القطاع العام والخاص فـي العراق شراكة أم تقاطع؟*

القطاع العام والخاص فـي العراق شراكة أم تقاطع؟*

.د. ستار البياتي
في الشأن الاقتصادي العراقي ، أفرزت السنوات القليلة الماضية الكثير من النقاش والجدل بشأن ماهية التوجهات الاقتصادية الجديدة ، وما اذا كانت هناك حدود فاصلة بين الاقتصاد المخطط واقتصاد السوق ، وهل نحن فعلاً في الطريق نحو اقتصاد السوق ؟ حتى علا ضجيج الفوضى ، في ظل توجهات وسياسات اقتصادية غير واضحة،

الأمر الذي انعكس على الواقع ، معبراً عنه بالفساد المالي والاداري، والتلكؤ في مجال النهوض الاقتصادي، وتأخر عملية اعادة الاعمار ، ومن ثم الدعوة الى الاصلاح الاقتصادي.
في هذا الاطار تسارعت الخطى باتجاه عقد المزيد من الحوارات والندوات والمؤتمرات على المستوى الأكاديمي والوزاري ومنظمات المجتمع المدني، بحيث ادى ذلك الى تنوع الافكار والتوصيات التي انصبت في ثنايا الاقتصاد الكلي والجزئي كمعالجات ، مع التركيز على دور أكثر فاعلية للوحدات الاقتصادية الخاصة (أريع فردية او شركات خاصة)، لاسيما وان أول ستراتيجية تم صياغتها من قبل وزارة التخطيط والتعاون الانمائي والتي عرفت بـ (ستراتيجية التنمية الوطنية)، كانت قد أكدت على أهمية القطاع الخاص وضرورة منحه الفرصة والدور الريادي للنهوض بالاقتصاد العراقي .

أولاً / القطاع الخاص : مراجعة الواقع والدور المطلوب
على الرغم من إقرار اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة حسب تعريفها للخصخصة بأنها: إعادة توزيع الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص، إلا أن الحدود الاقتصادية بينهما لا تزال غير واضحة في العراق، والدولة لا تزال تمارس مركزيتها على النشاط الاقتصادي كما كانت في السابق، الأمر الذي غيب القطاع الخاص عن ممارسة دوره في إنعاش الاقتصاد الوطني .
تاريخياً كان للقطاع الخاص في العراق دور معروف في تنمية الاقتصاد منذ بداية القرن العشرين وحتى صدور قرارات التأميم في 14/تموز/1964(1) . وبعد هيمنة الدولة وقطاعها العام على مجمل النشاط الاقتصادي لعقود عدة، عادت الدولة مرة أخرى وتحت وطئة ماخلفته الحرب الى محاولة اعطاء مساحة أوسع للقطاع الخاص، ولذلك اعتمد العراق سياسة الخصخصة رسمياً في عام 1987، وتبنى برنامجاً للتحرير الاقتصادي كمخرج لمشكلاته الاقتصادية ، وقد تبع ذلك إجراءات تقشفية وتخفيض مستوى الإنفاق العام ، حيث تضمن هذا البرنامج بيع المزارع الحكومية وعدد من منشآت القطاع العام الصناعي الى القطاع الخاص والاهتمام بتوفير المنافسة في النشاط المصرفي وتحرير أسعار السلع الزراعية والعديد من أسعار السلع الصناعية وإيجاد سوق للأوراق المالية وتقديم الحوافز لنشاطات القطاع الخاص ، وتشجيع الاستثمار الأجنبي(2) .
أما في مرحلة ما بعد 2003 ، نعتقد إن أول إعلان حكومي رسمي موثق، صدر عن وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي ممثلاً بستراتيجية التنمية الوطنية للمدة 2005 ـ 2007 والتي صدرت في تشرين الأول 2004 ، وأشارت الى أن القطاع الخاص سيلعب دوراً أساسياً في اعمار العراق والعملية التنموية المستدامة، وحثت الحكومة على وضع القواعد التنظيمية للسماح للقطاع الخاص بالمساهمة في البنى التحتية المالية وان تضمن الحكومة توفير الخدمات العامة والبنى التحتية اللازمة بأسعار ملائمة تساعد على نمو القطاع الخاص وتقوية مركزه التنافسي، باعتباره المحرك الأول لتنويع الاقتصاد في العراق، وهذه الحقيقة تتطلب إحداث تغييرات مؤسسية وقانونية لخلق مناخ ملائم لذلك .
وترجمة لهذه التوجهات فقد تضمنت القوانين الاقتصادية التي صدرت في هذه المرحلة مواداً تؤكد على هذا الدور والأهمية..وعلى سبيل المثال ، فان قانون الاستثمار رقم (13) لسنة 2006 ، أتاح الفرصة لرأس المال الوطني بالاستثمار جنباً الى جنب مع الاستثمار الأجنبي، من كونه جاء تحت مسمى ( قانون الاستثمار )، حيث حددت اهداف القانون بـ : تشجيع الاستثمارات ونقل التقنيات الحديثة وتشجيع القطاع الخاص العراقي والاجنبي للاستثمار في العراق، متجاوزاً بذلك توصيف القانون رقم (39) لسنة 2003 ، الذي كان تحت مسمى (الاستثمار الأجنبي)،وكذلك فان قانون الاستثمار الخاص في تصفية النفط الخام رقم (64) لسنة 2007 ، اكد هو الآخر على اهمية القطاع الخاص وجاء التأكيد على القطاع الخاص في المادة (1) التي حددت هدف القانون بأنه: يهدف الى تشجيع القطاع الخاص في المشاركة بعملية التنمية الاقتصادية في العراق والإسهام في بناء القاعدة الصناعية من خلال الدخول في نشاط تصفية النفط الخام .

