شيء عن البصرة ومينائها في اواخر العهد العثماني.. كيف بدأ السكن خارج سور المدينة القديمة ؟

شيء عن البصرة ومينائها في اواخر العهد العثماني.. كيف بدأ السكن خارج سور المدينة القديمة ؟

د . يقظان سعدون العامر
كانت البصرة مسورة ، وسورها ، كما يصفه القاضي احمد نور الانصاري ، ( من لبن غير مفخور ، وبعضه متداع قريب الاضمحلال ) ، وتتخلّل السور خمسة ابواب هي باب بغداد وباب الزبير وباب السراجي وباب المجمعة وباب الرباط ، اما حدود مدينة البصرة فيحدها من جهة الشرق شط العرب ومن االغرب الصحراء الممتدة حتى مدينة الزبير ،

ومن الشمال نهر الخندق ومن الجنوب نهر الخورة ، ويشق المدينة نهر العشار الذي يسقي النخيل والاشجار ويستسقي منه اهلها ، وكذلك تدخل فيه السفن الصغيرة ، تجلب الامتعة من رصيف العشارالى الكمرك ، وبما ان تقاطع الجداول الفرعية مع الانهار الرئيسية ادى تقسيمها الى عدة محلات بحيث اصبح لكل محلة وقرية نهرها ، مما جعل الاتصال بينهما يتم بواسطة القوارب المحلية الامر الذي جعل بعض السواح الاجانب يطلقون على البصرة بـ ( بندقية الشرق ) ، وتقع في القسم الجنوبي في العشار عند مدخل المدينة غالبية البيوت ومعظم الاسواق وسراي الحكومة ومحكمة التجارة ودائرة البلدية ودائرة الكمرك ، اما مساكن اهلها فتسعة اعشارها ، كما ذكر الانصاري ، ساوت التراب ، واما العشر الباقي فهو مساكن الوجوه وسائر الناس الموجودين ، ويرجع ذلك الى ما فعلته الاوبئة التي اجتاحت البصرة ، والى اهمال الولاة وعدم شعورهم بالمسؤلية وكذلك الى عدم اهتمام السلطة المركزية بالعراق بصورة خاصة ، ويقع ( القوناق ) وهو مقر الوالي وجميع الدوائر الاخرى على ضفة العشار عند مدخل المدينة ، وكان يتألف من بناية من طابقين مبنية من اللبن لا يميزها شيئ من الابنية المحيطة بها غير ضخامتها وشكلها الذي يشبه الثكنة ، اما سوق المدينة والذي يمتد بمحاذاة نهر العشار فيضم ( مالايقل عن الف وخمسمائة وكان يغص ، بسبب انعدام البضائع المنتجة محلياً ، اما ببضائع اوربية صرفة . . . او بالمنتجات العربية المستوردة . . . ) وتوجد في كثير من المواضع في السوق وفي جميع ساحات المدينة وتقاطع الشواع فيها المقاهي والتي تقوم بمقام النوادي حيث يجتمع فيها الناس يتحدثون عن امور حياتهم او يعقدون صفقات تجارية ، وتحوي المدينة ثلاث كنائس تعود للطوائف المسيحية الغالبة وهي السريان والكاثوليك والسريان الكلدان والارمن حيث يمارسون شعائرهم الدينية .
وشهدت البصرة توسعاً خلال ولاية مدحت باشا للعراق حيث قام في عام 1870 ببناء ضاحية جديدة وهي المنطقة المحصورة بين نهر العشار و(الخورة ( لتكون نواة في البصرة الجديدة لينقل هذه المدينة بعيداً عن المستنقعات ) ، وبذلك أوصل البصرة الى شط العرب ، وقام بنقل مقر الحكومة وشيد مبان للادارات والكمارك وبدأ ببناء ثكنة عسكرية ومستشفى عسكري ، وقامت الشركات الاجنبية العاملة بالبصرة ببناء مستودعات وارصفة لها على شط العرب ، يضاف الى ذلك ، شجع مدحت باشا بكل الوسائل بناء الدور هناك وقام بتأجير الاراضي الاميرية تأجيراً طويل الامد ، وبما ان مدحت باشا كانت لديه مشاريع يريد القيام بها في منطقة الخليج العربي ، وكجزء من اهتمام اسطنبول اصلاح الاسطول في البصرة من جديد والتي سبق لها ان بعثت احداً من امراء البحرية مع بعض الضباط الموظفين للشروع بالعمل ، امر مدحت باشا بتوسيع ميناء البصرة وبناء حوض داخلي على شط العرب في منطقة المعقل لترسوا فيه البواخر ذات الغاطس الكبير ، لان الحوض القديم والذي يقع على نهر العشار في منطقة المناوي اصبح غير قادر على استقبال البواخر الكبيرة ، وبعد أن اكتمل الحوض الجديد استوردت الدولة آلة لرفع ما وزنه بين 30 ـ 35 طن من الحمولة ومن والي البواخر ، كما امرت ببناء في المنطقة الشمالية للحوض وفي منطقة المعقل لتغطي حاجة الرصيف والحوض ، الا ان ميناء البصرة تعرض الى الاهمال ، فالسكن في ضاحية مقام علي لم يكن آنذاك آمن ، وهذا لم يشجع الاهالي على السكن فيه ، علاوة على ذلك لم يكن بعض الولاة الذين جاؤا بعد مدحت باشا متحمسين لفكرة تطوير ميناء البصرة .
