سعاد العطار صارت رسامة وهي في السادسة..فنانة عربية حالمة «تصنع» السلام باللون والريشة !

سعاد العطار صارت رسامة وهي في السادسة..فنانة عربية حالمة «تصنع» السلام باللون والريشة !

آن جوسيف
حلمت سعاد العطار منذ طفولتها بأن تصبح رسامة، وبدأت رحلتها مع الرسم في سن مبكرة متأثرة بوالديها. ومن العراق الى اميركا الى المغرب استوحت الفنانة اشياء كثيرة وطورت موهبتها وفنها وأثرتهما فجاءت رسومها نابعة من القلب معبرة عن عالم يخيم عليه السلام. وقد استطاعت ان تكون اول فنانة عربية تشارك في معرض الاكاديمية الملكية البريطانية للفنون في العام الماضي والذي يقام سنوياً في منتصف فصل الصيف.

العالم الذي تنسج سعاد العطار ملامحه في لوحاتها عالم خصب موشى بألوان شتى، يسكنه احياناً اناس يتمددون في كسل مريح في حدائق مزدانة بالاخضر الجميل. انه عالم احلام او مهرجان خصب وعطاء لا ينضب. عالم يتّشح بمسحة من الحزن العميق في تشكيلات لونية اخرى تطوف فيها شخوص اسطورية في فسحات يلفها ظلام مخيف، وتظللها سماء حمراء بلون الدم. من هذه اللوحات الكئيبة واحدة تحمل عنوان «اصبح الغناء نحيباً يا عشتار» كانت الفنانة رسمتها العام الماضي في محاولة للتعبير عن العواطف التي انتابتها ايام حرب الخليج والفترة التي تلتها.
اتخذت الفنانة من لندن مقراً لها منذ 1976، وهي تعيش حالياً في منزل كبير في الجزء الغربي من العاصمة البريطانية، يشاركها اياه زوجها رجل الاعمال وصغرى بناتها الفنانة زينة. تزين لوحاتها اروقة هذا البناء الفيكتوري الواسعة، وتستقبلك مرحبة فكأنك في معرض بديع دائم لأعمالها. ابنتها «بان طبيخ» المهندسة المعمارية البارعة هي التي صممت الديكور الداخلي للمنزل على نحو آسر. فالسقوف مطلية بلون الفضاء، والمرايا تتوزع في ارجاء المكان لتحدث أثراً طاغياً ينجم عن التساوق بينها وبين هذه السماء الاصطناعية. اما الردهة الوادعة حيث تتناثر الوسادات والمطرزات الشرقية فكانت المكان الذي ضمنا مع سعاد العطار التي لا يوحي مظهرها، لأول وهلة، بطبيعة مهنتها الفنية، اذ تبدو نعومتها بمعالمها الدقيقة الجميلة وصوتها العذب في تناقض مع الصورة التقليدية للفنان البوهيمي الفوضوي. الا ان رقة سعاد تخفي ارادة حديدية وقدرة على الكد لا تخذلها ابداً، اذ استطاعت انجاز 88 لوحة جديدة في وقت قياسي بغية تقديمها في معرضها الاخير.
انها، بلا شك، تقطف ثمار جهدها، فشهرتها تنتشر بسرعة. وهذا انجاز ضخم اذا ما اخذنا في اعتبارنا صعوبة اثبات الفنان لذاته. فهي تحتل حالياً طليعة الموجة الجديدة من الفنانين العرب الذين ذاعت شهرتهم عالمياً، وتستند هذه المكانة الى ما كانت قدمته من اعمال فنية على مدى سنوات طويلة.
وفي حديث خاص، أسعفتها ذاكرتها على استعادة بدايات صداقتها، القديمة العهد، مع الريشة واللون. وعادت بها الذكرى الى المنزل اللطيف في بغداد. «ترعرعتُ بين عشرات اللوحات في كنف والدة فنانة كانت رسومها تغطي جدران البيت الواسع. ومع اني لم ارها ترسم ابداً، الا اني اذكر جيداً يوم اعطتني علبة تلوين وأنا بعد في الخامسة من العمر. وكيف انسى ذلك اليوم الذي بدأت فيه اطمح بأن اصبح فنانة؟ وأذكر عندما كنت في السادسة من عمري، وكأني الآن على مقاعد الدراسة، حين سألتني المعلمة ماذا تريدين ان تصبحي في المستقبل؟ فأجبت: فنانة تشكيلية».

