سعاد العطار في صحبة فيردي وشتراوس والآخرين :  ترجمت التراجيديا بصرياً والتغرب أوصلني إلى جذوري

سعاد العطار في صحبة فيردي وشتراوس والآخرين : ترجمت التراجيديا بصرياً والتغرب أوصلني إلى جذوري

غالية قباني
«كل أوبرا عملتُ عليها كانت امتحاناً لقدراتي العقلية وقدراتي الفنية. هكذا تقدّم سعاد العطّار تجربتها الجديدة التي تمخّضـت عن مجموعة رسوم وملصقات مستوحاة من أعمال أوبراليّة شهيرة. فالفنّانة العراقيّة التي نهلت من الأساطير القديمة لحضارة ما بين النهرين، بقدر ما تعاملت مع الشعر الجاهلي والحـديث، أرادت الخروج من العالم الـداخـلي الذي انغمست فيه طويلاً.

هكذا عاشرت مؤلّفين كلاسيكيين كباراً، طارحةً علـى نفسـها التحدّي. هنا اطلالة على تجربتها، وعودة إلى موقعها من الحركة التشكيليّة العراقيّة.
من يعرف سعاد العطار يدرك كم أن حياتها معجونة بهواجسها الابداعيّة. فالمشاغل الفنيّة تطبع سلوكها، ولعلّها الاطار الذي يحدّد برنامجها اليومي. وكلّ حديث معها مرتبط بالضرورة بعملها وانجازاتها، وبعيداً عن ذلك يبدو الكلام مربكاً... منذ أشهر دخلت العطار تجربة فنية جديدة، إذ أوكل لها مسرح «هولاند بارك» اللندني مهمّة رسم ملصقات العروض الأوبراليّة التي تشكّل برنامج موسمه الصيفي ابتداء من حزيران يونيو المقبل. ولعلّها المرّة الأولى التي تعهد مؤسسة بريطانيّة رفيعة إلى فنّان عربي بمشروع فنّي من هذا النوع، وبهذه الضخامة. وقد تم ذلك بعد أن زار أعضاء الهيئة المشرفة على البرنامج معرضها الشخصي الأخير الذي أقيم في «ليتون هاوس» الصيف الماضي.
«هذا كثير علينا!»، علق أعضاء اللجنة بدهشة عندما قدمت لهم نموذجاً مقترحاً... فالفنانة العراقية المقيمة في لندن منذ منتصف السبعينات، أرادت أن تقدم عملاً على مستوى طموحاتها ومشاغلها الابداعيّة، يكون في الآن نفسه جديراً بالمؤسسة الثقافيّة العريقة. وهكذا أنجزت العطّار 12 لوحة اختير منها 7 للنشر في برنامج الموسم. وهذه التجربة تبدو على درجة من الاثارة، إذ تشكّلت عند تقاطع نوعين ابداعيين وشكلي تعبير، ما يجعلها مثيرة للفضول، ويجعل الاطلاع على خلفيّاتها وكواليسها عمليّة مشوّقة وممتعة.
سبق لسعاد العطار أن رسمت من وحي أعمال شعريّة عربيّة، فما الفارق بين التعامل مع الشعر العربي، والتعامل مع الموسيقى، بل مع نوع فنّي غريب على الشرق هو الأوبرا؟ هذا بعض الأسئلة التي كانت تجول في خلدنا عندما توجّهنا إلى العطّار. «كل عمل له مفتاحه الخاص» استهلّت الفنّانة، وهي تدخلنا إلى كواليسها الابداعيّة مشيرةً إلى التحدي الذي واجهته في الأساس عندما قبلت العرض: «بعد معرضي الأخير، أردت الخروج من العالم الداخلي الذي انغمست فيه طويلاً. وعندما قبلت عرض الـ «هولاند بارك»، راودتني أفكار عدّة، وكان السؤال الأكبر هو: كيف أدمج بين عالم الأوبرا وعالم اللوحة، من دون الانزلاق إلى فخّ الرسم التوضيحي».
لكن هل اكتفت بالاستماع للأوبرا اثناء تنفيذها اللوحات، أم أنها اطلعت على أعمال فنية بصرية سابقة عبرت عنها؟ ترد بما يشبه الاستنكار: «سماع الأوبرا بمفرده لا يخلق لوحة». ثم تضيف: «بدأت استمع إلى كل أوبرا داخلة في المشروع المطلوب منّي تنفيذه. بحثت عن مصادر مكتوبة، وبدأت أنفذ التخطيطات الأولية، وبما ان معظمها يتطرق إلى موضوعات إنسانية مشتركة: الحب، الانتقام، الألم، الغيرة... فقد وجدت نفسي من حيث لا أدري في دائرة مشاغلي، ومشاغل كلّ كاتب أو فنّان. كما ان موضوعات غادة الكاميليا مثلاً أو المهرج، مألوفة للجميع».