لذلك توقف السكن في مقام علي في عهد الوالي ناصر السعدون الذي اعاد ( القوناق ) الى البصرة واصدر امراً مشدداً لسكان البصرة يمنعهم فيهم من السكن خارج حدود المدينة ، ومع ذلك فأن الحياة اخذت تعود الى ضاحية مقام علي او ميناء البصرة شيئاَ فشيئاً ، فالرحالة الاجانب الذين زاروا البصرة في العقد الاخير من القرن الماضي ذكروا بأن ( ميناء البصرة ميناء حديث ونامي ، وهناك سوق صغير مملوء بالبضائع الاجنبية ، ثم أخذ أهالي البصرة بالانتقال الى منطقة الميناء تدريجياً ، واسس ( منكرديك ) احدى الشخصيات البصرية في عام 1897 ( شركة العربات بالخيل ) لنقل الناس من البصرة الى الميناء ، وتأسست بعد ذلك ( شركات ) مماثلة .
واصبح ميناء البصرة في اوائل القرن الحالي ، كما يصفه لنا اداموف ، قنصل روسيا ً القيصرية في البصرة قبل الحرب العالمية الاولى ، يضم الترسانة البحرية وورشة تصليح محركات السفن والمدافع والاسلحة الملحقة بها ، وكذلك ادارة الميناء ودائرة الكمارك ودائرة الحجر الصحي ومكتب قائد الاسطول العثماني الصغير ومكاتب جنود البحري ، وتقع على الضفة اليسرى من نهر العشار عند تفرعه من شط العرب تقع بطارية مدفعية بنيت من الطين وسعف النخيل حيث يقوم فيها جنود المدفعية ، ويوجد في هذه الضفة ايضاً ( قوناق ) مدحت باشا المهجور ، وعلى الضفة اليمنى توجد ترسانة لصنع قوارب نقل المسافرين وكذلك السفن الكبيرة الحجم لنقل البضائع والتي تقع خلف دائرة الكمارك ، ويتصل بدائرة الكمارك والترسانة سوق ضاحية مقام علي الذي يحوي على اكثر من اربعمائة دكان ، وعند بداية االسوق يقوم فوق نهر العشار جسر كلون من الجذوع والالواح ، اما المباني الواقعة على الضفة اليمنى لشط العرب والتي كانت تشغله منطقة المناوي قبل ذلك ، فهي تقع ضمن منطقة الميناء ، وجميع هذه المباني هي اما ملكاً للشركات التجارية الاوربية او مستأجرة من قبلها ، لان هذه الشركات انتقلت الى هناك لتكون مقربة الميناء ، وقبل ان ينتقلوا الى منطقة الميناء ، كان الاوربيون يسكنون منطقة الماركيل ( تحريف معقل ) أو كوت أفرنجي إذ كانت توجد هناك القنصلية البرطانية التي تطل على شط العرب ، ويوجد في المعقل حوض جاف وورشة تعود لشركة الفرات ودجلة للملاحة البّخارية ، ويوجد على الضفة اليمنى من شط العرب مبنى وحيد وهو مبنى المستشفى العسكري البحري الذي يتألف من طابقين ويضم ستين سريراً ، أن سبب أختيار هذه المنطقة لبناء المستشفى صحي وذلك لانعدام المياه الراكدة فيما حيث ان الكثير من البصريين الموسرين ينتقلون في الصيف الى القرية ( كردلان ) الواقعة الى الاعلى قليلاً من المستشفى على نهر يحمل نفس الاسم ، وهكذا ازدهرت منطقة الميناء في العقد الاول من القرن الحالي الى درجة ان بعض الاوربيين ابدوا اعجابهم بها لنظافتها وسعتها ولبناياتها الشاهقة وقصورها الانيقة المزركشة بشناشيلها ولمنظر قواربها الراسية على طول نهر العشار على مقربة من ابواب تلك القصور والتي هي الواسطة الرئيسية لتنقل في ارجاء المدينة ، فضلاً عن ذلك ، ومن اجل منطقة الميناء بالبصرة ، فقد قررت السلطات العثمانية المحلية في عام 1908 شق طريق عرضه اربعة عشر متراً محاذياً لنهر العشار ، وكذلك ربط الميناء والمدينة بخط تراموي ، وقامت باستملاك الدور وهدمها ، وفي العام التالي افتتح سليمان نظيف والي البصرة هذا الطريق الذي لم يتم اكسائه بالقير الا في عام 1922 ، وقام ببناء مخفر في وسط الطريق يقال له ( الرشادية ) ، وفي العام نفسه كلفت السلطات المحلية بعض الوجهاء تأسيس شركة تقوم بتزويد المدينة بمياه الشرب بواسطة شبكة من الانايب الحديدية ، وتأسست الشركة واستعانت بخبرة مهندس هندي ، وعلى الرغم من المسوحات التي قامت بها الشركة الا ان المشروع لم ير النور .

عن بحث ( البصرة في العهد العثماني الاخير)