إمام عبد الفتاح إمام ونظرية الحاكم المستبد

إمام عبد الفتاح إمام ونظرية الحاكم المستبد

د. محمود محمد علي
ليس من المعقول أن يمر علينا نبأ وفاة أستاذنا الدكتور "إمام عبد الفتاح إمام" في يوم الثلاثاء الماضي – الموافق 18/ 6/ 2019، وأن نمر عليها مرور الكرام، دون ذكر أو وقفة أو تسليط الضوء على شيء من منجزات هذا المفكر والفيلسوف العظيم،

فهو بلا شك يمثل أحد النجوم الكبيرة المتلألئة في سماء الفلسفة خلال أكثر من نصف قرن، حيث يمثل مفكراً أصيلاً وعالما كبيراً . كان يمتلك الكثير من عمق المعرفة وجدية الأدوات المنهجية، فهو يمثل صاحب مسيرة طويلة وممتدة في تاريخنا الثقافي، فله أكثر من مائة وعشرين كتاباً بين مؤلفاً ومترجماً في الفلسفة والعلوم الإنسانية، وهو لا يكاد يتحدث عن تلك المسيرة إلا ويشير إلي الدور الذي لعبه في حياته الدكتور زكي نجيب محمود، فهو من أبرز تلاميذه، وأحد من تولوا التعليق على فكره في الفكر العربي المعاصر. له مساهمات فكرية ذات أثر واسع في الأوساط الثقافية المصرية، وقدَّم إلى المجتمع الثقافي عدد كبير من المترجمين والباحثين.

والدكتور إمام عبد الفتاح إمام ابن عالم أزهري تعلم اليقين المطلق منذ صغره، لكنه في سن الشباب انتقل إلي الجدل وإلي الفلسفة وأحب هيجل كثيراً، وقد سئل ذات مرة لماذا اخترت الفلسفة؟ فأجاب الدكتور إمام عبد الفتاح قائلا :" بأن التطور الطبيعي للتربية والنمو والتعليم جعلني أختار الفلسفة لفترة مبكرة جدا من شبابي، وهي فترة التعليم الثانوي، فقد كان مقررا علينا كتابا في الثانوية كتاب "دروس في تاريخ الفلسفة " ليوسف كرم والدكتور أحمد فؤاد الأهواني، لكن توسع ذهني وأفقي عندما التقيت بكتابين اشتريتهما من سور الأزبكية ـ الكتاب الأول اسمه ضجة في صف الفلسفة لجورج حنا وقد شدني العنوان كشاب حيث تثيره الثورات والضجيج فأعجبني الكتاب جدا وقرأته أكثر من مرة، والكتاب الثاني وهو الملل والنحل للشهرستاني وهو كتاب شهير في الأديان لكنه يقتلعني من جذوري حيث أعطاني نماذج أخري من الملل والنحل غير الإسلام، وهو عالم جديد، حيث إن هذين الكتابين قد شداني جدا إلي الفكر بصفة عامة وعالم الفلسفة بصفة خاصة ولذلك أحببت الفلسفة لأنها تعمل العقل وتجعله يفكر .
نما الدكتور إمام عبد الفتاح إمام وترعرع في بيئة محافظة دينية، حيث يقول عن والده بأنه :" كان أحد علماء الأزهر، وكان يدرس في المدارس الأولية، ثم أصبح ناظراً للمدرسة، وهذا نفعني في أكون نشط في القراءة والكتابة، وكان أبي يعشق الأدب، وقدر ورثت عنه مكتبة كبيرة في الشعر والأدب وهو نفسه كان يقرض الشعر، وكان يكتب كتيبات صغيرة في مدح الرسول وفي استقبال رمضان، وعشنا فترة طويلة في منطقة الحسين، وكان أخي الأكبر مني، وكان والدي يأخذنا معه في صلاة الفجر بالحسين .
وعن كيفية انتقاله من البيئة الإسلامية الخالصة إلي الجدل الهيجلي، قال الدكتور إمام عبد الفتاح إمام :" المفارقة لم تكن كبيرة بالصورة التي تعتقدها، لأن هيجل عنده حقيقة كبري أيضا وهي تنمو وتتشكل علي مدار التاريخ، يعني الفلسفة عند هيجل لا توجد شئ اسمه الفلسفة اليونانية مطلقة لا الفلسفة اليونانية عند أفلاطون وأرسطو، لكنها تشكلت في فلسفة مسيحية، والفلسفة المسيحية واليونانية تشكلا في الفلسفة الحديثة، وبالتالي فالفلسفة تتشكل وتنمو، وهنا وجدت الفكرة الهيجلية أفادتني جداً في فهم تطور الفلسفة حيث لا يوجد انقطاع لكن هناك تطور ونمو .