تعاملت العطّار مع الأعمال الأوبراليّة كفنانة شرقية، وتشكّل أسلوبها انطلاقاً من هاجس حل رموز هذا الفن الغربي. ووجدت في بعضها عالماً شرقياً، خصوصاً أن معظمها ايطالي. وكان أكثر ما بهرها وأمتعها في رحلة البحث هذه، اكتشاف تأثير الغناء العربي على فنون صقلية. لذا فقد «شرّقت» الأوبرا عندما رسمتها، ولم تبتعد عن عالمها التشكيلي الخاص كثيراً. فالناظر يلاحظ بسهولة بعض الوجوه التي شاهدها في لوحاتها. هناك عشتار، ووجوه أخرى من تماثيل بلاد الرافدين.
توضح الفنّانة: «كل عمل من الأعمال التي اشتغلت عليها، كان بمثابة امتحان. امتحان لقدراتي العقلية، إضافة إلى قدراتي الفنية، وتماسك أسلوبي وتقنيّاتي التلوين، التخطيط، إلخ. أصعب الأعمال كان أوبرا «الخفاش» لشتراوس، فهي على عكس الأعمال الأخرى، عمل خفيف خالٍ من شحنة التراجيديا. في «المهرج» لليونكافللو، رسمت الزوج المخدوع محاولاً قتل زوجته، وهي طائر مجروح يحاول الطيران. في أوبرا كافاليريا راستيكانا أظهرت الشخصيات الثلاث في حال تأزم لاظهار البعد التراجيدي للعمل، فبدا الزوج والزوجة والعشيق كأنهم داخل سحابة مكفهرة». لكن ألم تنحَز للمرأة التي قدّمت غالباً في صورة «الخائنة»؟ يبدو السؤال بعيداً عن خاطرها: «لا يمكن الانحياز لطرف. على الفنان أن يركز على المشهد المقترح، الخط والألوان، من دون أن يكون ناقداً للعمل. المهم عندي كان كيف أترجم التراجيديا بصرياً».
إلى جانب نزيهة سليم ومديحة عمر، تعتبر سعاد العطّار وأختها الراحلة ليلى من الفنانات التشكيليات الرائدات في العراق، وإن كانت تصغرهن سناً، وتفوقهن في استمرارية التجربة ومواصلة تطويرها. أقامت أول معرض شخصي لها عام 1964، وضمّ حينها خمساً وأربعين لوحة زيتية، في وقت لم تكن بغداد قد عرفت ظاهرة المعارض الشخصية إلا بحدود ضيقة. كان ذلك بعد عودتها من الولايات المتحدة حيث التحقت بدورات عدة، واطلعت على مدارس الفن الحديث.
عادت العطّار إلى بيئة كانت قد نضجت تشكيلياً وتميزت عن باقي البلدان العربية. فالحركة التشكيليّة العراقيّة بدأت في عشرينات القرن الحالي تقريباً بشباب خاض معظمهم الحرب العالمية الأولى، وعادوا من المعسكرات، بألوان زيتية وتجارب شخصية، إلا أن تجاربهم كانت أقرب إلى أعمال الهواة. وفي منتصف الثلاثينات سافرت مجموعة من الفنانين للدراسة في باريس وروما وانكلترا. من بعض العائدين تكونت مجموعة «أصدقاء الفن» الذين أقاموا معرضهم الأول العام 1941 في بغداد. وفي الخمسينات، بعد أن فشلت جماعة «أصدقاء الفن» في استيعاب التيارات الجديدة، تبلورت تجمعات أخرى، منها جماعة الرواد التي التفّت حول فائق حسن. لم يطرح هؤلاء أي بيان، بل استهدفوا الأسلوب الحديث، بادئين مرحلة جديدة في تاريخ الفن العراقي. معرضهم الأول أقيم في بغداد سنة 1950، وقد انتمت إليهم العطّار سنة 1966، وشاركت في جميع معارضهم حتى أوائل السبعينات.
والتفّ عدد آخر من الفنّانين العراقيين حول جواد سليم الذي زامل الرواد في بداية تكونهم، فأسسوا «جماعة بغداد للفن الحديث» التي لم تقتصر على الرسامين، بل ضمّت نحاتين ومعماريين، إضافة إلى بعض الكتّاب. كما شهدت الحركة التشكيلية تجمعات أخرى مثل «جماعة الانطباعيين»، و»الرؤية الجديدة»، و»جماعة المجددين»، وجماعة «البعد الواحد» التي كان أبرز أسمائها شاكر حسن آل سعيد.
