سقراط في مجلس الخليفة المعتصم

سقراط في مجلس الخليفة المعتصم

علي حسين
أصر الجاحظ أن ينقل لنا أخبار بخله وشحه ، فرسم في كتابه الشهير :" البخلاء " صورة مضحكة لواحد من أشهر الفلاسفة العرب ، والذي يُوصف بانه اول فيلسوف عربي خالص ، فيروي الجاحظ عن أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، وصيته لإبنه التي يقول فيها :" وقول لا ، لا يصرف البلا ، وقول نعم ، يزيل النِعم ، وسماع الغناء برسام حاد ،

لأن الإنسان يسمع فيطرب فينفق فيسرف ، فيفتقر ، فيَغتم فيَعتل ويموت .. يابني كُن كلاعب الشطرنج مع الناس تحفظ شيئك وتاخذ من شيئهم ، فإن مالك ان خرج من بين يديك ، لم يعد إليك .واعلم ان الدينار محموم اذا صرفتنه مات "

واذا صحت رواية الجاحظ ، أو انها نوع من المبالغة ، فنحن ازاء شخصية أتسمت بالغرابة والعبقرية في نفس الوقت ، وكما يذكر ابن النديم في كتابه " الفهرست " ، أَميل الى طلب الفضيلة والسعي الى حياة الزهاد والعزوف عن البهرجة والبذخ رغم كونه ابن احد ولاة الدولة العباسية ، فقد كان أبوه اميراً على الكوفة . يصفه لنا المسعودي في " مروج الذهب " ، بانه كان مربوعاً ، حسن الوجه ، يمشي على نحو غريب ، يرتدي الملابس البسيطة برغم غناه . ويذهب البعض الى ان زهد الكندي لم يكن بخلاً كما صوره الجاحظ ، وانما إعجاباً بشخصية فلسفية أثرت على حياته كثيراً ، وهي شخصية الفيلسوف اليوناني " سقراط " ، والذي ترجم له الكندي بعضاً من شذراته ، ولهذا نجده في كتابه " السيرة الفلسفية " ، يضع سقراط بمنزلة الإمام ، ويرد على الذين سخروا من حياة التقشف والزهد التي عاشها الفيلسوف اليوناني ، ويصفهم بالجهلة ، مشيراً إلى عظمة سقراط لأنه كان يستخف بالملوك ، ويرفض لبس الثياب الغالية ، ويحب الحديث مع الناس . اضافة الى شخصية سقراط اعجب الكندي بفيلسوف يوناني آخر غريب الطباع اسمه " ديوجين " ، كان يرى في فلسفته طريقاً لأن يتعلم الانسان كيف يشبع احتياجاته بطريقة مناسبة وبسيطة جدا ، وينقل الكندي في احدى رسائلة الحوار الذي دار بين ديوجين والاسكندر ، حيث يقال إن الإسكندر الكبير مر يومًا بديوجين فوجده جالسًا في برميله يستحم بأشعة الشمس، فوقف الإسكندر أمامه قائلاً: أنا الملك الإسكندر الكبير.. فرد عليه ديوجين: وأنا ديوجين الكلبي.. فقال له الإسكندر: ألست خائفًا مني؟ فرد عليه ديوجين: وهل أنت رجل صالح أم شرير؟ فقال له الإسكندر: بل أنا رجل صالح.. فرد عليه ديوجين: ومن يخاف من الصالح إذًا! ثم سأله الإسكندر: هل تعيش في هذا البرميل فقط لكي تلفت انتباه الناس وإعجابهم بك؟ قال ديوجين: وهل فعلا تريد أنت فتح بلاد فارس وتوحيد كل بلاد الإغريق.. أم تفعل ذلك فقط لتنال الإعجاب؟ ابتسم الإسكندر وقال: هذا برميل مليء بالحكمة، فقال ديوجين: أتمني لو كان لدي بدل هذا البرميل المليء بالحكمة.. نقطة واحدة من الحظ الجيد.. للحكمة طعم مر.. وأحيانًا تؤدي بك إلي الهلاك.. بينما الحظ يفتح لك أبوابًا ويحقق لك السعادة ما كنت تحلم بها! أعجب الإسكندر.. الذي يعرف جيدًا معني الحظ.. بكلام ديوجين، ثم أخبره أن يطلب منه ما يشاء ليلبيه له.. فأجابه ديوجين بهدوء: أريد منك شيئًا واحدًا.. إنك الآن تقف أمامي وتحجب عني أشعة الشمس.. لذا لا تحرمني من الشيء الوحيد الذي لا تستطيع منحي إياه.. لا تحجب شمسي بظلك! .
