عبد الرزاق الصافي وداعاً ..  حيث لم يعد للكلمات ما يُجبر خواطرنا...

عبد الرزاق الصافي وداعاً .. حيث لم يعد للكلمات ما يُجبر خواطرنا...

فخري كريم
توقف قلب الصافي عن الخفقان، ولم تكتمل بعد سيرته التي لم تُكتب، ولم يكن يريد أن يكتبها هو، ترفعاً عن الانشغال بما هو ذاتيّ. وما يضعف التصاقه بالقضية التي كرّس لها حياته وصارت جزءاً من كيانه وفكره والحلم الذي ظل يرافقه حتى اللحظة الأخيرة، وتوحّد معها، دون أن يفقد بريق الأمل بانبلاج فجر تغيير يستعيد فيه الإنسان ذاته وحضوره، ويصبح سيد مصيره ومستقبله .

كان إيمانه بعدالة قضيته لا يتزعزع حتى في أحلك الظروف حيث يبدو الأمل ترفاً وسراباً !
هل أقول في لحظة فقدانك غير ما كتبته في حياتك :
كل ما أعرفه عن ولادته ونشأته، أنه شبّ في مدينة كربلاء، وربما أنجز فروضه المدرسية البيتية في بساتينها، لشدة تعلقه بالبساتين، واستعداده لـ «افتعال» سفراتٍ شيقة الى بعقوبة أو غيرها، بعد أن استقر به المقام في بغداد، وأصبح رئيساً لتحرير جريدة طريق الشعب.
في أوائل السبعينيات. كان يمكن أن أعرف كل تفاصيل نشأته وصباه ودراسته، لكن ذلك لم يكن مهماً بالنسبة لي، في ذلك الزمن، كل ما كان مهماً، التعرف على ما تكشفه الدواخل العميقة، والسريرة، والطاقة العاطفية الإنسانية، وقدرتها على أن تكون واحة تتفجر فيها ينابيع الفرح، لتسعد الآخرين.
ليس الصافي وحده من لا أعرف «أصله وفصله»، بل أنا لا أعرف غير اسمي الثلاثي، وتاريخ الولادة الذي أتشارك به مع ملايين العراقيين، بعد أن ضاعت «ورقة الداية» من القرآن، حيث كانت الأسر القديمة تحفظ تواريخ ميلاد أبنائها وبناتها. وفي وقت متأخر، حاولت أن أعرف بعض تفاصيل خيبتي، مذ انحدرت صارخاً إلى الدنيا، من بعض من تبقى من عجائز العائلة وشيوخها، دون أن أحصل على ما ينفع كثيراً في تفسير مظاهر وتعرجات حياتي الشخصية غير المهمة لغيري.
وإذا لم أخطئ في التخمين، من المظاهر التي أحاطت بالعائلة، الإخوة والشقيقات، فإن أسرة الصافي كانت ميسورة الحال.
وكيف يكون الحال غير ذلك، وكل الأبناء على الأقل درسوا وتخرجوا في الجامعة ببغداد، محامين وأطباء وفي تخصصات جامعية عالية.
أكمل عبد الرزاق الصافي دراسة الحقوق، في السنة الأولى من عمر ثورة الرابع عشر من تموز بعد انقطاعاتٍ، بسبب الاعتقال والملاحقة، بعد انخراطه في العمل الطلابي والحزبي. ولست أدري إن كان زاول مهنة المحاماة بعد تخرجه، أم أخذته السياسة والنشاط الحزبي بعيداً عنها. وليست لذلك أهمية، لأن سيرته اللاحقة، بعد أن تعرفت عليه في أواخر الستينيات من القرن الماضي لأول مرة في موسكو، تؤشر الى التصاقه بالعمل الحزبي السياسي والإعلامي.
ومنذ لقائنا الأول في بغداد، بعد عودتي من موسكو، وانشغالنا في الصحافة الحزبية وما حولها، وجدت مشتركات أخرى، غير العمل الحزبي والإعلامي، وغير الانجذاب الى مساراتٍ حياتيةٍ، بدت لي حميمية، ترتقي بالعلاقة الى مشارف صداقةٍ تتجذر، تجعلنا أكثر التصاقاً وحرصاً على تضييق المسافة بين مشاغل العمل وهموم السياسة والصحافة، والحياة الخاصة، بحيث لم نكن نفترق إلا في أوقات النوم. والمشتركات تلك، تمثلت في شغفنا بالرمان والبرتقال وأكل «الركّي».! وهذا الشغف اليومي أفادنا كثيراً في تلك المرحلة المكفهرّة، الحبلى بالشكوك والخيبة والإحساس بالملاحقة من الأجهزة الأمنية البعثية ورصد كل تحركاتنا، ومحاولة التقاط ما نتداوله في الاجتماعات واللقاءات الخاصة. وهنا كان الرمان والبرتقال، ينتقلان بنا بما يُشبه العادة الى التمشي على ضفاف دجلة وفي يد الواحد منا، كيس يحمل البرتقال، والآخر قشوره.
