رواية الكاتب يحيى بابان (جيان) دلمــون .. الحــلم الــذي لـم يكــتمل

رواية الكاتب يحيى بابان (جيان) دلمــون .. الحــلم الــذي لـم يكــتمل

حنون مجيدتسعى رواية « دلمون» للقاص والروائي جيان / يحيى بابان الى إيقاظنا على الوقائع الحادة التي تصاحب الهجرة من الوطن الى بلد اخر والتي غالبا ما تكون خافية علينا نحن الذين لم نجرب ذلك.
بل انها تكشف وبتفاصيل دقيقة ومثيرة معاناة المهاجر الذي يتسلل نحو حدود بلد اخر من دون وثيقة سفر رسمية .

هذه المعاناة التي تظل تلازم المهاجر وتكثف قلقه وحيرته من قبل ان يجتاز حدود ذلك البلد حتى حلوله فيه، إذ هو غريب ومطارد من سلطتين، سلطة الخارج ممثلة بسلطة القانون التي من بعض ادواتها العقاب وسلطة الداخل التي هي سلطة الذات المعبأة بالتوجس والخوف.

وبقدر ما تراود المهاجرعادة من احلام وخيالات سعيدة او مُسعدة كونه ينفذ او في طريقه لأن ينفذ من عالم ضيق - يحاصر نفسه وجسده ولا يوفر له ادنى مستوى من مستويات العيش الكريم – الى عالم مغاير رحب وواسع يتمتع بـ»الحرية» 11 ،تراوده في الان نفسه خيالات معتمة قد تتحول في لحظات الى كوابيس تؤول فيما بعد الى حالات تراجع ونكوص ، وهو ما صوره الروائي عبراحساس بطله وهو ما يزال قائماً في السفينة المتوجهة الى دلمون وقبل ان يحط رحاله هناك: «صحيح ان الاخرين سبقوه الى التعبير عن بهجتهم، وهو شأن طبيعي لجميع الناس، غير ان احساسه بالوحدة الان أشد ايلاماً» 78
ومع ان دلمون وكما «مكتوب على الحجر، لا يفترس فيها الذئب الشاة» 136 فان واقعها لم تتعين ملامحه الحقيقية للمهاجر الا حين وطأ ارضها وأقام زمناً عليها . إنه الامتحان الصعب والممارسة القاسية التي لا يقدم عليها إلاّ من كان مقهوراً على ارضه وبين ناسه.
ودلمون رواية القاص الخمسيني الذي سحرنا بقصصه القصيرة مع غيره من امثال نزار عباس ومحمود الظاهر من بعد عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر، هي رواية هذا الموضوع ، الهجرة الى عالم اخر بعد ان يستنفد المرء طاقة البقاء في بلده وتمسي حياته مهددة فيه.
لقد حملت دلمون ارهاصات حلم جميل هو في حقيقة الامر، المنفذ المؤمل الى عالم اخر ارحب واوسع واكثر أمناً وقبولاً ، ولكنه ظل قلقاً كذلك حتى نهاية الرواية .ففي الوقت الذي تستدعي فيه كلمة دلمون ما تستدعيه من خفايا تاريخ اسطوري يثيرالوجدان فقد كانت في الوقت ذاته حافة للقلق ومثاراً للعزلة وعدم الامان ومرادفاً للغربة والاغتراب.
وبطل الرواية ابراهيم الذي هو صحفي غير محترف ، مارس السياسة طوعاً حين وجد نفسه في خضمها ، وشارك في تظاهرة في بغداد اودع بسببها التوقيف ، يساري النزعة تشرّب مبادئ الوطنية والحرية والانعتاق، وهو شخص مثقف كذلك يحمل شهادة جامعية ويستغل فراغات عمله الوظيفي او مدد نفيه الى اماكن منعزلة ، في القراءة والتثقيف الذاتي وهما، اي الوطنية والثقافة، عاملان غالبا ما أرهفا الحس الانساني لدى الانسان من هذا النوع ، وعبّئا وجدانه بقلق البحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية باساليب متعددة من الكفاح، فلا غرابة ان نجده في مكان غربته يتواصل مع نضاله هذا محرراً في صحيفة يصدرها مع ثلة من اصدقاء ومعارف له هناك.
ولعل الرواية ارادت تلميحاً أو تلويحاً الافصاح عن القدرات المتباينة عند الناس الذين هم من قبيل ابراهيم، بين الاستمرار في مواقف النضال او البحث عن منافذ اخرى خارج الحدود، يدفع بها المرء الاذى عن نفسه ريثما تتجلى الافاق، فاما عودة الى البلد والانغماس في الحياة الجديدة او البقاء في المهجر وطناً ومنفى.
ان ماتصح الاشارة اليه هو ان التوجس الذي لازم حياة ابراهيم في دلمون في ايامه الاولى، كان أخف وطأة لما وجده هناك من معارف واصدقاء ، من بينهم امراة احبته واحبها فمنحته نفسها وجسدها ، فكانت التعويض النفسي والجسدي لكثير من تداعيات الوحشة والحرمان اللتين أرقتا حياة بطلنا ، قبل ان يكتشف امره ويطرد منها آخر الامر. «وفي احسن الاحوال ليس وضعه اكثر من انه مفرود وسوف تغلق الباب وراءه» 322 وانه ليس سوى «رقم في ملف رسمي لمنفي دخل الجزيرة بلا اوراق شخصية ويتم تسفيره» 323.
تنفتح هذه الرواية وهي رواية كبيرة بحق على اسماء واحداث كثيرة تواشجت معا في سيرورة فنية هادئة تمنح القارئ يقيناً بان اعظم الاعمال الفنية ما تتوهج فيها آمال الناس واعمالهم في حياة عذبة وانسانية وآمنة . وكما كان بناؤها الفني هادئا ومتصاعدا كانت لغتها بسيطة وعميقة ودالة.
ان هاجس ابراهيم الثقافي والوطني الذي ظل يلاحقه حتى وهو على ارض غير ارضه ، ودفع به الى المشاركة في اصدار صحيفة تعنى بالثقافة الحرة هناك، كانت ايذاناً بالتوجس من وجوده أولاً، وهو وجود ليس شرعياً ثانياً ، ما عجل في اصدار الحكم بطرده من البلاد .
لم تبتعد دلمون عن اي من احلامنا التي راودتنا او كانت تراودنا ، ونحن نجد واقعنا يضيق بانفاسنا فنتطلع الى دلمون ودلمون، وبعدد ما تصور لنا اخيلتنا من جزر اشبعناها الوانا مفترضة لنملأ انفسنا ولو بالايهام ، فكانت من ثمّ موئلاً للخيبات والآلام. ان قدرة النطق في هذه الرواية تفترضنا صناعاً لها، لما تعلقنا به من احالات الى واقع معيش ولو عبر ثقافاتنا ان لم تكن تجاربنا.
ان غنى هذه الرواية التي تعزز المتعة في القراءة كلما قطعت شوطاً فيها، ليس في احداثها الكثيرة حسب، كما ليس اكتنازها وانفتاح لغتها على معارف شتى كذلك ، وانما في الوعي التام بموضوعها الكبير وتحولاته المتلاحقة ما افضى الى الاحكام في صنعتها، فجاءت بهذه السيولة الرخية المعطاء.