تطوير شارع الرشيد .. المحاولات الاولى

تطوير شارع الرشيد .. المحاولات الاولى

حيدر كامل العبادي
تميز شارع الرشيد ببناياته المطلة عليه بالشناشيل والمستندة على الرواق وقد مثلت هذه الشناشيل فن العمارة العراقية في بداية القرن العشرين, عرفت المباني المطلة على شارع الرشيد بمعمارها المميز المعتمد على الرواق المتسلسل المستند على أعمدة متشابهة التقنية، وهي من العناصر الاساسية لجمالية الشارع والمنطقة.

ومثل وجود الرواق نحو ثلاثة أرباع أو مانسبته 75% من الأبنية المطلة على الشارع وأكثر من ألف ومئتي عامود ذي طراز معماري وذات أشكال مربعة واسطوانية ومضلعة وزخارف مختلفة لحماية المارة من أشعة الشمس والامطار، فضلاً عن دورها في اضفاء الترابط بين أبنية الشارع كافة. إلاَّ أن محلاته كانت ضيقة الأزقة وتغطيها الأتربة والمياه الآسنة, كما إن الشارع في بداية تأسيسه لم يكن معبَّداًوتكثر فيه المنخفضات،أما أرصفته فلا يوجد لها ذكر, مما دفع الشاعر معروف الرصافي لتنظيم قصيدة بهذا الخصوص, يشكو حال الشارع بعنوان((الشارع الكبير)) جاء في مطلعها.
نكب الشارع الكبير ببـغداد
ولاتمشي فيه إلاَّ اضطراراً
شارع ان ركبت متنيهِ يومـاً
تلقى فيه السهول والإوعارا
تترامى سنابك الخيـــــل فــيــه
ان تقَّحمن عشــه والخيارا.

بدأت الخطوات الأولى لتطوير الشارع الجديد في تشرين الأول1917, عندما باشرت سلطات الاحتلال البريطاني بتأسيس منظومة الشبكة الكهربائية, التي أنجزت بمدة قصيرة لم تتجاوز شهراً واحداًوبدأت الإنارة تطل على الشارع الجديد, وكانت الأزقة والشوارع تضاء بالفوانيس النفطية ويقوم بها عمال يطلق عليهم (اللمبجية), وكان لكل واحد منهم سلم خشبي صغير وقطع من القماش لمسح زجاج الفانوس وعيدان(الثقاب), ويبدأ اشعال الفوانيس عادة في وقت أذان المغرب, ويأتي العامل لإطفائها وقت الفجر, وكان هؤلاء يتقاضون رواتبهم الشهرية من البلدية .اندهش المارة لرؤيتهم الأضواء المنتشرة على طول الشارع, فكان ذلك مثار حديث البغداديين وإعجابهم ,حيث كانت السلطات البريطانية تصرف الكثير من الأموال لإصلاح الطرق في بغداد.
وعلى الرغم من ذلك بقيت حالة الشارع سيئة حتى بداية العقد الثاني من القرن العشرين, ووصفه ساطع الحصري بالقول: "كان يوجد رصيف في طرفي الشارع,ولكن ما بين الرصيفين كان باقياً على الحالة الطبيعية من الترابية. وهذا التراب يتحول إلى أوحال. وإذا زادت الأمطار, امتلأ الشارع بالمياه,فلم يبقى مجال لانتقال من رصيف إلى الرصيف الآخر إلاَّ بالركوب على أكتاف العتالين". وكانت أمانة العاصمة تقوم برش الشارع بالمياه مرتين في اليوم صيفاً لمنع تصاعد الأتربة. لم يستمر الحال طويلاً,إذ خصصت الحكومة العراقية(66586) روبية عام 1924لتبليط أرصفة جانبي الشارع العام بالسمنت,وشرعت امانة العاصمة عام 1926بتعديل الشارع وتبليطه بالإسفلت, وأشرف على العمل المهندس علي رأفت والمهندس البريطاني كابان(Kaban), وتضمنت أعمال التبليط مد أنابيب المياه الآسنة فيه,الأمر الذي شجع أصحاب الدور المطلة على الشارع ببناء العديد من الدكاكين والمقاهي.
ذكر السيد عبد الرزاق الحسني غير ذلك ، إذ ذكر في لقاء مع مجلة أمانة العاصمة, أن بغداد لم يكن فيها تبليط للشوارع ولا تزفيت ولا أرصفة وبدأ التبليط فيها أواخر عام 1928، وإن الشوارع سيما شارع الرشيد كان عبارة عن برك من الطين, وإن كلام الحسني يتعارض مع ما أشارت إليه التقارير والصحف الصادرة في تلك الحقبة، من أن عملية التبليط بدأت قبل عام 1928، إذ صدر قانون خاص لتبليط الشوارع عام 1926 وألزم أصحاب الأملاك بتحمل تكاليف تبليط ثلث مساحة الشارع الرئيسي، لأنه الشارع الوحيد الذي كان موجوداً واهتمت به السلطات المحتلة ومن ثم الحكومة الوطنية. كانت عملية تبليط الشارع وتزفيته تتم باليد, إذ يغلى القار الصلب أولاً في براميل حتى يصبح شبه سائل وبعد ذلك ينقله العمال بأوعية (طاسات) شبيهة بتلك التي تنقل فيها مواد البناء (الجص والسمنت) ويطرح القار على الارض ويقوم (الأسطة) بتوزيعه وفرشه على مساحة من الأرض بواسطة الشيبك, الذي هو عبارة عن اسطوانة من الخشب فيه مقبضان من الجانبين, ويدحرج الأسطة الشيبك مع الضغط عليه ليفرش القار على مساحة من الأرض لا تتجاوز نصف المتر مربع وبسمك لا يزيد على الثلاثة أو الأربعة سنتمترات.