ويستطرد فيقول :" إن اهم ما في هيجل أن الفكر لديه متحرك وليس لديه السكون، فالسكون هو الموت، فالفكر عند هيجل الفكر متطور وتطوره راجع إلي اصطدامه بفكر آخر، ولذلك المجتمع الذي لا يوجد فيه فكر آخر، مجتمع ميت، وهذا أمر خطير جدا علي المجتمع، لأن المجتمع الذي لا يوجد فيه فكر سوي فكر واحد فأعلم أنه هو فكر الحاكم المستبد، وهذا خطأ جدا جدا وضار بالمجتمع نفسه، فهيجل عنده النمو الجدلي، حيث النمو يصطدم بالآخر ويصطدم بالضد والتناقض، والأثنين – القضية ونقيضها – يظهروا في مركب جديد .
ولد الدكتور إمام عبد الفتاح بالشرقية عام 1934، ثم حصل علي ليسانس الآداب من جامعة القاهرة بتقدير جيد جداً عام 1957، ثم نال درجة الماجستير من آداب القاهرة وموضوعها: "المنهج الجدلي عند هيجل" بتقدير ممتاز عام 1968، ونال درجة الدكتوراه من آداب عين شمس وموضوعها تطور الجدل بعد هيجل بمرتبة الشرف الأولى عام 1972. قام بالتدريس بجامعة القاهرة وعين شمس، والمنصورة، والزقازيق.. إلخ وجامعة الكويت، وطرابلس، وكلية الدعوة الإسلامية- وجامعة سبها بليبيا. - أشرف وناقش على كثير من رسائل الماجستير والدكتورة. وأنتدب لمناقشة رسالة دكتوراه في الجامعة التونسية.
كما ألف مناهج الفلسفة التي تدرس لطلبة المرحلة الثانوية في مصر، وأشرف وناقش العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، كما أشرف على سلسلة "أقدم لك" بالمجلس الأعلى للثقافة، وعلى ترجمة موسوعة كوبلستون في تاريخ الفلسفة الغربية وترجمة بعض أجزائها. أصدر ما يقرب من مئة كتاب ما بين تأليف وترجمة ومراجعة. ومن أشهر مؤلفاته: : المنهج الجدلي عند هيجل مدخل إلى الفلسفة أفكار ومواقف تطور الجدل بعد هيجل (3 أجزاء) كيركجور، رائد الوجودية، جزءان هوبز فيلسوف العقلانية الطاغية عدة طبعات الأخلاق والسياسة معجم ديانات وأساطير العالم الفيلسوف والمرأة (سلسلة في ثمان أجزاء) سلسلة المرأة في الفلسفة تطور هيجل الروحي دراسات في الفلسفة السياسية عند هيجل؛ وغيرها.
وأما عن ترجماته فقد قدم عددا كبيرا من الأعمال من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية. كما يُعد الدكتور إمام عبد الفتاح صاحب مدرسة في الترجمة ؛ حيث قام بمراجعة ترجمات عديدة لمترجمين واعدين برزوا فيما بعد من أمثال ممدوح عبد المنعم وحمدي الجابري وكمال المصري وفاطمة الشايجي (الكويت). وقد أُثيرت شكوك بشأن صحة نسبة كل هذه الترجمات إلى الدكتور إمام عبدالفتاح، و ذلك بسبب التفاوت الواضح في جودتها ودقتها ورصانتها، علاوة على نشر كم هائل من النصوص المترجمة خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً (بيد أن هذه الملاحظة الأخيرة مردود عليها بكونه متفرغ تماماً للعمل بالبحث والترجمة والتأليف ويكاد لا يرى الشارع إلا في أضيق الحدود). ومن أهم الأعمال التي ترجمها الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ما يلي: فلسفة التاريخ، هيجل، أصول فلسفة الحق، هيجل، ظاهريات الروح، هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة، هيجل، استعباد النساء، جون ستيوارت مل، الوجودية، جون ماكويى، موسوعة العلوم الفلسفية، هيجل...الخ.
