إمام عبد الفتاح إمام.. العيش مع الفلسفة والديمقراطية

إمام عبد الفتاح إمام.. العيش مع الفلسفة والديمقراطية

" العبقري هو من يعرف متطلبات العصر ويُلبّيها " .................... هيجل
علي حسين
اتسم مشروع المفكر والمترجم إمام عبد الفتاح إمام الذي رحل عن عالمنا قبل يومين (1934 -2019 ) ، بالقلق تجاه مآلات المجتمع العربي ، وبمنهجية عقلية متمردة ، حمل حقيبته الفلسفية الى عمق الأزمات التي يواجهها المواطن العربي مشخصاً تناقضات الفكر والسياسة وتأثيراتها على انسان اليوم ، العاجز عن التكيف مع أنظمة ترفع شعار "العادل المستبد".

يشرح لنا صاحب كتاب "الطاغية" كيف أن :" المواطن ما لم يحصل على حقوقه السياسية كاملة غير منقوصة، وعلى نحو طبيعي، فلا تكون منةً أو هبةً، أو منحة من أحد، وبالشكل الذي أشار اليه هيجل، من تلقاء ذاته، فيعامل على إنه غاية في ذاته وليس وسيلة لشيء آخر، ، فلن يؤدي واجباته على نحو طبيعي- أعني بالتزام داخلي ينبع من ذاته، بل سيؤدي ما يؤديه منها بسبب الخوف من العقاب والخوف هو المبدأ الذي يرتكز عليه حكم الطغيان والاستبداد كما أشار مونتسكيو ” – بحيث تظهر كل الرذائل في سلوكه إذا أمن شر العقاب : فلا مانع من أن يكذب، ويسرق وينافق ويغش ويخون .. الخ كلما سنحت له الفرصة ! " .

تتسم أعمال إمام عبد الفتاح إمام في مجال التأليف والترجمة والتي تجاوزت الـ " مئة كتاب " بانها تُعلي من شأن العقل ، وفي جميع هذه الكتب كان الراحل يسعى لأن تكون الفلسفة في متناول الجميع ، لأنها وحدها التي تحرّض على " أعمال العقل " ، ولأن الفلسفة تبحث في نشاط العقل كما يتجلى ذلك في تاريخ الفكر ، إذن " فالمنهج الفلسفي هو منهج عقلي ، أو هو المنهج الذي يعبر عن نسيج العقل نفسه " .
الشاب الذي أُغرم في صباه بكتابات العقاد وطه حسين ، وجد نفسه وهو يدرس الفلسفة وجهاً لوجه أمام معلم من طراز خاص ، أسمه زكي نجيب محمود ، أستاذ فلسفة يعشق الشعر ويكتب في نقد الرواية ويناقش أصعب المسائل الفكرية ، وكان إمام قد أعجب بأسلوب زكي نجيب محمود في مناقشة معظم مفاهيم الأدب والفن والفلسفة والنقد ، مناقشة جادة ومنطقية. في نهاية الخمسينيات ، سيصدر زكي نجيب محمود كتابه "قشور ولباب فى الأدب والنقد " ، وسيكتب إمام عبد الفتاح إمام ، أولى مقالاته التي نشرت في مجلة المجلة ، وفيه يشيد باستاذه زكي نجيب محمود الذي يناقش كل شيء، ولا يفوته شيء، ويغريه أن يعيد صياغة مفاهيم الأدب والفكر ويطالب بتجديدها ، وستنشأ علاقة بين الأستاذ والتلميذ ، وفي قاعة الدرس سيشرح الاستاذ معنى مفردة " الطاغية " ، وسيشير الأستاذ الى أن الفيلسوف الألماني هيجل أشار منذ عام 1840 الى أن :" أهل الشرق لايعرفون ، إن الإنسان حرٌ لمجرد كونه أنساناً عاقلاً ، إنهم لا يعرفون إلا أن تكون الحرية لرجل واحد ، ثم لا تكون حرية هذا الرجل الواحد إلا اندفاعه وراء نزواته " ..يكتب إمام عبد الفتاح إمام في مقدمة كتابه " الطاغية إن :" الأصل فى الاستبداد أن يكون بشرياً فيذوق إنسان بلسان وفم دنسين دماء أهله ويشرّدهم. وينتهى به الأمر الى أن يصبح طاغية ويتحول الى ذئب – على حد تعبير أفلاطون! لكن البشر هالهم أن يتحول واحد منهم الى طاغية. فإذا كانت له هذه الطبيعة الغريبة فلابد أن يكون من سلالة أخرى تفوق سلالة البشر فأضفوا عليه طبيعة قدسية إلهية" .
