الجزائرية آسيا جبار.. الكاتبة التي لا تغيب

الجزائرية آسيا جبار.. الكاتبة التي لا تغيب

عيسى مخلوف
لا إصدارَ جديداً للكاتبة الجزائرية باللغة الفرنسية آسيا جبّار، ومع ذلك فإنّ قديمها متجدّد ويتمّ تداوله باستمرار، والكاتبة حاضرة في المشهد الثقافي الفرنسي من خلال مؤلفاتها وكذلك السجالات التي فتحتها وتتناول بالأخصّ موضوع الهوية والاستعمار والمرأة واللغة.

ولقد جرى مؤخّراً في المدينة الجامعية في باريس لقاء حول كتابها "لا مكان في بيت أبي" الذي يحكي سيرة فتاة تعيش في الجزائر العاصمة، تخرج من الثانوية حيث تتابع دروسها وتجول في الشوارع فرِحَةً بما ترى، مأخوذة بفضاءات المدينة وبالشعر. غير أنّ هذه الحياة الحرّة العذبة جاءت قبل عام واحد من انفجار كبير هزّ البلد بأكمله.

في هذا الكتاب الذي يروي جزءاً من السيرة الذاتية للكاتبة، تمّ التركيز أيضاً على بعض الموضوعات الأخرى: جروح الوطن وجروح الذات المقيمة في الوطن. ويكشف الكتاب عن حال التمزّق أمام واقع شديد التناقض والتعقيد والقسوة. يضاعف من حدّة المواقف أنّ الكاتبة عاشت بين لغتَين وثقافتَين، وعبّرت في نتاجها الأدبي عن هذه الازدواجيّة بأشكال مختلفة.
تقول آسيا جبّار: "أكتب ضدّ الموت، أكتب ضدّ النسيان. أكتب على أمل أن أترك أثراً ما، ظلاً، نقشاً في الرمل المتحرّك، في الرماد الذي يطير وفي الصحراء التي تصعد...". وراء هذا النفَس الشعري، نقرأ أيضاً أنّ الكتابة فعل أمل وتعبير عن التزام بالإنسان وتطلّعاته وهمومه. وهي هذه النزعة الإنسانية بالذات ما طبع نتاجها المتعدِّد، شعراً ورواية ومسرحاً وأفلاماً وثائقية تجلّت في أفلامها "نوبة نساء جبل شنوة" (1977) الذي حاز على جائزة النقد العالمي في مهرجان البندقية للعام 1979، وفيلم "زردة أو أغاني النسيان" (1982) الذي نال جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، وقد اهتمّت في عملها السينمائي برصد الواقع الجزائري، والمرأة والذاكرة، وهي، كما أشرنا، من المحاور الأساسية التي تطالعنا في عملها الأدبي. ولدت الأديبة آسيا جبار واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء عام 1936 في مدينة شرشال حيث تلقت دراستها الأولى في المدرسة القرآنية قبل أن تلتحق بالمدرسة الابتدائية الفرنسية في مدينة موزايا ثم البليدة فالجزائر العاصمة. وكان لوالدها دور مهم في تشجيعها على متابعة تحصيلها العلمي ودفعها دائماً إلى الأمام، وهي تصفه "بالرجل الذي يؤمن بالحداثة والانفتاح والحرية". ولم تمنعها دراستها في فرنسا من المشاركة في تظاهرات الطلبة الجزائريين المؤيدين للثورة الجزائرية.
بين الجزائر وفرنسا توالت أعمالها الروائية، من رواية "العطش" إلى روايات أخرى: "بعيداً من المدينة"، "نافذة الصبر"، "الحب الفانتازيا أو ظلّ السلطان"، "شاسع هو السجن" و"ليالي ستراسبورغ"... في هذه الروايات تروي الكاتبة أيضاً جزءاً من سيرتها وسيرة بلدها، وتستند إلى التاريخ كأحد العناصر الأساسية في بلورة أعمالها بدون أن تنتمي هذه الأعمال إلى صنف الرواية التاريخية، بل هي أبعد ما تكون عن ذلك. فهي تنطلق من وقائع تاريخية ثابتة ومحددة كما في روايتها "وهران لغة ميتة" التي تروي فيها معاناة المرأة الجزائرية في مرحلة صعود التيار المتشدّد في التسعينيات، أو كما في كتابها "أبيض الجزائر" التي تحكي فيه عن مشكلات اللغة المطروحة داخل الجزائر والتي تعمّقت بفعل مرحلة الاستعمار. وهي تعي هذه المسألة تماماً خاصة أنها ترعرعت في كنف البربرية والمحكية الجزائرية والفرنسية. من هنا كان موضوع اللغة من المواضيع التي شغلت الكاتبة طوال مسيرتها الإبداعية ولا تزال تشغلها حتى اليوم. ولقد عبّرت عن هذا الهاجس في مناسبات عدة لا سيما في "البرلمان العالمي للكتّاب" وهي من أعضائه منذ تأسيسه عام 1994، حيث قالت إنها "دائمة الانشغال بمسألة التنوّع الألسني والثقافي في الجزائر وفي دول أخرى".
عملت آسيا جبار منذ عام 1997 مديرة في "مركز الدراسات الفرنسية" في جامعة لويزيانا، ومنذ أربع سنوات تعمل كأستاذة محاضرة في جامعة نيويورك، وأعمالها الأدبية مترجمة إلى الكثير من اللغات. كما أن اسمها في السنوات الأخيرة كان مطروحاً بين الأسماء المحتملة لجائزة نوبل للآداب. ولا بدّ من الإشارة أخيراً إلى أنّ تجربة آسيا جبار الأدبية، ككل التجارب الإبداعية الكبيرة، تنطلق من الخاصّ لتلامس العام، ومن معاناة الإنسان في الجزائر لتلامس معاناة الإنسان في العالم أجمع.
عام 2005، تمّ انتخاب الكاتبة الجزائريّة آسيا جبار عضواً في الأكاديمية الفرنسية. وجاء هذا التعيين تتويجاً لتجربتها الإبداعية، ولمساهمتها الفعّالة في الحياة الثقافية، وكذلك للعب دور الوسيط بين ثقافتين ولغتين، بل بين الشرق والغرب، ومَن غير المبدع الحقيقي يستطيع أن يكون جسراً بين الثقافات والحضارات المختلفة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى مثل هذه الجسور، كأداة تواصُل وتقارب وتَفاعل، وذلك لصالح الإنسانية جمعاء.
عن صحيفة الاخبار اللبنانية