يضع الدكتور إمام عبد الفتاح إمام اهتماما واضحا لفكرة الديمقراطية والاستبداد، وكان ذلك واضحا في كتابه الأشهر الطاغية وكتاب السياسة والأخلاق دراسة في فلسفة الحكم ويبرر اهتمامه بذلك فيقول : لأن هذا الاستبداد والدكتاتورية هي سبب تخلفنا وانا أؤمن إيمانا كاملا مع جان جاك روسو القائل " عندي أن كل شئ يرتد في النهاية إلي سياسة "، حتى الأخلاق فالبعض يقول بأن سبب تخلفنا الأخلاق، لا بل سبب تخلفنا نظام الحكم لأن نظام الحكم هو الذي يوجد الأخلاق، فالاستبداد قتل للحرية وبالتالي قتل للعقل ويقول الدكتور إمام عبد الفتاح إمام أن كتاب الطاغية أخذت في كتابته سنوات طوال ولولا ظروف العالم العربي ما كان لهذا الكتاب أن يخرج إلي النور لأنه جاء عقب حرب الخليج الأولى، وأنا كنت أيامها في الكويت وأهل الكويت فرحوا به لأنني كنت أعطي أمثله بصدام وهو الوحيد الذي بإمكاني أن تتوفر لدي حرية نقده وأي حاكم أخر لا فأخذت أتحدث عن الحاكم العربي المستبد في شخص صدام أو أحدد القذافي وأحيانا أحدد عبد الناصر .
ونقرأ في كتابه "الطاغية.. دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي"، حيث يستهل كتابه بإهداء قال فيه: “الى الذين يعانون من ظلم الطغيان ووطأة الاستبداد ويتوقون الى الخلاص.. الى الذين يشعرون أن الحرية هي ماهية الانسان، إذا فقدها، فقد وجوده معها ..”. الى الذين يؤمنون أن أحدا منا ليس معصوما من الخطأ، ومن ثم يتقبلون الرأي الآخر برحابة صدر وسعة أفق”.
في مقدمة الكتاب يؤكد د. إمام أنه ما لم يحصل المواطن على حقوقه السياسية كاملة غير منقوصة، وعلى نحو طبيعي، فلا تكون منة أو هبة، أو منحة من أحد، بل يعترف المجتمع أن للفرد حقوقه الطبيعية وكرامته، بل قداسته من حيث هو إنسان فحسب، بغض النظر عن أي شيء آخر مما يحيط به سوى أنه إنسان، فلا شأن لدرجة الفقر أو نوع العمل الذي يؤديه أو جنسه ذكرا أو أنثى، أو ظروفه الأسرية- لا شأن لهذه الأمور كلها بأن يكون لكل فرد من الناس إنسانيته الكاملة التي يعترف بها مجتمعه على نحو طبيعي، بحيث ينحل الصراع بين السيد والعبد الذي أشار اليه هيجل، من تلقاء ذاته، فيعامل على أنه غاية في ذاته وليس وسيلة لشيء آخر، “أقول إنه ما لم ينل المواطن حقوقه كاملة: حقه في الحياة الآمنة، وفي أن يملك، وفي أن يعتنق ما يشاء من آراء وأن يفكر ويعبر عن أفكاره بحرية وأن يعمل العمل الذي يهواه وأن يشارك مشاركة فعالة في حكم نفسه عن طريق المجالس النيابية .. الخ، فلن يؤدي واجباته على نحو طبيعي- أعني بالتزام داخلي ينبع من ذاته، بل سيؤدي ما يؤديه منها بسبب الخوف من العقاب” والخوف هو المبدأ الذي يرتكز عليه حكم الطغيان والاستبداد كما أشار مونتسكيو ” – بحيث تظهر كل الرذائل في سلوكه إذا أمن شر العقاب : فلا مانع من أن يكذب، ويسرق وينافق ويغش ويخون .. الخ كلما سنحت له الفرصة !
ثم جعل الباب الأول على ثلاثة فصول: الأول: فيما يتعلق بفلسفة السلطة وضرورتها تفاديا للفوضى الصادرة عن اختلاف الأفكار والعقول، وبالأخص السلطة السياسية التي تتنفذ في شؤون الناس، وحين استخدام القوة وتجاوزها لنيل الأطماع بسبب انتهاء سلطة القانون وانتقال السلطة من مرحلة السلطة المجردة إلى مرحلة السلطة الشخصية التي يشعر أنه يملكها يتجاوز القهر المادي إلى الاعتماد على عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية وتاريخية، ومن ثم ظهرت نظريات تبرر للحاكم تصرفاته وجوره الثيوقراطية والتعاقدية والتطورية.
