نوري السعيد كما تصفه الرحالة  الانكليزية فريا ستارك

نوري السعيد كما تصفه الرحالة الانكليزية فريا ستارك

ابتسام حمود الحربي
التقت فريا ستارك السيدة البريطانية التي زارت العراق لمرات عديدة في العهد الملكي بنوري سعيد بعد مغادرتها العراق في تموز 1943 ، متجهة الى بريطانيا ، عندما توقفت في بيروت في احد الفنادق ، اذ كان نوري باشا ، رئيس وزراء العراق (الوزارة السعيدية السابعة 8تشرين الاول / 19 كانون الاول 1942) يقضي فترة نقاهة بعد اصابته بمرض الالتهاب الرئوي ، وكان جالسا على مصطبة دائرية في حديقة جميلة يلعب لعبة الطاولة

وكما تتحدث عنه فريا ستارك ولد نوري باشا في بغداد سنة 1888 ، وهو مسلم تعلم في اسطنبول، ويجيد تكلم عدة لغات اضافة الى لغتيه العربية والكردية، فكان يجيد اللغات التركية والالمانية والفرنسية والانكليزية، وكان اول لقاء له مع الانكليز في البصرة عام 1914 بعد سنة من التحاقه في تاسيس جمعية العهد السرية ، وكان هدفه هو الحصول على حرية العرب ، هذا الهدف اصبح كنجمة القطب بالنسبة له منذ ذلك الحين .
وفي العام 1916 التحق بجيش الشريف حسين(1854-1931)، وقاد قسم من القوات المصرية الى جانب دول الوفاق ضد الاتراك، وفي العام 1921 عاد الى بغداد، وكان من المؤثرين الذين دعوا لترشيح فيصل ملكا على العراق ، وكان منذ ذلك الوقت كوزير ، ورئيس وزراء، وفي اذار 1942 اراد اقحام العراق الى جانب دول الوفاق، لكن صعوبة تجهيز العراق بالمعدات العسكرية حالت دون ذلك . ان شجاعته وذكاءه واخلاصه في الشدة والرخاء لاصدقائه ، ولامبالاته لكل فخامات وابهات المكتب، جعلته رقيقا محبوبا، اضافة لخبرته بوصفه رجل دولة متمدناً جعلت منه واحدا من قادتها المهمين في ذلك الوقت. و جمعية العهد السرية : من الجمعيات العربية التي تاسست في اسطنبول سنة 1913 واخذت تبذل المساعي في مصلحة العرب الى ان اعتقلت الحكومة التركية زعميها المرحوم (عزيز علي المصري) وابعدته الى مصر بعد تبديل عقوبة الاعدام التي اصدرتها بحقه ، ولما اعلنت الثورة العربية في الحجاز قام رجال هذه الجمعية باعادة تشكيلها من جديد ، اصبح مركز هذه الجمعية في دمشق بعد اندلاع الحرب العالمية الاولى ، انقسمت الجمعية الى فرعين عهد سوري وعهد عراقي ، اذا اعتبر هذا الانقسام ملائما للاوضاع الجديدة بعد ان اصبحت سوريا مهدده بالاحتلال الفرنسي والعراق يقاوم الاحتلال البريطاني
مثل العراق في كانون الثاني عام 1939 في لندن خلال المباحثات حول فلسطين، واستمعت فريا ستارك الى وجهات نظره حول هذه المسألة ، وكانت فكرة الوحدة العربية تشغل حيزا كبيرا في تفكيره، وعندما سالته فريا ستارك عن عملية التوحيد فيما اذا ستحصل بشكل سريع ام تدريجي، وعن اعتقاده في قيام اتحاد اقتصادي، وهل سيؤدي ذلك الى اتحاد سياسي مع مرور الوقت، اجابها قائلا : "ان ذلك سيكون فيه عملية التوحيد التي يجب ان لا تكون تدريجية، لان كامل التنمية والتطور ينموان بشكل سريع ، لذا فالتطور السياسي يجب ان يتبع التطور الاقتصادي في السرعة" . وعندما سألته عن السياسة العربية الخارجية، اجابها قائلا بعد برهة تفكير ، "توحدت فعلاً بواسطة قوة الاحداث، واننا نساعد الحلفاء بطريقة او باخرى خلال الحربين العالمتين الاولى والثانية" ، كان نوري باشا من اكثر القادة العرب تفاؤلا، اذ كان يرى الوحدة السياسية تأتي بصورة بطيئة جدا كنتيجة للعمل الناجح.
تركت فريا ستارك نوري سعيد في بيروت ، ورحلت متجهة عبر بيروت وفلسطين والقاهرة الى بريطانيا بعد سنتان وثلاثة اشهر سنوات قضتها في العالم العربي، الا ان هذه الرحلة لم تكن الاخيرة ، فقد زارت العراق مرة اخرى عام 1957، والتقت مرة اخرى بنوري السعيد لاخر مرة قبل مقتله بعام واحد، عدته الرجل العظيم الوحيد في الشرق الاوسط، منذ شبابه وحياته التي كرسها من اجل العمل لعالم عربي موحد . انه سوف يذكر حتى من قبل شعبه عند كتابة التاريخ . وبالنسبة لفريا ستارك كان صديقا لاكثر من جيل، وفي اخر مرة رأته فيها سألته عن مستقبل العراق وهل سيكون آمنا ؟ فاجابها "بانه يمكن ان يكون آمنا اذا استطعنا ابقاءه هادئا لمدة عشر سنوات، ونسمح للطبقة الوسطى ان تدخل نفسها في بنائه" ، لكن هل نستطيع " ضَحَكَ وكان جسمه الضئيل والسحر الولادي لا يفارقه رغم كبر سنه "، ولو ان نوري السعيد افاد من شعبيته الى اقصى حد لاستطاع ان يجعل الناس تسير خلفه، ولما انتهت حياته بهذه الطريقة المأساوية البشعة .
وقد روى صديق فريا ستارك السيد بات دومفايل Pat Domvile لفريا ستارك النهاية المأساوية لنوري السعيد ، اذ كان منزل بات مقابل المقبرة ، وقد رأى في ضوء الغسق، بعد حظر التجوال حين لم يكن هناك احد، بعض الرجال بعثتهم الحكومة الجديدة لمواراة جثمانه بهدوء ، وفي صباح اليوم التالي قبل الفجر استيقظ بات على اصوت الاشخاص المتجمهرين ، الذين بلغ عددهم اربعين رجلا معظمهم يعرفهم ، وكانوا جميعاً على صلة برشيد علي الكيلاني والعقداء الاربعة ، وقد حفروا اربعة عشر قبرا قبل العثور على جثة نوري السعيد ، وهذا يعني عدم وجود تواطؤ بينهم وبين الاشخاص الذين دفنوا نوري قبل يوم ، لأنهم نقبوا اكثر من قبر حتى عثروا على ضالتهم ، حيث القوا الجثة في الطريق، وجعلوا السيارات المارة تمر وتعبر على جسده، وعاملوا الجثة المسكينة بكل وحشية لم يشهد لها العراق بتاريخه الطويل أي مثيل من حيث الاساءة.

عن رسالة (فريا ستارك وأثرها السياسي
والاجتماعي في العراق)