الصحيفة .. اول جريدة اشتراكية في تاريخ صحافتنا .. كيف صدرت وكيف احتجبت ؟

الصحيفة .. اول جريدة اشتراكية في تاريخ صحافتنا .. كيف صدرت وكيف احتجبت ؟

قيس ادريس
برز في العراق نخبة من المثقفين الذين تميزوا بالنزعة العصرية كالفكر الناقد والعلم الصحيح والعمل المثمر، وقد كانت تعددية الصحافة نقلة بالحياة الثقافية في التواصل والانفتاح من خلال الاختلاف في طرح الأفكار, فقد حملت الصحف مختلف الفنون الأدبية التي أهتمت بأحوال المجتمع والأحداث التاريخية والوقائع السياسية والاقتصادية

وتطورت أساليب الكتابة فتلاشت المفاهيم القديمة الجامدة وبدأت تستخدم المصنفات الأدبية كالقصة والمسرحية والرواية والشعر الرومانسي والقومي والوطني.
كان للصحافة حيز كبير في بواكير نشاط حسين الرحال الفكري لما يمتلكه من قدرات وإمكانيات فكرية متميزة, فضلاً عما يحمله من أفكار تقدمية متحررة أسهمت في تنويع ثقافته وسعة اطلاعه, ولكن نشاطه أصطدم بالموقف المتشدد من قبل الحكومة لحاملي الفكر التقدمي, ولكونه موظفاً حكومياً فضلاً عن معارضة القوى المحافظة لتلك الأفكار وكانوا الأكثرية آنذاك, لذلك غالباً ما كان يكتب بأسماء مستعارة, وأشار إلى ذلك الأمر أحد أعضاء حلقته وهو مصطفى علي عن ظروف الكتابة في ظل الموقف الحكومي المعارض لطرح أفكار تقدمية مشيراً: "كنا نكتب بأسماء مستعارة". ولهذا السبب لم يعثر الباحثين الذين تطرقوا لشخصية حســين الرحـال علــى كــل مــقـالاتــه فــي الصــحــف والمــجــلات الـتــي كــتب ونــشـر فـيهــا أو ســاهـم بتحريرها.
بالرغم من الموقف المتشدد من طرح الأفكار التقدمية إلا أن حسين الرحال كتب ونشر مقالات في عدة صحف ومجلات عراقية وأجنبية ولم يقتصر نشاطه على كتابة المقالات فقط بل كان يقوم بترجمة قصص وروايات وبحوث علمية من اللغات الأجنبية إلى العربية ونشرها في الصحف.
بدأ حسين الرحال حياته الصحفية بكتابة مقالات مشتركة مع محمود أحمد السيد على صفحات مجلة "اليقين", وكان أغلب تلك المقالات مترجمة عن الفرنسية لاطلاع الرأي العام على ما يجري في أوروبا من تجدد ورقي, وحثا على ضرورة اظهار الأفكار الجديدة والتطور الحاصل في العالم لرفاهية الناس واسعادهم. ولم يقتصر نشاط حسين الرحال على مجلة اليقين بل نشر بعض مقالاته في صحيفة "الاستقلال البغدادية", وأسهم معه بالكتابة من أعضاء حلقته الماركسية كل من عوني بكر صدقي ومصطفى علي.