والفصل الثاني: بين الطريق إلى تأليه الحاكم شيئاً فشيئاً وخطوة فخطوة عبر تطورٍ لنظريات الحكم وساق في ذلك تأليه الحاكم في مصر القديمة في المملكة الفرعونية وصفاته، ثم ساق الطاعة البابلية متحدثا عن خطواتهم في ذلك، ثم الحال في فارس وإطلاقهم لقب ملك الملوك على إمبراطورهم وما أدى إليه، ثم عرج إلى ذكر الصين واعتقادهم أن الإمبراطور يستمد سلطته من السماء، ثم ذكر الاسكندر وتأليهه نفسه واعتقاد أن ما يقره الملك هو عادل أبداً.
والفصل الثالث: ذكر عائلة الطغيان، وبدأ بذكر معنى الطغيان، وأول من أطلق كلمة طاغية على ملك، مؤرخاً للمصطلح وجوده وتطور استخدامه، وذكر سمات الطغيان لدى طغاة الإغريق، ثم ذكر الاستبداد وإطلاقاته عند اليونانيين، وبين أوجه الشبه بينه وبين الطغيان، ثم ثلَّث بالديكتاتورية مبيناً المصطلح من حيث هو روماني الأصل ذاكراً تاريخ ظهوره، ثم عقب بالشمولية أو مذهب السلطة الجامعة كشكل من أشكال التنظيم السياسي المذيب لجميع أفراد ومؤسسات وجماعات المجتمع، وذكر أبرز خصائصها، ثم ذكر السلطة المطلقة التي لا يحدها حد من داخلها وبين تاريخ ظهور هذا المصطلح، ثم ذكر الأوتوقراطية وأنها تعني الحاكم الفرد الذي يجمع السلطة في يده، ثم ختم بالمستبد المستنير أو العادل وبين تاريخ ظهوره وبين بعد ذلك الأقوال في الحضارات والأديان باختصار في الموقف من الطاغية.
وشرع في الباب الثاني: صورتان للطاغية في الفلسفة اليونانية: جاعلاً الفصل الرابع: معبراً عن الطاغية في صورة الذئب، فذكر لقاء الفيلسوف أفلاطون مع أشهر طاغية ديونسيوس وسفره إليه ثم مع ابنه وسفره إليهما كمخاطرة وما وقع له من مؤامرة على بلاط الطاغية ويأسه من إصلاحه في رحلاته الثلاث، مستنتجاً عدة نتائج مستفادة، ثم صنف الدساتير إلى أصناف مبيناً قول أفلاطون وتقسيمه لذلك، وشرح كل صنف، ثم ذكر الطاغية الذئب ومكوناته وأنه لا يفرق بين المواطنين إلا يعتد أحداً صديقاً، ثم ذكر شخصية الطاغية ورغباته وحياته وأعوانه ونفسه، ليختم بذلك الفصل..
وجعل الفصل الخامس في الطاغية في صورة السيد، فبدأ بذكر نشأة الدولة كونها هي النواة الأولى لبناء المجتمع، مثنياً بنشأة السلطة وعرج إلى علاقة السيد والعبد والزوج وزوجته كتشبيه للسلطان والرعية، ثم ذكر ثالثاً أشكال الحكم وقسمه إلى قسمين صالحة وفاسدة وتحت كل قسم أنظمة مختلفة، ثم ذكر بعد ذلك الطاغية وأنواع الطغيان، واختلاف الطغيان عن النظام الملكي، وقارن بين الملك والطاغية وكيف يحتفظ الطاغية بحكمه، ثم ذكر خاتمة بعد هذا التفصيل لنظرية أرسطو عن الطاغية، وأورد أخيراً ثلاث ملاحظات..
ثم شرع في الباب الثالث: الطاغية يرتدي عباءة الدين: جعل الطاغية في العالم المسيحي فصلاً سادساً، مبيناً فيه انفصال فكرة الروح التي ركز عليها المسيح عليه السلام عن أي عقيدة سياسية، بمعنى آخر: الحياة مملكتان سماوية وأرضية، كانت الحياة في بداية المسيحية تتطلع إلى السماوية أكثر من الأخرى، حيث الأولى متعلق بها الروح، والثانية متعلقٌ بها الجسد، وعليه فما وقع على الجسد من رق أو أذىً أو نحو ذلك فلا حرج، وأما الروح فهي ملك للمسيح، من هنا تعلق الطغاة بهذه الفكرة، وأن السلاطين الكائنة هي مرتبة الله، وبهذا أضفيت القداسة على الحكم الاستبدادي، إلى أن ضعفت الإمبراطورية الرومانية وتطورت الكنيسة دخلت في إضفاء الشرعية الدينية على الحكم، وكان رضاها هو الآمر الناهي، فصار الحكام الذي نصبته هو سيف الله في الأرض، ثم ذكر البروتستانتية والطاغية، ورجعيتها وتبرير استبداد الطاغية للناس، وذكر بعض الآراء في ذلك..