كنا نردد، أحياناً، أن العمل السري يتفتق عن أساليب للإفلات من الرصد، لا تأتي على ذكرها كتب الدراسة الحزبية وفنون العمل السري، فكيف يمكن ذكر البرتقال والرمان في بلاد، يتعذر العثور عليهما..؟
(2)
يومها، كان «أبو مخلص» يبث كيمياءه الصداقي في محيط معارفه، لتتكون من بينها صداقات عمره. من جانبه، كانت شروط الصداقة لا تتطلب غير تلك الصفات التي يراها ضرورية في إنسانٍ لا يسد الاستئثار والأنانية المفرطة والغرور مسالك الحياة الجديرة بمناضلٍ غايته تغيير معادلاتها، وإعادة بنائها وصياغة مفاهيم قيمية جديدة، تضع الإنسان في المقام الأول، وتنبذ التشوهات التي راكمتها عهود العبودية والاستغلال. ولفرط ثقته بالمظاهر الأولية، كان يتوهم، أو يبالغ في التقدير، فيجانبه الحدس.
لم يكن الصافي يخلط بين المشاعر الشخصية، والحزازات التي تفرزها المطامع والتنافس وانتهاز الفرص، وتقييم العاملين في محيطه، أو في دائرته الحزبية الضيقة. ويكفي أن يتناوله أحدهم بسوءٍ في العلن وفي محفلٍ حزبي، حتى يكون ذلك كافياً لتجنب تناول الجوانب السلبية في حياته ونشاطه، حد المبالغة أحياناً في إبراز كفاءة الآخر والإشادة بخصالٍ ليست فيه!
كما تعرّض لتجنٍ فظّ ممن لفظتهم الحياة في تعرجاتها، وكشفت عن خصالهم الحقيقية، باعتبارهم مجرد أشباه رجال..
(3)
عبّر عن استغرابه من تهالك قياديي الحزب، وهم يثيرون صخباً، حول من ينبغي أن يدير عمل جريدة الحزب الأسبوعية في أول صدورٍ لها في بداية شهر العسل المرّ الخادع، زمن البعث في أوائل السبعينيات، قال ببساطة المتواضع المقتدر: لنبحث في المواصفات ثم نقرر، أبدأ بنفسي فأقول أنا لا أمتلك المواصفات التي تؤهلني للمهمة !
والواقع أنه كان أكثرهم جدارة وتوصيفاً لها. كان ذلك بالنسبة لي، أول اختبارٍ لمتانة خلقه، وترفعه عن الصغائر التي لا تخلق من البشر، سوى أشكال تفتقر لتلك السويّة التي يستحيل بدونها أن تصمد أمام تجربةٍ أو اختبارٍ أمام الإغراءات الصغيرة والوضيعة، وخصوصاً تلك التي ترتبط باستدراجات السلطة، وبريقها الزائف، التي أدت الى تعثر وسقوط كثيرين في دروبها التي أفضت بهم الى الخراب والتدهور.
(4)
مثقف، كاتبٌ، خريج حقوق، ومناضل، لم يتخلف عن مهمة، في أي موقع تقرر أن يكون فيه. وهو استثناء قدر معرفتي، بقبول مهمة دون سؤالٍ عن تفاصيل موقعه ومسؤوليته. رغم أن بعضاً من ذلك لم يكن في أحوال معينة، منقصة، أو عيباً يؤاخذ عليه. وفي حالات خاصة كان السؤال ضرورياً لمعرفة إمكانية تأدية المهمة الموكولة إليه، بالمستوى المطلوب.
عُرف عبد الرزاق الصافي بمساهماته في صياغة الوثائق السياسية الرسمية للحزب، والحرص على تجسيدها للتوجهات المرسومة، لكنه ظل كتوماً، لا يتسامح مع نفسه، أو يتساهل مع غيره، في أن يتبجح، ويوحي بأنه وراء هذا الموقف، أو تحديد وصياغة وثيقة أو كتيّبٍ. ولم يسمح لنفسه بادعاء إسناد تكليف قيادي له، او مجرد الإشارة الى أن فيها لمساتٍ منه، من باب الاعتزاز والفخر، وهي صفة يندر العثور عليها عند آخرين من القيادات الحزبية، ممن كان الواحد منهم لا يترك فرصة سانحةً الا ويتعمد ركوبها، أو كشفها. إنه يرى في التكليف، أياً كان، أمانة وتشريفاً، عليه تنفيذه بإبداع بعيدٍ عن التظاهر والتبجح والضجيج، وبغض النظر عن طبيعة التكليف، سواء كانت بمستوى قامته أو دونها من حيث التراتبية الحزبية، أو احتمال تعريضه للخطر.
(5)
كان الصافي وفياً لقيمِه، صادقاً، ونزيهاً.