في واحدة من رسائله الفلسفية يحاول الكندي ان يسير على خطى سقراط في وصاياه لتلامذته : " قال سقراط الزموا العدل تلزمكم النجاة ، العدل أمان النفس من الموبقات ، والحكمة سلم العلو ، فمن عدمها عدم القرب من باريه ، وكان يقول راحة الحكماء في وجود الحق ، وراحة السفهاء في وجود الباطل ، وقال له رجل : " ياسقراط ، ما الذي أغنت عنك الحكمة وانت لا تستتب ، فقيرا ، فقال : اغنت عني ما آلمك مني ". . وكان يقول : " أما ينبوع فرح الإنسان ، القلب المختلف المزاج ، وينبوع حزن العالم ، الملك الجاير ، وثبات الأشياء بالعدل ، وبالجور زوالها . لأن المعتدل هو الذي لايجور " . ومثل سقراط كان الكندي يرى ان الفلسفة هي السلم لهذا العالم من الُمُثل ، ولكن ليس كل شخص بقادر على صعوده ، فدرجاته العليا محفوظة لمن يتمتعون بمهارة المحاججة والسؤال .
يعرف الكندي الفلسفة ، بانها السعي ان يكون الإنسان كامل الفضيلة ، وهي إماتة للشهوات . ثم يضع لها تعريفا علمياً يقول فيه انها :" علم الأشياء الابدية الكلية : انباتها ، ومائيتها ، وعللها بقدر طاقة الانسان " .كان سقراط يقول "ان الفضيلة ما هي الا دعوى دائبة لإعمال العقل." وعرف الكندي الفضائل الإنسانية بانها هي الخلق الانساني المحدود ، واما الحكمة فهي فضيلة علم الاشياء الكلية ، ولذلك كان الكندي يعتقد ان السعادة تتحقق للانسان عندما يكتشف اهمية الحكمة في حياته . ومثل سقراط فقد تبنى الكندي مذهباً يميل إلى المساواة بين المعرفة والفضيلة . في محاكمته الشهيرة قال سقراط :" الحياة التي لم تخضع للأختبار لا تستحق ان تعاش " ، وكان الكندي يؤكد في رسائله الفلسفية :" ان كل فرد لديه القدرة على تمحيص حياته وأفكاره وان يعيش حياة ذات قيمة " ، ولم يقتصر شغف الكندي بسقراط على تتبع نمط معيشته وتمثل سيرته ، بل تعداها إلى تاثره بمفاهيمه الفلسفية ، وهو ما نجده في رسائله التي حققها محمد عبد الهادي ابو ريدة ، حيث يستخدم فيها الكندي عدداً من مقولات سقراط عن طلب الفضيلة والإهتداء بالعقل دون سواه في مقارعة احداث الزمان ، والإيمان ان ما كتب علينا من ألم وموت هو من مقومات أنسانيتنا :" فلو لم يكن موت ، لم يكن انسان " ، وكان الكندي مثل سقراط يؤمن ان الحياة أن لم تخضع للأختبار لا تستحق ان تعاش..ويذكر ابن النديم في كتابه الفهرست ان الكندي كتب عددا من المؤلفات التي تدور حول سقراط وسيرته منها رسالة في خير فضيلة سقراط ، ورسالة محاورة جرت بين سقراط واحد تلامذته ، ورسالة في الفاظ سقراط .