ثم انتقل إلى الفصل السابع: وسمه بـالطاغية يرتدي عباءة الدين في العالم الإسلامي، وبدأ بتمهيد ذكر نماذج مشرقة في صدر الإسلام في مجالات شتى، ثم فرق بين الواقع والمثال في النظام الإسلامي وثنَّى بتشخيصه الخلافة الراشدة وأنها قامت على بذور ديمقراطية ودرج في الكلام عنها حتى انتقل إلى انتقالها من الخلافة إلى الملكية المستبدة على أن الأمويين أخذوا الحكم عنوة مناقشاً ذلك كله، ثم عرج إلى ذكر الطاغية العباسي يقصد السفاح، والخلافة العباسية، ثم ختم الفصل بست نقاط مستنتجة..
وأخيراً بدأ بالباب الرابع: فرار من الطاغية ... وفيه الفصل الثامن في أوروبا الديمقراطية، وقانون الرجل المحار الذي يعني نفي المواطن الذي يشعر الشعب بأنه خطر عليه، ذاكراً تجربة الحصانة من الطغاة في أثينا، وثنى بذكر الديمقراطية المباشرة في أثينا أيضاً، حيث تتولى جمعية شعبية سلطات البرلمانات كاملة، مع وقوع البلاد في أخطاء في فهم الديمقراطية المباشرة، ثم ذكر استئناف المسيرة في العصر الحديث ويعني بذلك انتعاش الديمقراطية في عصر النهضة ذاكراً بعض التفاصيل الحادثة آنذاك، مدعومة ببعض الآراء، التي تمنح الحرية لكل الإنسان، ثم ختم الفصل بإسهامات شتى للفلاسفة في مسيرة الديمقراطية تصب على أرض الحرية والمساواة بين الناس دون تمييز بين لون ولا جنس..
وفي الفصل التاسع: الطغيان الشرقي بدأ بظاهرة التوحيد بين الحاكم والشعب حيث يصبح الكل في واحد وأنه هو المنقذ الأوحد، ثم فسرها، وثنى بذكر طبيعة العبيد كتفسير لطغيان الشرق، مناقشاً بعض النظريات الفلسفية، وختم الفصل بخاتمة أوجز فيها الآثار السيئة التي يخلفها الطاغية في شعبه، وكيفية التخلص منها، خاتماً بذلك الكتاب في رحلته العميقة الغور..
وقال د. إمام إن القضية الأساسية في حياتنا هي قضية الطاغية الشرقي أو “الحكم الاستبدادي – بصفة عامة- ذلك الوحش المستقر في أغوار اللاوعي الجمعي في بلادنا! مشيرا إلى أنه ليس ثمة قضية أخرى أولى منها بالتفكير والكتابة والتحليل والبحث عن علاج.
وتابع د. إمام: “كنتُ أسكن في الشارع الرئيسي بمدينة أكسفورد وهو شارع ضيق إذا قورنت مساحته بكثافة السيارات التي تعبره كل يوم، ووقعت حادثة ذات صباح ” كان حريقا في أحد المحلات التجارية استدعى وجود سيارات الاطفاء، مما أحدث ارتباكا في تدفق المرور ” وتوقف السير في أحد اتجاهي الشارع، فاصطفت السيارات في طابور لا تستطيع العين أن تصل الى نهايته ..
ومع ذلك لم تخرج سيارة واحدة عن هذا الطابور الطويل لتسير في الاتجاه المقابل – رغم أنه لا يوجد رصيف ولا حجر واحد يمنعها من ذلك – وسألت نفسي: لمَ يلتزم المواطن على هذا النحو العجيب؟! وكانت الاجابة التي لم أتشكك لحظة واحدة في صدقها: الديمقراطية!