بدأ حسين الرحال يعمل جاهداً للحصول على امتياز صحيفة لتكون لسان حال حلقته, وحصل على الامتياز في عام 1924. وبهذا الصدد ذكر مصطفى علي قائلاً: "عندما تم سد الأبـواب بـوجـهـنا وأشـتد الـهجوم عـلينا يـومــاً بـعد يـوم قـال حـسين الرحـال: "أنا عـندي امـتياز صحيفة", فقررنا إصدارها".
أصبح حسين الرحال مديرها المسؤول ومصطفى علي رئيس تحريرها, وصدر عددها الأول في بغداد يوم الأحد 28 كانون الأول 1924, وقد أختلف المؤرخون في تأريخ إصدارها.
تضمنت مجلة الصحيفة في افتتاحيتها الأولى عنواناً جاء فيه: "تتقدم الصحيفة اليوم إلى ميدان الصحافة لتقوم بما تستطيع القيام به من الواجب تجاه هذه الأمة الكريمة التي اتخذت رقيها واسعادها مثلها الأعلى في هذه الحياة, تصدع بما تراه حقاً, وتقول ما تعتمده صواباً وربما شذت عن طُرقٍ سلكتها الصحف من قبلها فيما إذا أقتضى لها أن تشذ, ستفرغ جهدها لتحقيق آمالها غير مبالية بما تعترضها من العقبات مستسهلة ومذللة ما يصادفها من المصاعب, غير مكترثة بما يقوله البعض وما يتذرعون به للوقوف في سبيلها".
وكان لصدور مجلة "الصحيفة" بعنوانها الأحمر أهم عمل مشترك لجماعة الرحال, فعدت هذه المجلة باكورة الصحافة الماركسية في العراق, لتكون لسان حالهم ومنبراً يبشرون من خلاله الفكر الماركسي, ويبدو أن اختيار عنوان المجلة باللون الأحمر للدلالة عن تبنيهم ذلك الفكر, كون الأحمر يمثل راية العمال.
وقد عبر حسين جميل عن صدور المجلة بقوله: "صدرت في كانون الأول 1924 في بغداد صحيفة نصف شهرية, طبع اسمها بالأحمر وبجوار الاسم أن مديرها حسين الرحال, فبادرت إلى شرائها وقرأت بعض موضوعاتها وكانت موضوعات جديدة عَلَيَ مثل "التطور", و"المحيط الاجتماعي ومقومات تكوينه", استهوتني هذه الأفكار وكانت هي التي بذرت بذورالتقدمية في تكويني الفكري".
اتخذت مجلة "الصحيفة" مقرها في غرفة متواضعة بشارع "الرشيد", مقابل "سينما الوطني حالياً"، ولم تقتصر الكتابة فيها على أفراد حلقة الرحال بل أسهم في تحريرها آخرون مــن المتأثرين بالفكر الاشـتراكي من غير الماركسيين الذين كانــوا يتفقون مع بعضهم في منطلقاتهم التحررية الوطنية.
وقد كانت الحياة الصحفية الجديدة لجماعة الرحال ومن خلال لسان حالهم "الصحيفة" تياراً مغايراً للعمل الصحفي التقليدي السائد آنذاك, إذ كانت الأولى من نوعها في حقبة عشرينيات القرن العشرين, فلم يكن رائدها الربح بل كان هدفها نشر الوعي الثقافي بين الناس. وأن صدورها عبر عن تطور ملموس ليس في الصحافة العراقية بل في الفكر السياسي والاجتماعي المتقدم. إذ كان يوحد مواضيعها خطٌ فكري وسياسي متجانس لمواجهة الواقع العراقي, وإيجاد الحلول للواقع الاجتماعي المتردي الذي أنحدر منه أعضاء حلقة الرحال أنفسهم وعملوا جاهدين لإزاحة الفكر المحافظ السائد, وترويج المفاهيم الجديدة وطرق التحليل المتطورة والمنهجية جاهدة في الوصول إلى الاكتمال, فالمتصفح لأعداد مجلة "الصحيفة" (1924 – 1925) يتلمس خطاً ماركسياً جنينياً في معالجات أهتمت بإبراز معطيات العلم الحديث في بلد كانت تسود فيه المفاهيم المثالية.

مهما يكن من أمر, وبالرغم من غلق مجلة "الصحيفة" بعد المعارضة على صدورها إلا أنها عاودت الصدور للمرة الثانية في 13 أيار 1927 بفضل الجهود التي بذلها عوني بكر صدقي الذي تولى رئاسة تحريرها, وأصبح محمد سليم فتاح مديرها المسؤول, وجاء في افتتاحية صدورها: "تعود الصحيفة إلى الظهور مستأنفة نضالها الأدبي معتمدة على معاضدة شباب الأمة المهذب ومناصرته عاملة على نشر مبادئها القويمة التي أُنشأت من أجلها".
على الرغم من الأمل الذي تركه إعادة صدور المجلة إلا أنها لم تستمر طويلاً إذ توقفت عـن الـصـدور فــي 27 أيار 1927, بـعـد أن صـدر مـنها عــددان الـسابـع والـثامـن فـوصـل مجموع أعدادها إلى ثمانية أعداد.من جملة الأسباب وراء غلق الصحيفة فضلاً عن معارضة الفئات المحافظة لها, كان الأسلوب العلمي الجاد الذي يطغي على صفحاتها جعلها صعبة الفهم على شريحة واسعة من المجتمع لمحدودية ثقافتهم الماركسية, قياساً إلى الصحف الأخرى فأثر ذلك على توزيعها فلم يكن واردها يغطي مصاريفها فكان جماعة الرحال يصرفون عليها من وارداتهم الخاصة المحدودة.
وفي الوقت ذاته كانت جماعة الرحال تعاني من ضائقة مالية, إذ أكد مصطفى علي ذلك: "كلنا من المفاليس آنذاك", وأشار أيضا "جلال خالد" ( قصة عراقية موجزة 1919 – 1923 أبطالها حسين الرحال ومحمود أحمد السيد, ألفها الأخير وأهداها إلى "فتية البلاد التي تريدها على الجهاد في سبيل الحرية والحق) إلى ذلك: "لن نستطيع نشر الصحيفة فما ينشر الصحف إلا المال الغزير وهو مفقود. وقد نملك منه قدراً يسيراً إن خسرناه خسرنا الحياة, وحياتنا لازمة لخدمة الشعب اليوم وغداً".
صدرت الصحيفة للمرة الثالثة أواخر عام 1953. غير أن دورها في نشر الفكر الماركسي يقتصر على مرحلتها الأولى بتأثير حسين الرحال.

عن رسالة (حسين الرحال ونشاطه الفكري في العراق )