فنانة منذ الطفولة
لم تتأثر سعاد العطار في سنيها الأولى بوالدتها فقط، اذ ان اباها، الموظف الحكومي، عشق الرسم ايضاً وشجع طفلته على ممارسته. ولم يطل بها الوقت حتى بدأت ترسم «البورتريه»، وكانت في الثامنة من العمر. وبعد ذلك بسنتين ساهمت في معرض دولي لرسوم الاطفال. وربما كان احد اسرار هذا البروز المبكر ادراكها بأن الرسم فن جاد وليس وسيلة لمضيعة الوقت يختارها الفاشلون. لذلك واظبت على ممارسة هوايتها دون ان تتقاعس عن واجباتها الدراسية، وتمكنت من النجاح بتفوق فأرسلت في بعثة دراسية الى الخارج على نفقة الدولة.
وفي مرحلة صباها الاول، حققت سعاد العطار نقلة مهمة على درب الفن العراقي ككل، اذ اقامت معرضها الاول الذي ضم اعمالاً لبعض الرسامات العراقيات.
وبفضل التراث الفني العريق الذي يتميز به العراق، لا يستطيع الفنان ان يستقطب الاهتمام ما لم يكن انتاجه على درجة معينة من الاصالة. الا ان سعاد اجتازت الامتحان ولفتت الانظار برسومها «التي مثلت التعبير الاول عن اسلوبي. اذ سعيت فيها الى تجسيد رؤيتي الفنية ولاحظت ان الناس، بمن فيهم الفنانون المحترفون، كانوا يتأملون رسومي بهدوء باحثين فيها عن ملامح هذه الرؤية التي ربما بدت لهم غنية تتسم بالثراء».
ولم تتوقف الفنانة عن التعبير عن موهبتها بعد زواجها في الثامنة عشرة ورحيلها الى الولايات المتحدة، حيث درست تاريخ الفن والرسم في جامعة كاليفورنيا. وتذكر تلك الفترة بود وتقول «كانت مرحلة عظيمة في حياتي نهلت فيها الكثير من المعرفة. كل يوم كان تجربة جديدة بحد ذاتها، وأذكر اني حاولت تعلم كل ما من شأنه ان يساعدني على تطوير موهبتي. عدت الى بغداد قبل التخرج بسنة واحدة وأقمت معرضاً لخمس وثلاثين لوحة. ولشد ما كانت دهشتي حين لمست الاقبال الواسع على المعرض، ولم اصدق في النهاية ان الزوار ابتاعوا الرسوم كلها ما عدا اثنتين فقط. وكانت هذه المناسبة حافزاً لي على المتابعة».
وعندما سألناها عن الاسلوب الذي ميز تلك اللوحات، قالت، في شيء من التردد «من الصعب تقديم اجابة دقيقة، فليس سهلاً ان نصنف الفنان او نميزه عن غيره بانتمائه الى مدرسة ذات تقاليد فنية معينة. الا انني اذكر اني عزمت آنذاك على صياغة اسلوبي الخاص بدلاً من احتذاء فنانين آخرين. كنت أؤمن ان على الفنان ان يبحث عن هويته المتميزة، وألا يكتفي بتقليد فنانين أوروبيين كما فعل اكثر الرسامين العرب آنذاك. وأدركت لدى عودتي الى بغداد قادمة من اميركا امكان استفادتي من تراثنا الفني العريق. وعلى رغم اني كنت لا ازال في مقتبل العمر، فقد كنت افكر في كيفية النهل من هذا النبع الثري».

الطبيعة الملهمة
ويتلمس المشاهد هذا الميل في لوحاتها المبكرة، اذ اتسمت اعمالها في تلك الفترة بشغف في معالجة شخوص ومناظر طبيعية تبدو عربية صافية. واستوحت من النهر الذي جاور منزلها سلسلة من الرسوم ذات المسحة السوريالية والتي بدا بعضها تصويراً لمشاهد اشبه بالاحلام.
ومع قدومها الى لندن. خضع اسلوبها لتغير جذري مفاجئ وصفته على النحو التالي «قبل ان آتي الى لندن في العام 1976، كنت استلهم رسومي من الناس والأمكنة التي ألفتها. وعندما وصلت الى هذه المدينة لم اعد قادرة على الامساك بفرشاتي على الاطلاق، وشعرت برغبة في تعلم تقنيات فنية جديدة. قلت في نفسي يجب ان انسى انني رسمت الكثير على مدى سنوات عدة، وعليّ ان أبدأ من نقطة الصفر».
كان لهذا التوعك الذي ألمّ بالفنانة جانبه الطريف، اذ دفعها الى الالتحاق بـ «مدرسة ويمبلدون للفن التشكيلي»، وهي التي عملت مدرّسة للفن بين 1964 و1976 وأمضت نصف هذه المدة معلمة في الجامعة. «لم اندم على الدورة التي اتبعتها في تلك المدرسة بل جهدت الى اكتساب خبرات فنية جديدة. قضيت عمري في الرسم، وتعودت ان انضم الى قطعة القماش وأبدأ بالرسم دون تلكؤ. وفجأة وجدتني عاجزة عن العطاء وقد نضبت افكاري ووهنت مقدرتي التقنية وصرت اتساءل عن كيفية العودة من جديد مع افكار اخرى واسلوب مبتكر، وكأن ماضيّ الفني كله غدا اثراً بعد عين».
وخروجاً من هذا المأزق لجأت سعاد العطار الى الحفر على الزنك الذي واءم اسلوبها الفني، وكانت اتقنته في مرحلة متأخرة حين التحقت بمدرسة ويمبلدون اولاً ثم بـ «سنترال سكول» للفن والتصميم. غير ان مصدر وحيها هذه المرة كان مختلفاً، فهي تقول «تعلقت بالتاريخ الآشوري وبدأت ازور المتحف البريطاني اسبوعياً بغية تأمل الجداريات والتماثيل الآشورية التي شدتني. وانكببت على مزاولة الرسم من جديد امام هذه الآثار القديمة، فتسربت صور تعود للألف الثالث قبل الميلاد الى اعمالي للمرة الاولى».
وكرست نفسها تماماً بين 1976 و1980 للطباعة الفنية التي تعلمتها في بريطانيا ولم تكد ترسم شيئاً خلال هذه الفترة. ثم عادت الى الرسم بعد ذلك وحفل انتاجها بعناصر جديدة استخدمت في صياغتها الواناً مركزة. وقبيل بداية التسعينات لمست سعاد حاجتها الى معالجة موضوعات فبدأت تبحث عن مصدر للالهام. ولم يكن وصولها الى هذه النتيجة سهلاً. «أدركت اني لم أقم معرضاً في لندن خلال سنوات طويلة، وقررت ان عليّ التركيز على الرسم. لكن ما الذي اريد ان ابثه في رسومي؟ لم اكن اعرف ابداً».