تكشف سيرة الكندي انه استطاع منذ ان كان صبياً ان يطلع على التراث الفلسفي اليوناني ، ولهذا نجد تعريفه للفلسفة ، بانها التشبه بافعال الخالق بقدر طاقة الانسان ، او انها العناية بالموت ، قريبا مما جاء على لسان سقراط في محاورة الدفاع :" الموت هو المكان الذي فيه أفضل الآلهة وأكثرها حكمة حيث تقيم أنبل الأرواح " ..والفلسفة في هذه المدرسة تمزج العلم بالفلسفة ، فقد كانت الفلسفة تبتديء بتقسيم العلوم ، وعند الكندي ان ثمة نوعين من العلم : العلم الإلهي الذي يسبغه الله على الانبياء والمرسلين ، والعلم الانساني الذي تعتبر الفلسفة أعلى اشكاله ، والاول عند الكندي اسمى من الثاني ، لانه يستطيع ان يدرك حقائق لا يستطيع العلم الانساني مطلقا ان يدركها من تلقاء نفسه . وعليه يجب التسليم بالحقائق المنزلة ، كخلق العالم من العدم .
************
بدأت الحكاية باليتم ، فالأب الذي كان والياً على الكوفة توفى وترك غلاماً لايتجاوز عمره الثلاثة اعوام ، عاش في ظل عزٍ زائل ، حيث لم يبق للصبي اليتيم إلا امه التي اخبرها بعد ان بلغ الخامسة عشر من عمره بنيته الرحيل الى البصرة :" في البصرة علم كثير ، وعلماء كبار ، خاصة في علم الكلام " وتقرر الام ان ترافق ابنها ، ولم يطل به المقام طويلا في البصرة فبعد ثلاث سنوات قرر السفر الى بغداد ، فدخلها سنة 819 للميلاد ، واستقر في جانب الرصافة حيث كان أبوه قد ترك له دارا واسعة وبستاناً.
منذ ان ولد ابو يوسف بن اسحق الكندي عام 801 للميلاد ، وحتى وفاته عام 871 وهو يسعى الى العِلم ، قالت امه لإحدى جاراتها وهي ترى الفتى مهموم بالبحث والإنقطاع الى دروس المتكلمين : " ابني جائع إلى الكتب .. ولن يهدأ له بال ، الا مع امراة عاقلة وجميلة " ..ووافقت الجارة ان تزوج ابنتها لسليل عائلة الامراء ، لكن الكندي الشاب لم يجد في الزواج ضالته مثلما وجدها في كتب الأقدمين ، قالت زوجته عنه :" كان قد اصبح مهموماً ، تغلغلت حروف القرطاس في داخله واختلطت مع عطشه للعلم " . في البصرة تَتلمذ على يد المعتزلة واخذ عنهم اصول التحرر العقلي ومسؤولية الإنسان الكاملة عن اعماله ، واستقلاله المطلق عن القدر وقدرته على التوصل الى الجميل والقبيح دون حاجة الى من يبلغه ذلك ، وفي بغداد دخل بلاط المامون بعد ان كتب له " رسالة في العلة والمعلول " ، وكتب للمعتصم " رسالة في الفلسفة الأولى " ، ثم صار معلماً لاحمد بن المعتصم .ولعل قائمة الكتب التي الفها الكندي تدل دلالة واضحة على المدى الواسع الذي وصل اليه في مجال الفلسفة والفكر واللغة والعلوم .يكتب ابن النديم في الفهرست :" قد يقع في تعداد كتب الكندي خلاف بين المؤرخين ، بالزيادة والنقصان ، لكنهم متفقون على ان له في اكثر العلوم ، مؤلفات من المصنفات الطوال والرسائل القصار " ويأخذ ابن النديم بتعداد مؤلفات الكندي كتاباً كتاباً ، ليصل الى انه كتب في الفلسفة والهندسة والسياسة والمنطق والموسيقى والرياضيات ، وكان اول فيلسوف يكتب في باب جديد اسمه علوم النفس ، وقد اتبع الكندي في تحرير كتبه طريقة جديدة لم تكن معتمدة من قبله ، فكان يبدأ رسالته بتحقيق وفحص الموضوع بعدها يبدأ بتحليله ، ثم يخرج من ذلك بما يريد من أحكام ونتائج ، ونجده يؤكد على أن التحليل والإستنتاج هما اساس كل معرفة حقة ، فهذا بن موسى البيهقي في كتابه السنن والأثار يكتب :" انه كان فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها " .
يقال دائما إنّ الفلسفة العربية قد بدات مع الكندي ، الذي ادرك منذ البداية ضرورة صياغة منهج دقيق للبحث ، ولانه كان مولعا بالرياضيات والموسيقى والفلك منذ صغره ، فقد انتهى إلى انه يمكن صياغة منهج للفلسفة يشبه العزف الموسيقى او العمليات الحسابية ونجده يحدث تلميذه ماسويه قائلا :" الرياضيات اولا .فلا سبيل إلى استخدام علم المنطق ، إلا اذا سُبق بدراسة علوم الرياضيات ، من حساب وهندسة وفلك ، فمقدمات المنطق وأقيسته واشكاله تعتمد على الرياضيات " .
وفي الموسيقى وضع الكندي عددا من الرسائل في التاليف الموسيقي ، وصناعة الموسيقى واخبارها ، وطرائق الالحان ، حيث مزج فيها العلم بالفن ،ولاول مرة في تاريخ الموسيقى العربية ، نجد سلماً للموسيقى العربية ، لايزال مستعملا الى اليوم ،استرشد فيه الكندي بالسلم الموسيقي الذي وضعه فيثاغورس ، ووزع الكندي انغام سلمه على اوتار العود الخمسة ، فصار لكل وتر ستة انغام ، اي ان اوتار العود تنتج ثلاثين نغما ، وفي رسالة الكندي عن التاليف الموسيقي اكد ضرورة التاليف في العزف عند الانتقال من نغمة الى نغمة:" الموسيقى هي فن تالف النغم ، وهو فن قائم على النسبة العددية رياضيا " .
وقد كانت الفكرة المهيمنة على الكندي هي أنه لا مفر للإنسان من تحكيم العقل ، فهو المحرك لكل المخلوقات، ويضع الكندي بعض الوسائل التي يمكننا بها تحرير عقولنا من سطوة الإرادة . يعتبر الزهد أحد هذه الوسائل، وهناك أيضًا الموسيقى . حيث نتأثر شعوريًا بتلك الإشارات الصوتية أو المرئية التي نستمدها من سماع الموسيقى ، ولهذا نجده يضع تعريفا متميزا للموسيقار يقول فيه ": الموسيقار الباهر الفيلسوف يعرف ما يشاكل كل من يلتمس اطرابه من صنوف الايقاع والنغم والشعر ، مثل حاجة الطبيب الفيلسوف الى ان يعرف احوال من يلتمس علاجه او حفظ صحته " .
اضافة الى ان تجربة الكندي الفلسفية تميزت في تبيان معاني الفلسفة الصحيحة ، وكشف امكانياتها ورسم حدود مفاهيمها ، ووضع حجر الأساس في الفكر العقلي العربي ، كان الكندي يدرك قيمة الفلسفة ووظيفتها في الثقافة الانسانية ، والإيمان بان الفلسفة ملك الناس جميعا ، وان هذه الفلسفة مهمتها بناء الحقيقة الواحدة ، لاقامة صرح انساني متوحد .