ولأجل تزيين الشارع قامت أمانةالعاصمة عام 1927 بنصب ساعتين فيه من أصل أربعة نصبت في بغداد, إحداها في ساحة الميدان والثانية في فسحة ميدان الصيارفة أمام جامع مرجان، وفي عام 1936وافق مجلس الوزراء على تخصيص (10,000) دينار من القرض المخصص لأمانة العاصمة من قبل وزارة المالية لغرض تبليط الشوارع , حيث قامت أمانة العاصمة بإعادة تبليط الشارع وتوسيعه من جهة الباب الشرقي وتم تهديم ذلك الباب,كما أرادت هدم واجهة جامع مرجان التي كانت تعترض مسار الشارع إلاَّ أن القرار لم ينفذ بسبب شدة المعارضة من قبل الأهالي,ولكن في عام1946وللمباشرة بتعديل استقامته أمرت حكومة أرشد العمري وأمين العاصمة حسام الدين جمعة بتهديم واجهة جامع مرجان.أما عن كيفية تهديم واجهة الجامع, فقد ذكرت روايتان بهذا الصددأشارت الأولى: "أن عمال الأمانة عجزوا عن تهديم الواجهة فسلطوا الماء على أسسه لمدة طويلة لكي يتداعى البناء ويسهل تهديمه". والثانية: "أن ارشد العمري عمد الى إغراق المنطقة المجاورة للجامع حتى يتصدع بناؤه ويهدمه ليتخذ من ذلك ذريعة لامتصاص سخط الأهالي الغاضبين على تهديم تلك الواجهة".
يذكر إن بناية الجامع كانت تصل إلى منتصف الشارع, وكانت منارته ملاصقة لواجهته الأمامية وتمتاز بشكل معماري جميل جداً, وأن جعفر علاوي وهو احد مهندسي الأمانة كان ممن أسهم في هدم الواجهة. ويرى الباحث أن قيام الحكومة العراقية أنذاك بشق الطرق وتوسيعها وسعيها لتطوير بعض المدن, ومنها العاصمة بغداد, الذي تم على حساب تهديم المعالم العمرانية, سيما الجوامع من الأخطاء الفادحة التي تتناقض مع الأهداف التي أرادت تحقيقها في أعمالها تلك.
عن رسالة (شارع الرشيد 1916-1959
دراسة تاريخية)