أعطت هذه التجمعات والتجارب طابعاً شخصياً للفن العراقي الذي حاولنا أن نستعرض مع العطّار بعض محطّاته. «تأثر كثير من الفنانين العرب بأساليب الفنانين العراقيين، فتأثيرهم دوماً كان الأقوى»، تقولها بثقة... وتحيلنا للأسباب «حضارة العراق القديم، تأثير الفن الإسلامي، العباسي تحديداً من خلال رسوم الواسطي، طبيعة بلاد ما بين النهرين بنخيلها وشمسها، إضافة إلى العوامل النفسية: فالعراقي تميز بمسحة الحزن في فنونه. لكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق، ترك أثرها السلبي على نتاج المبدع العراقي بشكل عام».
وعن سيرتها تقول: «نشأت في بيت لم يكن الرسم فيه هواية، بل أسلوب حياة. فقد كان لوالدتي الدور الأكبر في التوجيه والدعم منذ الصغر، إضافة إلى كونها هي نفسها ترسم». تقول ثم تطلق آهة، هي حسرة مشتركة بين كل النساء المشتغلات في العمل الابداعي: «الصعوبة التي تواجه المرأة، هي عملية التفرغ، فالمواصلة صعبة قياساً بظروف الرجل الفنان. لكن مع ذلك، اعتقد ان الحساسية الانثوية الخاصة موجودة في مجال الفن التشكيلي بشكل أعمق مما هي عليه في الكتابة. لكن ابتعادي الطويل عن العراق حرمني من الاتصال المباشر بما يبدع هناك بشكل عام».
تتميز تجربة العطّار بالثراء، ويلاحظ المتابع لمعارضها التطور والتجدد في الموضوع والأسلوب. وها هي تشرح لنا صيرورة عملها وايقاعه: «أمرّ بمرحلة استنزفها حتى آخرها وأدخل غيرها. مراحل مثل الشجرة، المدينة، الحس الصوفي، المرأة وعالمها، المقامات... الخ. وأستغرب أن يراوح بعض الفنانين مكانه، ويسرف في تكرار نفسه». وإذا كان يحسب لهذه الفنانة عدم انغلاقها على ذاتها كفنانة شرقية تعيش في الغرب، فهي في الوقت نفسه تفادت مطبّ نسخ التجارب التشكيلية الغربية. فكيف حافظت على شخصيّتها الخاصة؟
«فور عودتي من أميركا في الستينات تبلورت أهم ملامح تجربتي التي ظهرت منذ معرضي الأول. وظهرت الرموز التي رافقتني لاحقاً مثل: البراق، المدينة، التضاد بين الحزن الداخلي وخلفية الألوان، الرموز العباسية، إلخ. وجودي في الغرب عمق تجربتي الفنية من خلال اطلاعي على التقنيات والأساليب الحديثة في الرسم والليتوغرافيا والحفر، إضافة إلى متابعتي الدقيقة للحركة التشكيليّة من خلال المعارض التي تحفل بها لندن طوال العام. كلّ ذلك ساعدني على التوصل إلى مضامين لم أكن واعية لها، مضامين لها علاقة بجذوري، من بينها الأسطورة. ليست هناك اسطورة معينة، وإنما هو عالم داخلي روحاني. مهمتي لم تكن في التطرق إلى أساطير سومرية، بابلية أو آشورية، إنما رصد انعكاس ذلك الارث الحضاري على حسي الداخلي. فالبراق أحد أهم مضامين لوحاتي، استعيره رمزاً للحس الإنساني بشكله الأسطوري».
ولا بدّ من التذكير بأن الشعر كان أحد مصادر إلهامها البارزة. فقد استوحت بعض ملامح لوحتها من الشاعرة الجاهلية ليلى بنت لكيز، المعروفة بليلى العفيفة. كما غرفت من شعر نزار قباني وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأدونيس ومحمود درويش وغيرهم: «كلمات الشعر جــزء من تكوين اللوحة عندي»، تقول سعاد العطّار، قبل أن تضيف: «ما أقصده انني لا أحشر الشعر في اللوحة بشكل تزييني، بل يكون تركيـب اللوحـة على أساس الشعر ومن وحيه. تفرغت سنوات لهذه التجربة، وكان في نيتي طباعة اللوحات في كتاب مستقل، إلا أنني أجلت المشروع للمستقبل» 0
عن/ الحياة اللندنية