في " رسالة في الفلسفة الاولى " يقدم الكندي تعريفا للفلسفة ، ومهمة وعمل الفيلسوف ، حيث ذكر ان :" الفلسفة هي التشبه بافعال الله تعالى بقدر طاقة الانسان ، ارادوا ان يكون الانسان كامل الفضيلة ، وحدّوها ايضا من جهة فعلها فقال : العناية بالموت . والموت عندهم موتان :طبيعي وهو ترك النفس استعمال البدن والثاني : اماتة الشهوات . فهذا هو الموت الذي قصدوا اليه ، لأن اماتة الشهوات هي السبيل الى الفضيلة ولذلك قال كثير من اجله القدماء : اللذة شر . فباضطرار انه كان للنفس استعمالان ، احدهما حسي والآخر عقلي ، كان مما سمى الناس لذة ما يعرض في الإحساس ، لان التشاغل باللذات الحسية ترك لإستعمال العقل ، فقالوا الفلسفة معرفة الانسان نفسه ، وهذا قول شريف النهاية ، بعيد الغور . ولهذه العلة سمى الحكماء الانسان ( العالم الاصغر ) " ، والانسان الكامل الفضيلة ، هو التعريف الذي يستحوذ على انتباه الكندي ، ونراه يوضح في اكثر من رسالة الجانب الأخلاقي في تعريف الفلسفة ، ليبين لنا انها صناعة الصناعات ، وحكمة الحكم ، وهي حياة الخير، ويضع الكندي فعل الشر نقيضا للفلسفة ، ويعرفه بانه :" تشاغل بالذات الحسية وترك استعمال العقل " ، ومن هذا التحليل يبرز اهتمام الكندي بوظيفة الفلسفة ومنزلتها ونحن نراه يعبر عن رايه الخاص حين يذكر في احد رسائله الى ان :" اعلى الصناعات منزلة واشرفها مرتبة ، صناعة الفلسفة التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الانسان ، لأن غرض الفيلسوف في علمه اصابة الحق ، وفي عمله العمل بالحق ، ولذا كان الفيلسوف التام الاشراف ، هو المرء المحيط بهذا العلم الاشرف ، وكانت الفلسفة عالمة بالأشياء التي علمها بحقائقها " ، وان : " علم الفلسفة هو كمال العلم بالحقائق " ، ويضع الكندي ستة شروط على طالب العلم الالتزام بها حتى يكون فيلسوفا ان نقصت لم يتم : " ذهن بارع ، وعشق لازم ، وصبر جميل ، وروع خالٍ ، وفاتح مفهم ، ومدة طويلة " ، ولهذا نجد ان الكندي يرى ان الفلسفة هي علم الحق ، وانها هي الصدق وسبيل الصدق ، ذلك ان الفلسفة حسب تعبيره " قيمة مثلى وكون سرمدي " ، ولسنا نغالي حين نقول ان الكندي هو الذي وضع حجر الاساس في التيار الفلسفي العقلي ، وفي التيار الفلسفي الإنتقادي ، فقد راى ان الفلسفة هي سبيل البحث عن الحق بالعقل ، ونحن نعلم ان العقل عند الكندي جوهر مدرك للاشياء بحقائقها :" ان اولئك الذين يذهبون إلى انكار العقل هم من المتسمين بالنظر الى اهل الغربة عن الحق ، وان تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق ، لضيق فطنهم عن اساليب الحق ، وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الراي والاجتهاد " ، كما نجد الكندي يدعو الى مبدأ الانفتاح الذهني والروحي على الأمم والشعوب ، ومحاربة كل مظاهر الإنطواء والعزلة الفكرية مؤكداً ان الافكار لاحدود لجغرافيتها و لا جنسية لها ، ولهذا فالإنسان لايمكنه ان يكتفي بنفسه ، فيستغني عن معارف وافكار الآخرين ، ويتفق الكندي مع سقراط وافلاطون على الوسيلة التي توصلنا الى المعرفة ، فهو يحدد وسيلتين لكل وسيلة منهما موضوعا ، فاول وسيلة هي الإدراك الحسي وهو مشترك بين الانسان والحيوان وهو يدرك المحسوسات المادية الجزئية الدائمة التغير التي لها صورة في المخيلة ، والمعرفة الناشئة عن الإدراك الحسي غير ثابتة نظرا لعدم ثبوت موضوعاتها ، والوسيلة الثانية العقل الذي يدرك الحقائق العميقة التي هي أبعد عن الانسان ، لكنها اقرب الى طبيعة الأشياء ، ونجده يرهن وجود المادة بتصورها في العقل . ولعل تمسك الكندي بالسيرة الفلسفية الحقيقية ، تظهر تاثره الشديد بسقراط ، اذ انه اتجه كليا الى الزهد والتجرد من الحياة وايثار النظر في حقائق الاشياء والاعتقاد في بقاء النفس بعد فناء الجسد وان ا" لسعيد من يبتعد عن اللذات الحسية الزائلة ويلتجأ الى اللذة العقلية الخالدة التي توصله الى نور الحق " . ثم لاينسى الكندي استاذه الذي اقتدى به فيقول : " ليكن احدنا مثل سقراط الذي سؤل ما بالك لا تحزن ؟ فاجاب لا اقتني ما إذا فقدته حزنت عليه " .