تتسم معظم أعمال إمام عبد الفتاح إمام بالنبرة التساؤلية القلقة جراء الأزمات التي تعاني منها مجتمعاتنا ، حيث تأتي قيود الفكر في صدارة أوجاع عصرنا الراهن ، ليس فقط لأنها تعكس حقيقة التخلّف الذي تعيش فيه هذه المجتمعات ، بل لأنها شاهد على نمط القمع الذي تتعرض له الثقافة الحقيقية .وفي تصديه لمشكل الفكر والحرية يحاول أن يصبح امتداداً لأستاذه زكي نجيب محمود الذي لم يكف يوماً منذ عودته من انكلترا في الأربعينيات بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة بالدعوة الى المنهج العلمي بكل ما يملك من حماسة وإيمان ، وبكل ما يتاح له من وسائل النشر ، كتب ، صحف ، مجلات ، حوارات إذاعية ، ولهذا سينصب جهد التلميذ إمام عبد الفتاح إمام على تتبع مفهوم " العقل " الذي حار في تفسيره الفلاسفة ، العقل الجدلي كما أراد هيجل أن يكون ، والعقل الذي يجب أن يرشدنا الى حقيقة الوجود كما أراد له كيركجارد .
في الجامعة سيتعرف على هيجل وسيهيم بفلسفته ، يتذكر إنه في أول شبابه قرأ هيجل لمدة عامين : " دون أن أفهم شيئا " ، كان أول كتاب قرأه لهيجل ظاهريات الروح ، لكنه لم يتقدم خطوة واحدة ، وسيعرف إن السبب ليس في كتب هيجل ولا في في محاولة فهمها ، بل لأنه كان يقرأ هيجل بعقلية أرسطو ومصطلحاته عن الفلسفة : " ولم أدرك وقتها أن هيجل – كأي فيلسوف عظيم – نحّت لنفسه مصطلحات جديدة من ناحية ، وحوّر في معاني المصطلحات القديمة لتناسب أغراضه الفلسفية من ناحية أخرى "
يقرر أن تكون رسالته للدكتوراه عن " " المنهج الجدلي عند هيجل " ، وسيهدي رسالته الى أستاذه زكي نجيب محمود " الفيلسوف .. والمعلم . والإنسان .. وصاحب الروح الحرّة " ، وسيتعلم من هيجل مثلما تعلّم من زكي نجيب محمود ، أن الفلسفة إذا أُريد لها أن تكون معرفة منظمة فينبغي عليها ألا تستعير منهجاً من علم آخر ، بل لا بد أن ينبع من صميم موضوعها ذاته ، حيث نجد إمام عبد الفتاح يؤكد فيما بعد في معظم مؤلفاته واختياراته المترجمة، أن الفلسفة ليست مجرد تجميع لآراء ، أو رواية لأفكار معزولة وسيؤمن مثل هيجل إن الفلسفة :" تصبح رواية عاطلة أو بحثاً متحذلقاً " حيث يعتبرها البعض مجرد حصر لآراء مختلفة ، وإنما باعتبارها مساهمة جادة وفاعلة في تغيير المجتمع .. وإن الفلسفة يجب أن تكون علماً وليست سراباً خادعاً . وسيتعلم من هيجل ايضا مثلما تعلم من كيركجارد وماركس وأفلاطون ، إن كل مذهب من مذاهب الفلسفة یكشف عن جانب من جوانب الحقیقة :" إذا قرأت الماركسیة اقتنعت بها، وأصبح الاقتصاد هو الذي یقوم. عندما أقرأ الوجودیة التي هي صرخة لإنقاذ الفرد أشعر إنها على حق في كل ما قالته .. – في حین إنني لا أرتاب في صحة البرجماتیة التي تحیل الأفكار إلى عمل نافع وسلوك مفید. " . يجعله الهيام بهيجل أن يتفرغ لترجمة أعماله الكاملة ، وإصدار أكثر من مؤلف عنه باللغة العربية ،كما سيتناول بالدراسة عدو هيجل الأول الفيلسوف الدنماركي كيركجارد ، فيصدر عنه أوسع دراسة باللغة العربية بمجلدين يهديها الى أستاذه فؤاد زكريا الذي كان بينه وبين فيلسوف الوجودية خلاف وتناقض في الأفكار ، وسيعترف إمام عبد الفتاح إمام في دراسته عن كيركجارد بأنه لايقاس بذرة من هيجل ، وقد لايكون عظيماً مثل كانط ، أوفيلسوفاً شامخاً مثل أفلاطون وأرسطو ، ولكن ذلك لايمنع من أن يكون كيركجارد فيلسوفاً من طراز نيتشه مزج فلسفته بإيمانه أوبـ " بدمه كما أراد هو " ... ويعترف إمام عبد الفتاح إمام إن فلسفة كيركجارد لم تكن إلا ثورة على الفلسفة الهيجلية التي ألقت ضوءاً جديداً على النزعة العقلية ، وجعلتها تستغرق جميع الموضوعات ، فكيركجارد يجعل شعاره :" ابتعدوا عن المذهب ، ابتعدوا عن الفكر النظري ، ابتعدوا قبل كل شيء عن هيجل " .