في أكثر من موقف، أكد هذه الخصال، وتجاوزها دون افتعال. يوماً أجرت قيادة الحزب تنقلاتٍ بين قياديين في الداخل، وآخرين في الخارج. كان الصافي من بين المكلفين بالانتقال من كردستان «قبل تحريرها بانسحاب السلطة من مدنها» الى سوريا لقيادة العمل الإعلامي والعلاقات، وآخر معه لقيادة التنظيم الحزبي، والعمل في مواقع الداخل كان محفوفاً بالأخطار والمصاعب وشظف العيش، خلافاً لأي موقع في الخارج. بعد وقت قصير بدأت برقيات عبد الرزاق تترى، مطالبة بإلغاء تكليفه وإعادته الى موقعه السابق في كردستان، لأن العمل في موقعه الجديد يتعثر، ولا بد من إعادة من كان يتدبره، بأسرع وقت، فهو الأجدر..!
أيكون مثل هذا الموقف، نزوة، او محاولة لإظهار بطولة او نيل حظوة او مركز حزبي، وصاحبها، عضو في أعلى هيئة حزبية، وليس في مشروعه قطعاً أن يصبح أميناً عاماً؟
كلا دون أدنى شك، ذلك الموقف كان تعبيراً جلياً عن إخلاصه اللامتناهي لقضيته، وإضعافها او إعاقة تقدمها، بالنسبة له تجريح لضميره، وإدانة لصدقية إيمانه بالمبادئ والقيم التي نذر نفسه لها. وفي كل مرة يصادف ما يُشبه هذا الموقف كان الصافي يعيد تأكيد مأثرته التي تعكس مناعته الأخلاقية، وتفانيه.
لم يكن في ما يتخذه من مواقف على هذا الصعيد، تعبير عرضي عن سلوكه ونهجه في التعامل مع الحياة الحزبية، وحتى في حياته وعلاقاته الشخصية والعائلية الضيقة. وفي توجه لإعادة تقسيم العمل في المكتب السياسي، وبانضمام أعضاء جدد، تطوع أن يكون عضواً في لجنة تحت قيادة عضو جديد، مؤكداً أن ذلك أصلح للحزب، وسيبذل كل جهد لإنجاح عمل اللجنة!
أيكون هذا أيضاً نزوة او ادعاء، او محاولة لإظهار ما ليس في أساس سلوكه وسويّته الأخلاقية..؟!
(6)
بعد مهمة سفر كان يُرسل قائمة بالمصروفات بالأجزاء الصغيرة من أية عملة، تركية او إيرانية او سورية. ويتعفف عن نسيان كسور العملات المتبقية من مصروفاته، بعد أن يكون قد اختار أرخص المطاعم لوجباته، وأرخص الفنادق لإقامته. عندما كُلِفَ بمهمة سياسية في لبنان، للقيام بحملة إعلامية لفضح انتهاكات النظام بعد انقلاب ١٩٦٨، كان يواظب على إرسال تقارير منتظمة عن مصروفاته دون أن يطالبه أحدٌ بذلك. وحين سألته مرة، كيف كنت تدير أمورك المعيشية؟ قال ببساطة: كنت اهتديت الى مطعم سيّار، ورأيت أن وجبة دجاج مشوي هي الأرخص، وما كان مني إلا أن اشتري نصف دجاجة يومياً فاكتفي بها طعاماً لليوم بوجبتين..!
(7)
بعد ثورة ١٤ تموز رُشح الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وفي أعقاب انتهاء اجتماع اللجنة أبلغ بانتهاء ترشيحه، دون تفسير، ودون أن يسأل عن السبب! لم يعرف ولم يسأل حتى بعد أن عاد عضواً في اللجنة المركزية، ثم المكتب السياسي، وبالصدفة المحضة تطوع أحد رفاقه بتوضيح سبب إعفائه من الترشيح للجنة المركزية، ولسبب لو سئل عنه يوم تبليغه لأعيد النظر بالإعفاء، لكنه استمع للتفسير، واعتبر أن الأمر لا يستحق التوقف. فالحزب ومصلحته فوق كل اعتبار..
(8)
ترك العمر بصماته على عبد الرزاق الصافي، شكلاً، وقد تغير فيه بعض من عاداته وسلوكه. ربما صار أكثر الحاحاً على تفاصيل قد لا تعنيه، وقد يتدخل بحكم العادة في نصح من لا ينتصح، لكنه ظل على ما كان عليه.. لم تتغير خصاله الإنسانية التي شبّ عليها.. بقي ذلك الإنسان الذي لا ينكسر ولا ينثني أمام عواصف الحياة الكاسرة، متمسكاً بمبادئه وخياره الذي اهتدى اليه في شبابه...
ظل الصافي، رغم التغيرات التي عصفت بالعالم، وقلبت الموازين، وأطاحت بعالم الأمل، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، محافظاً على استعداده في أن يستل قلمه، كلما سُلم ورقة او وثيقة، مستعداً لتصحيحها او الإضافة إليها، كما لو أنها مقالة او بيان او رسالة حزبية..
ومرات يكتشف، او يُقال له، وهو ينوي امتشاق قلمه: عبد الرزاق هذه قائمة كهرباء.... أو تقول له زوجته: أبو مخلص، أرجوك لا تكتب، او تشخبط، فما بيدك هو عقد زواجنا..!
مهما تغيّر العالم من حولنا، فسأظل أصطفيك صديق العمر.

عن صحيفة المدى