بنتُ الشاطئ وأبوالعلاء المعري

بنتُ الشاطئ وأبوالعلاء المعري

عبدالله خليفة
إمكانيةُ التلاقي بين الديني المحافظ والساخر من الأديان هي لحظةٌ فكرية (نهضوية) خلال تطور الشعوب العربية الإسلامية، حين يقوم الشديد التدين بالكتابة عن الساخر التحديثي، وقراءة إنتاجه الصعب القديم والإعجاب به معا.
عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ، التي كتبتْ باسمٍ مستعار، وقاومتْ الحبسَ المنزلي بالدراسة والقراءة ونجحتْ نجاحا كبيرا،

مثلما قيل عن أبي العلاء المعري انه (رهين المحبسين) وليس هو سجينٌ مثلما لم تكن بنت الشاطئ حبيسةَ البيت. توجهها لدرسِ القرآن وآثار أبي العلاء المعري وهما ذروةُ النصِ الديني وذروةُ النص الأدبي العربي، وبدايةُ النهضةِ وتتويجها، وهما قمةُ النثرِ وقمةُ الشعر، هو جهدٌ خارقٌ عجزَ عنه الجامعيون والمثقفون الكثيرون.

وتُسقطُ بنتُ الشاطئ الأساطيرَ عن أبي العلاء المعري بصفتهِ رهين المحبسين، والكائن المنعزل، والمجافي للبشر، والساخر من الدين والسياسة والحياة.
الإنسانُ التحديثي المعاصر يقرأ نصوصَ قوى التحديث القديمة ويكشفُ أبعادَها. إنه خلق التراكم النقدي التنويري الذي أنتجه أبوالعلاء وأعادتْ كشفه وتصعيده بنتُ الشاطئ في الحاضر.
ويتضحُ من عملِ بنتِ الشاطئ الفكري أن أباالعلاء هو مناضلٌ ومفكرٌ وشاعرٌ وناثرٌ اشتغل للدفاع عن النهضة وحرية الناس والتصدي للغزو الأجنبي.
المثقفون العرب في العصر الكلاسيكي لم يستطيعوا أن يخلقوا الاستقلالَ الفكري عن الإقطاعين السياسي والديني، عن قوى الهيمنةِ على المال العام وقوى الهيمنةِ على الدين، فكلهم توجهوا لهذا الطرف أو ذاك، أو للطرفين معا. مصالحُ الفئاتِ الصغيرة هو بؤرُ عملِها، ولها فإن الشعر والنثر يغدوان مَصلحيين غير باحثين عن الحقيقة.
وأبوالعلاء وقف شبه وحيد في الثقافة العربية يحلل وينقد الجانبين معبرا عن اتجاه جديد.

وقد ذهبَ أبوالعلاء لعاصمة الحكم ولكنه لم ينجح فيها فهو لا يعرف المدح لغير أهله، وعاد لحلب واستقل استقلالا شديدا عن مراكز السيطرات، وراح يدرس الثقافة وينقدها نقدا شديدا. والظروف كانت رهيبة، وأي كاتب نقدي يتعرضُ للزوال السريع إذا ما جرؤ على ما جرؤ فيه أبو العلاء. ولم يستطع المراقبون الأشداء أن يدينوه، ويعرضوه لمحاكمة، أو يمنعوا تغلغل آثاره في كل بلد إسلامي، لكون ثقافته الهائلة صعبة الكشف على الرقباء، وهي كتابةٌ مليئةٌ بكل محفوظات التراث العربي الإسلامي وأشكال الأدب الراهنة وقتذاك، وهي ذروةُ ما استوعبهُ العربُ والمسلمون في زمن هو أكبر زمن للتعسف والحروب الطائفية والدينية. كاتبٌ شاعرٌ حملَ كل الثقافة الدينية والأدبية والفلسفية عبر الحفظ والرواة ووجهها لمستوى عقلاني جديد.

حين يذكرُ البعضُ ان لأبي العلاء رسائل للأمراء يضمه البعضُ الى الفئة الخادمة نفسها، ولكن رسائله مختلفة، فهي دفاعٌ عن الناس، وليست من أجل النقود.
كانت حلب تواجه ليس فقط النظام التقليدي بل مخاطر الغزو الرومي، وقد دفعَ أهلُ أبي العلاء الشاعرَ من أجل أن يكتب رسالة لحاكم حلب لكي يعيد الأرض التي أخذها منهم، لكن أباالعلاء حوّل الرسالة لسخرية لاذعة من الوضع وعدم مجابهة الحاكم المملوك للغزو الرومي، وحاول بيع البلد فعراه وسخر منه ومن حكمه وطبقته.
قامت بنتُ الشاطئ بتحقيق رسالتي أبي العلاء: رسالة الغفران، ورسالة الصاهل واللاحج، وقد تحول الشاعر فيهما إلى كاتب نثر قصصي. تقول عنهما(تتجلى في الرسالتين كلتيهما، روحُ السخرية المرة والدعابة اللاذعة، وكأن هذه السخرية لعالم البشر، تعبر عن موقف أبي العلاء من مجتمعه)، من مقدمة كتاب الصاهل واللاحج.
لكن الأمر أبعد من ذلك فهي مناقضة أدبية وفلسفية لعالم القرون الوسطى وثقافته، لكن بأشكال أدبية صعبة ملأها أبو العلاء بالكثير مما يعرفه من التراث الأدبي اللغوي العميق.
أبوالعلاء كاتب مقاوم في عصره جمع كلَّ مادة الثقافة العربية وما تُرجم من الثقافتين الإغريقية والهندية وانتقد بها المواقف المحافظة والدينية.
إنها مناقضة لثقافة الحزن وغياب الفرح والضحالة وسيطرة نماذج الانتهازيين، مثلما تنقضُ بنتُ الشاطئ ثقافة الذكورة التقليدية وغياب الانتاج كأن الاثنين يخترقان طبقات الأجساد والطبقات والأزمنة العليلة بين عصرين.
إن هذه المرأة الدينية التحديثية عائشة عبدالرحمن تتقبل ثقافة أبي العلاء المتمردة الساخرة من السياسات والأديان برحابة صدر وتجلوها وتقدمها للقراء راحلة من بلد إلى آخر للحصول على نسخ كتبه ومقارنتها، وهي العسيرة في القراءة والتحليل.
إنها مثال للمرأة المنتجة التحديثية الديمقراطية التي اخترقت زمنها.

عن الحوار المتمدن