من بين الموضوعات التي شغلت إمام عبد الفتاح إمام هي مسألة ذكورية الفلسفة ، وهل إن المرأة لم تكن تعرف الفلسفة في عصور اليونان والرومان ، وسينشر أكثر من بحث وكتاب عن هذا الموضوع يناقش به النظرة الدونيّة إلى المرأة التي كرّسها الكثير من الفلاسفة، ولاسيما فلاسفة اليونان، من أمثال أفلاطون وأرسطو، بل وبعض الفلاسفة المحدثين، مثل جون لوك وروسو وكانط وغيرهم، وهي النظرة التي تقول بعجز المرأة ونقص في قدراتها العقلية، وأنّ العاطفة تحكمها أكثر من العقل، فلا تقوى بذلك على ممارسة الفكر النظري التجريدي المنوط بالرجال لتعلقها الشديد بالحسيّات، وغير ذلك من الآراء والمواقف التي يحاول امام عبد الفتاح امام ان يدحضها بالموقف العلمي ويفنّدها ، فيصدر موسوعته الشهيرة المرأة في الفلسفة بأجزائها العشرة وفيها يسلط الضوء على آراء أفلاطون وأرسطو وكانط وهيجل وجون لوك وروسو وجون ستيوارت ميل الذي سيترجم كتابه الشهير " استعباد النساء " وسيخصص أحد الأجزاء الى " النساء الفيلسوفات " ، فالمرأة في الفلسفة كما يفهما إمام عبد الفتاح إمام هي في حد ذاتها نص فلسفي منفتح على القراءة والتأويل فهي : " حاضرة في تاريخ الفلسفة، وإن جاز لنا أن نقول إن المرأة هي الفلسفة عينها. إذن فليس تاريخ الفلسفة إلا تاريخ للمرأة، ومن هذه المقاربات الفهميّة، نجد أن صعوبة تعريف الفلسفة هي نفسها صعوبة تعريف المرأة وفهمها، فكلاهما متقلبتان، مراوغتان. كثيراً ما تدفعان العقل الذكوري في لحظة من لحظات يأسه، الابتعاد عنهما، ونسيانهما للأبد، إلا إنه لا يستطيع، فيهمّ بالعودة إليهما" .
في كتابه الشهير "الطاغية"، الصادر في التسعينيات ، ثم في كتابه الذي صدر بعده بسنوات "الأخلاق.. والسياسة"، يلخص إمام عبد الفتاح إمام رؤيته للسياسة ونموذج الحكم الذي يدعو إليه فهو يؤمن أن "الحكم لا يستقيم أبداً طالما تداخلت معه أمور من قبيل الدولة الدينية، والمستبد العادل"، مؤكداً : "مازلت أؤمن إيماناً راسخاً لا يتزعزع أنّ تردي الأوضاع العربية يعود بالدرجة الأولى للنظام السياسي وليس إلى الأخلاق كما يظن البعض ولا إلى الدين كما يتوهم البعض الآخر".
لقد كان الدكتور إمام عبد الفتاح إمام مفكراً تصدى لمشكلة الاستبداد والتخلّف والديمقراطية ، مثلما تصدى لمشكلات الفلسفة بجميع جوانبها بوعي فلسفي وفكري منظم ويقض ، وكان عمله أشبه بالطبيب الذي أجرى الفحص وقام بالتحاليل واستقصى الأعراض ، فعزل الداء وسمى نوع المرض ، وأوصى بنوع العلاج الذي هو الديمقراطية مهما كانت النتائج التي ستؤول إليها ، لانها في النهاية طريق ويجب أن نسلكه .. وكان في كل كتبه ومقالاته وعمله الأكاديمي أنموذجاً للمثقف الملتزم بقضية الإنسان والوطن ، ولكاتب المخلص في العمل بلا مجاملات أو خداع للحقيقة .