في المغرب
ولم تلبث ان توضحت رؤيتها وعادت الحياة الى فنها اثر رحلة قادتها الى المغرب، حيث استوحت فكرة المرأة المنحنية وصاغت منها سلسلة من الرسوم. وفي حنين واضح لأرض المغرب وناسه. تقول سعاد «الشمس وأشجار النخيل والالوان وحفلات الاعراس كلها كانت معيناً للالهام الذي ساعدني على انجاز هذه اللوحات. لكني لم احصل على القسط الكافي، كما يبدو. ولم استطع ممارسة الرسم بعد شهر آب اغسطس 1990». وما ان مر بعض الوقت على احداث آب اغسطس التي كانت صاعقة حتى سعت الى التعبير عن ضيقها النفسي وألمها في رسوم جديدة. وسارعت الى الغاء خططها لاقامة معرض لأعمالها، وانهمكت في اعداد طائفة من اللوحات يجتمع فيها النص المكتوب بالصورة واللون. وتذكر هذه التجربة التي لم تألفها من قبل قائلة: «حاولت ان اتمالك نفسي وأنكب على عملي الفني. وفعلاً بدأت في ايلول سبتمبر برسم الخطوط الاولى. لم تأسرني قبل ذلك فكرة استخدام الخط في اللوحة الفنية اذ كنت اعتقد دوماً ان الخط فن قائم بذاته غريب عن الرسم. الا ان الفكرة راقت لي وصار للكلمات منزلتها المهمة في لوحاتي. وزاد من تعلقي بالفكرة مواظبتي على قراءة الشعر الذي استوحي منه عادة عناوين رسومي. وهكذا واصلت العمل خلال الشتاء وفي كانون الثاني يناير خيم عليّ الحزن وكاد قلبي ينفطر. لكني تابعت العمل على رغم الألم والبكاء الذي لازمني على الدوام آنذاك. وفي نيسان ابريل وجدتني امام 35 لوحة انجزتها في تلك الفترة».
ورسومها هذه نابعة من القلب تبدو وكأنها ملجأ احتمت به من حدة الألم والحرقة. وهي تصادق على هذا التفسير، اذ تعتقد ان تجربتها كانت «كالحلم في عالم يخيم عليه السلام. كانت هروباً من الواقع الصعب. فاذا كان الحلم جميلاً تشبث به الحالم، وازدادت رغبته بمواصلته. وأحياناً كنت امضي خمس او ست ساعات في رسم وردة وحيدة. فكنت اغلق بابي على الواقع المر وأحلم بعالم زاه أنيس».

الحلم دائماً
شغفها بالحلم لم يتضاءل، اذ وظفت مزيداً من العناصر في لوحاتها الاخيرة ذات الطابع السوريالي. ففيها نرى اسماكاً ونساء طافيات على سطح بحر تسوره جدران منزل زجاجي. ولا تتردد في ابداء اعجابها بالفنانين السورياليين، فتقول «سحرني هؤلاء على الدوام، وأخص منهم بالذكر ماكس ايرنست وماغريتي. ينجح السورياليون دائماً في استعادة احلامهم وعرضها امام ناظريك». غير ان اقوى لوحاتها الاخيرة مجموعة من الرسوم انهتها اخيراً، ففي هذه الاعمال تصطبغ السماء بلون احمر قان، والظلمة تلف الارض، وترتسم علائم الألم والانقباض الحاد على الوجوه. ويتراءى للعارف بفن سعاد العطار ان هذه الرسوم تمثل الجانب المظلم للحلم الذي كثيراً ما سكن اعمالها الاخرى. فعناوين لوحات المرحلة الاخيرة تنضح بالألم ايضاً، كتلك التي سمتها «الأمس لن يعود...».

عن/ النهار اللبنانية