20 مايس 1932 .. طاغور شاعر الهند يزور بغداد

20 مايس 1932 .. طاغور شاعر الهند يزور بغداد

رفعة عبد الرزاق محمد
كان طاغور يحب السفر والتجوال فـي أنحاء العالم، ولا أدري هل كانت زياراته لدول عديدة تلبية لدعوات رفـيعة المستوى تأتيه من تلك الدول ؟ فقد كان زاهدا متقشفا، غير ان زيارته للعراق كانت بدعوة من ملك العراق فـيصل الاول. وقد زار قبل هذا انكلترا وفرنسا والمانيا واليابان وأمريكا والاتحاد السوفـييتي والصين وجنوب افريقيا وكندا وايطاليا وتركيا ومصر.

ويذكر ان الملك فـيصل الاول اراد استدعاء بعض الشخصيات الادبية والعلمية الى العراق لاطلاعهم على معالم النهضة على عهده، ومن هؤلاء الشاعر الكبير احمد شوقي، الا ان هذا اعتذر لمرضه وارسل الفنان محمد عبد الوهاب عنه الى المعرض الصناعي الزراعي فـي بغداد فـي نيسان 1932 وغنى فـيه قصيدة شوقي (يا شراعا وراء دجلة يجري).
وفـي العشرين من ايار سنة 1932 وصل الاديب الهندي الكبير رابندرنات طاغور الى الحدود العراقية قادما من الاراضي الايرانية، عند بلدة خانقين . وكانت الحكومة العراقية قد اعدت وفدا لاستقباله عند الحدود، مكونا من عدد من المثقفـين العراقيين برئاسة الشاعر جميل صدقي الزهاوي، وفاضل الجمالي وعبد القادر أسماعيل والشيخ كمال الدين الطائي ونوري ثابت والشيخ محمد بهجة الاثري وعبد المسيح وزير وأنورشاؤل وابراهيم حلمي العمر (الاسماء حسب الصورة الملتقطة لهم مع طاغور فـي خانقين).
وصل طاغور الى الاراضي العراقية فـي الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم ويرافقه القنصل الايراني فـي بومبي جلال الدين كيهان والدكتور جاترجي الاستاذ فـي كلية طاغور فـي الهند وسكرتير طاغورالسيد جكراواردي وزوجة ابن طاغور المدعوة (كنته). كان الشاعر الزهاوي اول المتقدمين للترحيب به وقال له : يرحب العراق بشاعر الشرق العظيم ويحيي فـيه العبقرية والنبوغ. فرد عليه طاغور قائلا : انني سعيد بمجيء شاعر العرب الكبير لتحيتي وهي تحية شاعر لشاعر. ثم التقطا صورة وهما جنبا الى جنب. ثم تقدم اعضاء وفد الاستقبال ورحبوا بالضيف الكريم. واستقل الجميع السيارات الى محطة قطار خانقين حيث اقيم احتفال ترحيبي بطاغور، حضره كبار الموظفـين وطلبة المدارس وفرق الكشافة. وبعد حفلة شرب الشاي، صعد الجميع القطار المتوجه الى بغداد. وعندما وصل القطار الى مدينة بعقوبة استقبل ضيف العراق استقبالا رسميا وشعبيا كبيرا. وتابع القطار سيره نحو بغداد، وعلى امتداد الطريق جرى حديث ادبي ماتع بين طاغور واللجنة الخاصة بمرافقته، وكان الحديث يدور حول نهضة الشرق وتطلعه الى حياة جديدة، وكان طاغوريسأل عن احوال العراق وما ينتجه صناعيا وزراعيا وفكريا.