حاول الكندي اثناء حياته ان ينشيء مدرسة لعلوم الفلسفة لكنه واجه معارضة كبيرة من رجال الدين ويكتب المستشرق ماكس مايرهوف ان :" الكندي الذي عاش في بغداد كان اول فيلسوف يعطي دروسا خاصة بالفلسفة " ، ولهذا قرر الكندي ان يجمع تلامذته في بيته ، لاسيما انه يمتلك مكتبة ضخمة مشهورة ، كانت تسمى المكتبة الكندية ، فيتناقش معهم في شؤون الفلسفة . ويذكر القطفي في تاريخ الحكماء ان تلاميذ الكندي كانوا جماعة من الوراقين اشهرهم " احمد بن الكيب السرخي ، ونفطويه وابي زيد البلخي وابن كرنيب ،وابو بكر الرازي وانه كان يلقي عليهم دروسا في الفلسفة اليونانية ، حتى ان ابن تيمية كان يسميهم " فراخ اليونان وتلامذة الروم " .
*****
يعود الفضل في الصياغة الاولى لفكر الفلسفة الاسلامية بمعناها الدقيق ، للكندي .. ويعد كتابه حول الفلسفة الاولى عملا اصيلا ولا يعتبر شرحا ، كما انه ليس ملخصا لميتافيزيقيا ارسطو ، ولان الكندي كان معاصرا للوقت الذي تم فيه ترجمة الاعمال الفلسفية اليونانية الى العربية ، فان كتابه " رسالة في حدود الاشياء ورسومها " وهو كتاب صغير لكنه قاموس فلسفي دقيق ، وربما يكون اول قاموس للفلسفة باللغة العربية ، يتضمن ما يقارب المئة مصطلح ، بعض هذه المصطلحات وضع لها الكندي تعريفا فلسفيا خاصا .إن الفلسفة يجب ان تستخدم المنهج الذي يثبت او يدلل على معنى كل كلمة او لفظ او مفردة ، وقيمة كل تاكيد . وبالتالي فان من يجهل علم الرياضيات والمنطق لايمكن ان يتخصص في الفلسفة لان الاستدلال او الاستنتاج فقط هو الذي يقودنا الى العلل الاولى .
وثمة رواية توضح لنا كيف حاول الكندي الدفاع عن الفلسفة ضد خصومها ، اذ يروي لنا احد تلامذة الكندي وهو احمد بن الطيب السرخشي ان الخليفة المعتصم سأل الكندي ذات يوم عن غاية الفلسفة ، وهل تتعارض مع الدين ، فقرر ان يكتب له رسالة يدافع بها ضد من يسخرون من الفلسفة وان يرد عليهم وكانت عدته في ذلك مجموعة من الأفكار والاسئلة التي حددها بثلاثة اسئلة رئيسية هي :
1- السؤال عن أنية الشيء ، هل يعني هو موجود بالإطلاق
2- السؤال عن ماهية الشيء ، يعني ما هو ؟ أو تحت اي جنس يقع ؟
3- السؤال عن غاية الشيء ، يعني لِم هو ؟ اعني السؤال عن علته الغائية ، او بمعنى ادق عن غايته
ويقول الكندي اذا اجتمع السؤال عن : ما هو الشيء ؟ واي شيء هو ، كان ذلك نوعا من الفلسفة .