إن هذه النظرة الى القطاع الخاص تحظى بأهمية استثنائية ـ برأينا ـ للأسباب الآتية:
1.إن هذا القطاع يمتلك القدرة على تنويع مصادر الإيرادات وتعزيز الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة، والحد من هيمنة القطاع النفطي كمصدر وحيد للإيرادات العامة.
2.يتميز بسمعة طيبة تاريخياً من ناحية جودة منتجاته، التي كانت تمتلك القدرات التنافسية وتغطي السوق المحلية، ويتم تصدير الفائض منها .
3.انه يسهم بشكل فاعل في تعزيز الميزان التجاري كأحد مكونات ميزان المدفوعات من خلال صادراته المتنوعة الى الخارج .
4.مرونة إدارته في اتخاذ القرارات الإدارية والتمويلية والتصديرية ودراسة السوق المحلية والخارجية بموضوعية وواقعية، طالما إن هدفه بالدرجة الأساس تحقيق الأرباح .
5.إن المنظم في القطاع الخاص لديه القدرة على المجازفة والمغامرة في استثمار رأس المال، ولديه المعرفة بالسوق ومتطلباته، ويتمتع بقدرته وكفاءته في اتخاذ القرار انطلاقاً من دراسات الجدوى الاقتصادية والتوقعات المستقبلية .
وعلى الرغم من أن التوجهات الاقتصادية الجديدة القائمة على اقتصاد السوق على وفق آلية العرض والطلب من دون تدخل الدولة التفصيلي، التي تعتمد على دور القطاع الخاص في قيادة النشاط الاقتصادي ، إلا أن الملاحظ أن القطاع الخاص لم يأخذ دوره كما ينبغي حتى الآن ، ونعتقد أن وراء ذلك أسباب عدة منها :
أ‌.استمرار السلوك المركزي في إدارة الاقتصاد من الدولة،وعدم وجود مرجعية اقتصادية تأخذ على عاتقها مسؤولية رسم السياسات الاقتصادية على وفق التوجهات الاقتصادية الجديدة وتنظيم الأدوار الوظيفية في النشاط الاقتصادي بين الدولة والقطاع الخاص .
ب‌.الضعف في تفعيل القوانين والاجراءات ذات العلاقة بالقطاع الخاص مثل قانون الاستثمار، واجراءات منع الاغراق وضبط الحدود .
ت‌. استمرار سريان الأمر المرقم (54) لسنة 2003 الذي أصدره الحاكم المدني الأمريكي للعراق، المتضمن فتح الحدود وإلغاء الرسوم الجمركية، الذي كان السبب في إغراق السوق العراقية بالسلع الأجنبية، ما أدى الى إلحاق الأضرار الفادحة بمنتجات القطاع الخاص ومن ثم الأضرار بالاقتصاد الوطني .
ث‌.عمليات التخريب والنهب التي طالت شركات ومصانع القطاع الخاص على أثر الحرب على العراق عام 2003 .
ج‌.النقص في الطاقة لا سيما الطاقة الكهربائية الذي أثرت سلبياً على إنتاج القطاع الخاص .
ح‌.هروب رؤوس الأموال العراقية الى الخارج بفعل فقدان الأمن خلال السنوات الماضية وعدم توافر بيئة استثمارية ملائمة .
خ‌.ارتفاع سعر الفائدة خلال السنوات المنصرمة وحتى بعد انخفاضه مرات عدة فانه لم يكن عاملاً مشجعاً على الاقتراض، إذ كان (24%) ، ثم انخفض الى (19%) ، و (14%) ، و(11%) و(9%) ، وأخيراً استقر عند (7%) ، وقد يكون التخفيض الأخير ـ الى حد ما ـ محفزاً للنشاط الاقتصادي الخاص .