نعم الديمقراطية العتيقة في انجلترا التي أعطت لكل مواطن حقه وكرامته وقيمته وإنسانيته، فأصبح من الصعب عليه أن ينتهك حقوق الآخرين، لأن القوم سوف ينظرون اليه في هذه الحالة باحتقار شديد لسلوكه الشاذ الغريب!”. وخلص د. إمام الى أن الأخلاق مرتبة على النظام السياسي وليس العكس. وتابع د. إمام عبد الفتاح إمام: “تأمل أي حكم استبدادي في أي مرحلة من مراحل التاريخ، تجد انتشارا لجميع الرذائل لا تخطئه العين العابرة: الجبن، الخوف، النفاق، الكذب، الرياء، المداهنة، عدم الاخلاص في العمل، ومحاولة الافلات من القانون بشتى السبل!”
وقال د. إمام إنه في النظام السياسي السيئ يتم تحويل الشعب الى جماجم وهياكل عظمية تسير في الشارع منزوعة النخاع، شخصيات تافهة تطحنها مشاعر العجز والدونية واللاجدوى!
وأما عن تفسير الطغيان الشرقي، فقد قال د. إمام إن هناك محاولات كثيرة لتفسير الطغيان الشرقي والأسباب التي جعلت الحاكم الشرقي يبتلع كل شيء في الدولة والاستسلام العجيب من جانب المواطنين لهذا الضرب من الحكم الذي انفرد به الشرق، فذهب البعض الى القول إن الشرقيين هم بطبيعتهم عبيد يعشقون الطغيان ويستمتعون بالقسوة ويخلقون الطاغية إذا عز وجوده.
والسؤال : كيف يمكن التخلص من الطاغية؟
يؤكد د. إمام أنه لا سبيل أمامنا للتخلص من الطاغية سوى بفعل ما فعله الغرب بالفرار الى الحكم الديمقراطي ونتمسك به ونحرص عليه، مشيرا الى أن الديمقراطية ممارسة وتجربة إنسانية تصحح نفسها بنفسها، ناصحا برفع شعار: “أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية!”.
وردا على سؤال: “الشعوب المتخلفة لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها حكما ديمقراطيا صحيحا؟
قال د. إمام: كل ذلك مردود عليه بسؤال: “وما البديل؟” والجواب هو: “البديل هو حكم الطاغية أو المستبد أو الديكتاتور أو ما شئت من أسماء، وإذا كانت الديمقراطية ممارسة، فإننا سوف نبدأ بعد أن يحكمنا الطاغية عشرات السنين من البداية، من الصفر!
والديمقراطية الناقصة أو العرجاء خير ألف مرة من حكم الطغيان، ولقد جربنا نحن في مصر هذين النظامين وكانت الهوة بينهما شاسعة”.
وفي ختام هذه القراءة يمكننا القول بأن هذا الكتاب غنيّ بالأفكار والتفصيلات والتوضيحات حول شتى جوانب مسألة الطغيان، وتكمن أهمية الكتاب في تناوله لمسألة “الطغيان” من الجوانب الفلسفية والتاريخية والاجتماعية والنفسية، والمؤلف لا يكتفي بالطرح والمناقشة النظرية لهذه المسألة، وإنما يسقطها على الواقع، ويتبيّن ذلك من خلال إيراده للعديد من الأحداث والوقائع والمجريات القديمة والمعاصرة، وهناك سلبية نذكرها : وهي عدم تطرّق المؤلف إلى “الطغيان في الخطاب الفكري العربي المعاصر” ذلك أنه بالرغم من عدم وجود مؤلفات كثيرة في هذا الصدد ولكن توجد كتابات معاصرة تتناول الطغيان والاستبداد عبر دراسات وأبحاث منشورة في الصحف والدوريات العربية.
وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول تحية وفاء وعرفان واحترام لهذا الأستاذ الجليل الذى لم تستهويه السلطة، وظل معدنه أصيلًا لامعًا لا يصدأ أبدًا، فهو ذلك الذي كان متربعًا على قمة أساتذة الفلسفة الحديثة والمعاصرة في الوطن العربي، رغم محنة ضعف سمعه وبصره نتيجة الكر والفر بين صفحات الآلاف من الكتب والدراسات والمقالات التي تعامل معها الدكتور إمام عبد الفتاح فى رحلة أكاديمية فريدة كانت أدواته فيها هي الذكاء المشتعل والنظرة الحكيمة والبصيرة الواضحة والرؤية الشاملة.. فلقد كان رحمه الله صاحب قلب كبير، وعاطفة جياشة، وكبرياء لا ينحنى، ونفس تعلو فوق كل الصغائر. رحم الله أمام عبد الفتاح بما قدم لنا ولغيرنا من إسهامات مجيدة فى الفلسفة الغربية والعربية.
عن جريدة الاهرام