وفـي الساعة السادسة والنصف من مساء اليوم وصل القطار بغداد، وكانت محطة القطار غاصة بالمستقبلين من كبار الشخصيات الادبية والعلمية وموظفـي الدولة وعدد من الشخصيات النسوية، اضافة الى عدد كبير من الجالية الهندية فـي العراق. وما ان نزل طاغور من عربة القطار حتى علا الجو صوت التصفـيق والهتاف، ثم تقدمت طالبة من المدرسة المركزية للبنات والقت خطبة باللغة الانكليزية. وتقدم احد اعضاء الجالية الهندية وطوق عنقه بطوق من الزهور. وبعدها استقل سيارة خاصة نقلته الى مكان اقامته فـي بغداد وهو فندق قصر دجلة (تايكرس بالس) فـي شارع الرشيد (السنك). وفـي اليوم التالي استقبل طاغور فـي مقره المرحبين به من جميع طبقات الشعب وشرائحه الثقافـية. وكانت القصائد والكلمات تتلى امامه، وقد تناوب على الترجمة اثنان من المترجمين احدهما عراقي وهو الاستاذ عبد المسيح وزير، والثاني كان هنديا يعمل فـي المقيمية البريطانية ببغداد. اما ماجرى لطاغور ببغداد بعد هذا، فنجمله فـي الفقرات التالية :
اول حفلة اقيمت لطاغور، نظمتها لجنة الاحتفال به مساء يوم 23 ايار على حديقة امانة العاصمة المجاورة لقاعة الملك فـيصل (الشعب فـيما بعد)، حضرها رئيس الوزراء والوزراء والنواب وكبار الشخصيات العراقية والاجنبية. وبدأت بوصلات موسيقية لفرقة موسيقى الجيش ثم كلمة لجنة الاحتفال القاها ابراهيم حلمي العمر، وفـي هذه الحفلة القى الشاعر الكبير معروف الرصافـي قصيدته الشهيرة (الحقيقة المطلقة) ضمنها العديد من افكاره فـي وحدة الوجود، وهي ما اعتنقه الرصافـي بعد بحث وتفكير طويلين وفصله فـي كتابيه (رسائل التعليقات) و("الشخصية المحمدية)، وتجد نصها فـي ديوان الرصافـي (الجزء الاول ص115)، ومطلعها:
ما للحقيقة من بداية كلا وليس لها نهاية
كما القى الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي قصيدة تجد نصها فـي ديوانه (الاوشال)، مطلعها:
كنت طاغور ماثلا فـي خيالي
حيثما التفت اجدك حيالي
ثم القى الشيخ محمد بهجة الاثري قصيدته ومطلعها:
بسمت لبغداد وبغداد ثاكلة
فلم تر الا ان تهش مجاملة
وكانت قصيدة الاثري من الشعر السياسي اذ ضمنها شكواه من الواقع السياسي فـي العراق يومئذ. والقى الشاعر العظيم طاغور كلمة رائعة ترجمها للحاضرين الاستاذ عبد المسيح وزير، واردفها بقصيدة جميلة من شعره، القاها باللغتين الهندية والانكليزية. وكانت زوجة ابنه تلقي قصيدته مغناة.
* واقام نادي المعلمين حفلة عشاء لضيف العراق يوم 24 ايار فـي الفندق نفسه الذي يقيم فـيه الشاعر الهندي الكبير (تايكرس بالس)، افتتح الحفلة الاستاذ متي عقراوي عميد دار المعلمين، ثم القى الشاعر انور شاؤل قصيدة بالمناسبة (مذكراته ص181)، اعقبه الاستاذ محمود فهمي درويش. وانتهى الحفل بكلمة عن المعلم والتعليم القاها الضيف الكريم.
*وفـي قصر الشابندر المطل على دجلة فـي الكرادة اقيمت حفلة شائقة للضيف احيتها المطربة العراقية جليلة وجوقها الموسيقي، وقد استمع طاغور للغناء العراقي وابدى اعجابه بالموسيقى العراقية وما شاهده من رقص جميل، وانتهت الحفلة بكلمة لابراهيم حلمي العمر سكرتير لجنة الاستقبال.
* وكان يوم الاثنين الثلاثين من ايار1932 يوم وداع طاغور فـي مطار بغداد المدني، فاستقل طائرة هولندية الى كلكتا فـي الهند، وقد ودع بمثل ما استقبل من حفاوة وترحيب.
* ومن الطريف ذكره ان مغنية عراقية شهيرة هي زكية جورج غنت من شعر طاغور اغنية (يا بلابل غن لجيرانك غن وتفنن بالحانك) واعيد غناؤها فـي السنوات التالية باصوات اخرى.