ثانياً / الشراكة بين القطاع العام والخاص
على الرغم من التأكيد اليوم على القطاع الخاص ، وان اقتصاد السوق (الاقتصاد الحر) هم النظام الاقتصادي الذي تسعى لاعتماده بديلاً عن الاقتصاد المخطط الذي كان سائداً في المرحلة السابقة ، الا ان الشفافية في عملية التحول لا تزال غائبة على أرض الواقع ، حتى في ظل الافصاح عن هذا التحول والقوانين المهمة التي تم تشريعها ، كقانون البنك المركزي وقانون الاستثمار وقانون حماية المنتوج الوطني وقانون حماية المستهلك ، والتي يمكن اعتبارها من ضمن الاجراءات المهمة لتهيئة البيئة أو المناخ الملائم لعملية التحول المنشودة ، وهنا ظلت العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص غير واضحة المعالم ، ويشوبها الكثير من الشكوك لاسيما ما يتعلق منها بمدى مصداقية الدولة لتبني النظام الاقتصادي الجديد .
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن تعتبر الشراكة بين القطاعين البديل المناسب في هذه المرحلة عن هيمنة الدولة عبر قطاعها العام وتغييب القطاع الخاص عن أداء دوره الاقتصادي ، طالما ان هذا البديل في دلالته المفاهيمية يعني : علاقة مشاركة بالمخاطرة والأرباح وتمثل تعاوناً هادفاً بين كيانات عامة وخاصة من أجل الوصول الى الفوائد المتبادلة بعد تجاوز المصالح المتداخلة والمتضاربة أحياناً بين الأطراف المعنية(3). ويمكن أن تأخذ هذه الشراكة بأحد الأساليب الملائمة، مثل الشراكة في الإدارة أو الإدارة والإنتاج وغيرها من الأساليب، وبالتالي فانها تمثل مكاناً وسطاً بين احتكار القطاع العام والخصخصة الكاملة .
هذا الخيار يأخذ واقعيته من الفقرة (ثالثاً) من المادة (15) من قانون الشركات العامة رقم (22) لسنة 1997، التي نصت على: للشركة حق المشاركة مع الشركات والمؤسسات العربية والأجنبية لتنفيذ أعمال ذات علاقة بأهداف الشركة داخل العراق . وحيث أن هذه المادة لم تشر الى مشاركة القطاع الخاص المحلي صراحة، فيمكن تلافي قصورها بالاعتماد على ما جاء بالفقرة (أولاً) من المادة (12) من قانون الشركات رقم (21) لسنة 1997، التي نصت على: للشخص الطبيعي أو المعنوي، أجنبياً كان أم عراقياً حق اكتساب العضوية في الشركات المنصوص عليها في هذا القانون كمؤسس لها أو حامل أسهم أو شريك فيها .
ومن أجل تحقيق شراكة جيدة ، فانه يجب توافر عدد من المتطلبات الرئيسة التي تحقق فاعليتها، منها :
1.مراجعة أساليب الشراكة ( عقود الخدمة ، عقود الادارة ، عقود الايجار، عقود البناء والتشغيل ونقل الملكية والتملك ، . . . . الخ ) وبيان مزايا وعيوب كل منها .
2.تحديد المبادئ العامة الواجب توافرها لدى الشركاء ( الالتزام والتعهد ، الاستمرارية ، الشفافية ) .
3. وضع مرحليات لعملية الشراكة مع القطاع الخاص ( تحديد الأهداف ووسائل تحقيقها ، تحليل القدرة التسويقية، مراجعة وتطوير الاطار التشريعي والمؤسسي ، اختيار أسلوب الشراكة ).

ثالثاً / ما العمل؟
يرى الباحث ان العلاقة بين القطاعين العام والخاص هي علاقة تكامل ، حيث تكمل بعضها البعض الآخر، وبالتالي يجب أن لايحكمها التقاطع، بل انهما شركاء في الاقتصاد وتحقيق التنمية وحتى في المسؤولية الاجتماعية. وعليه نجد ان الشراكة تمثل المرحلة أو الاسلوب الأكثر تطوراً وجدوى من الناحية الاقتصادية، ففيها تعود الارباح المتحققة لكليهما بما يخدم النهوض الاقتصادي وتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية ، كما يتحمل كلا الطرفين المسؤولية المترتبة على المخاطرة أو الخسائر، طالما تبقى الشراكة كاطار لتنظيم الأدوار بين القطاعين العام والخاص ، بحيث يكون لكل شريك دور خاص به ولكن يكمل بعضهما البعض الآخر في اطار تنموي واحد .
وفي ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها العراق ، يمكن ان تكون هذه الشراكة الطريق الذي يمهد للتحول نحو اقتصاد السوق الحر بأقل التكاليف الاجتماعية .

والسؤال الختامي الآن : أين دور الدولة في كل ما تقدم ؟
في الواقع ستظل الدولة حقيقة فاعلة من خلال حجم الدور الذي ينبغي أن تقوم به هي من دون سواها ، من خلال: توفير الاستقرار الأمني والسياسي وتهيئة البيئة الحكومية والمؤسساتية لنظام السوق ومراقبته والاهتمام بالاطار القانوني الذي يشجع القطاع الخاص ويحمي الأفراد والشركات من الممارسات الفاسدة ، واصلاح النظام الضريبي وتطبيقه بموضوعية ، وتفعيل اسلوب النافذة الواحدة لتسهيل عملية استثمار القطاع الخاص لأنها تخفض التكاليف وتختصر الاجراعات الروتينية، ومنع الاحتكار والاستغلال واعتماد المنافسة كمعيار للجودة من خلال السوق .
* احد البحوث المشاركة في مؤتمر المدى الاقتصادي الاول