ويسعى الكندي ان يمزج هذه الاسئلة بوظيفة العقل عند الانسان :" من ادرك طريق الحق ، فليكثر مساءلة الحكماء ومشاورتهم ، وليكن اول شيء يسأل عنه العقل ، لأن جميع الاشياء لاتدرك الا بالعقل " ، وكان الكندي مؤمنا بان لاتعارض بين الفلسفة والدين ، وقد حمله هذا الايمان على التصريح بالفلسفة وبحثها دون خشية ، بل ذهب اكثر من ذلك فوصف اعداء الفلسفة بالكفار وانهم لايؤمنون بدين ، وسعى الى التوفيق بين الاراء المختلفة في الدين ليخرج منها براي مفلسف يقول ان الاراء مهما ظهر من تباعدها في النظر إلى الله متفقة على انه واحد وخالق ، وبذلك نجد ان الكندي حاول ان يدخل الفلسفة الى عالم الدين بوصفها عامل توفيق تذوب فيه الأختلافات وبسبب هذه الآراء التي كانت تطرح للمرة الاولى في المجتمع الاسلامي ، تعرض الكندي لمحنة شديدة وواجه عداء رجال الدين الذين وصفهم باصحاب :" الكراسي المزورة التي نصبوها من غير استحقاق ، بل للترؤس والتجارة بالدين ، وهم عدماء الدين ، لان من تجرأ بشيء باعه ، ومن باع شيئا لم يكن له ، فمن تجرا بالدين لم يكن له دين ، ويحق ان يتعرى من الدين من عاند الفلسفة وسماها كفرا " . ويصر على أن يضع الفلاسفة في موضع الورثة الجديرين بالأنبياء ، وبحسب الكندي تعد الفلسفة استمرارا للمعرفة النبوية ، استمرار اكثر منه قطيعة ، والإختلاف بينهما في الاسلوب ، ليس اختلافا يتعلق بالحقيقة ، هو اختلاف في شكل نقل الحقيقة . لان الحقيقة تظل واحدة ، وهذه الاستمرارية طبقا للكندي بين هذين الضربين من الكلام ، ( النبوي والفلسفي ) ، تتم تحت سلطة العلم ، ولهذا ينبغي ان نُدين الدجالين الذين يوجهون امة المسلمين ضد المعرفة العلمية ، اولئك الذين يزعمون ان الفلسفة عدو للدين ، رجال الفرقة هؤلاء كما يقول الكندي " يتاجرون بالدين في حين انهم بلا دين " .
وبسبب هذه الاراء اشاع بعض رجال الدين بان الكندي ليس عربيا وانه من اصل يوناني ، وانه كفر بعد الأخذ باراء الفلاسفة اليونانيين ، ونجد احد الشعراء " ابو العباس بن محمد الناشيء " يؤلب عليه السلطة :
اتقرن الحادا بدين محمدا
لقد جئت فينا يا اخا كندة غدا
وتخلط يونان بقحطان ضلة
لعمري لقد باعدت بينهما جدا .
يكتب هنري كوربان في كتابه عن تاريخ الفلسفة الاسلامية ان :" الكندي نموذج للفيلسوف ذي الذهن الكلي " .
وقد انتشرت شهرة الكندي في الغرب وخصوصا في العصور الوسطى حيث ترجمت بعض مؤلفاته الفلسفية والعلمية ، وبلغت شهرته في العصور الوسطى درجة عظيمة امتدت الى عصر النهضة .حتى ان كاتبا مثل كاراندوس يضع الكندي في خانة واحدة مع اعظم الشخصيات الفكرية في تاريخ البشرية .
عاش الكندي ومات وهو يأمل ان تحصل الفلسفة على مكانتها اسوة بعلوم الدين ، وكان موقفه واضحا جدا حين اكد على ان التعارض بين الفلسفة والدين تعارض مزيف اوجدة رجال الدين الذين كانوا يكرهون كل شيء يتماشى مع العقل .