها الثانية: "لستُ أنوي القيام بأي شيء يلزمني بالوجود بشكل علني. لقد قمتُ بما ينبغي من أجل روايتي، لقد كتبتُها، فإذا كان لها قيمة ما، ينبغي أن تكون تلك القيمة كافية. لن أشارك في أي مؤتمر أو حوار أدعى إليه، ولن أحضر لاستلام الجوائز التي قد تُمنح لي. لن أشارك في حملة ترويج، وبخاصة في التلفزيون، لا في إيطاليا ولا خارجها. لن أتدخّل إلا من خلال الكتابة، مع الاكتفاء بالحدّ الأدنى الضروريّ (...) إذا أردتم التوقّف عن دعمي، أعلموني بذلك، وليس من الضروريّ أبدا أن يُنشر هذا الكتاب (...) لا أعتقد أن الكتب تحتاج إلى الكتّابَ بعد إنجازها. إذا كان لديها ما تقوله، فستنتهي عاجلاً أم آنفاً إلى إيجاد قرائها، والأمثلة عديدة (...) المعجزات الحقيقية هي تلك التي لا تُنسَب إلى أحد.. ما زلت أحتفظ بتلك الرغبة الطفولية للدهشة الصغيرة والكبيرة على السواء، وما زلت أؤمن بها".
لا بد من أن يكون كلامُها هذا بمثابة "صفعة" تُوجَّه إلى معظم كتّاب هذا العصر!
عن العربي الجديد