الطاهر ومرجعياته المعرفية

الطاهر ومرجعياته المعرفية

د . نادية غازي العزاوي
في كتابه (فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية )يضع الدكتور علي جواد الطاهر يده على المرجعيّات المعرفيّة الموسّسة لوعيه وثقافته، ومنها ثلاث:

1- المرجعيّة التراثيّة:
بتاثير النشأة في مدينة عريقة في عمقها التاريخيّ الحافل بالعلم والعلماء، وكان لا يزال التحصيل العلمي جارياً في الكتاتيب على الطرق التقليدية بالتأكيد – خاصة – على عناصر أساسيّة: (القرآن الكريم، الشعر، اللغة) وبالاعتماد على آليّات أساسية في مقدمتها:

ترويض ملكات الطلبة على الاستظهار والحفظ الكثير، ثم التفسير والفهم، وهي الطريقة التي أطلق عليها التربويّون – لاحقاً – اسم (نظرية التكشّف)، وقد دافع عنها الطاهر لأنّه لمس جدواها فيما اختزنت حافظته من نصوص ومعلومات ظلت تسلس له قيادها حتى آخر حياته.

ومع الكتاتيب شرعت – في عهده – تأسَّس المدارس الحديثة وتظهر معها الأساليب الجديدة في التعليم، وهكذا اتيح للطاهر ومن هم في جيله عامة فرصة أن يتعاور عليهم نمطان من المعلمين يمثلان توجهين مختلفين: شيخ معمّم في الكتاتيب ينهج بهم نهج الأقدمين في دراسة الاصول وتوجيهها، ومعلم عصري يعتمد على الطرائق الحديثة في التلقين والتحليل والاستعانة بوسائل الايضاح من سبورات وخرائط ومجلات، ولذلك نشأ هذا الجيل نشأة متوازنة في جمعها بين القديم والجديد.
والطاهر من حفاظ الشعر، لا يني ينثال عليه ويستمدّ منه الشاهد والمثل والعبرة في أغلب صفحات الكتاب، وعلى نحو ما وضّح: (انّ عوامل الشعر قائمة في المجتمع الذي أعيش فيه على وجه يلفت النظر ويجتذب اليه من كانت له أذن على شيء من الاستعداد...... ولا بدّ من أن يكون لذلك الاهتمام – اذا لقي أذناً مستعدّة – أثره في الصقل الموسيقيّ وتلقّف الأوزان) (ص 55) .

والولع بقراءة الشعر وحفظه والاعجاب بمعانيه وخصوصيّة لغته هي التي جعلته ينظم الشعر مبكراً والشعر العاميّ منه خاصة في المدرسة الابتدائية (ص 37) وفي المحلّة، ثم خاض تجربة كتابة الشعر- فعلاً – في شبابه، ولكنها ظلّت تجارب عابرة لم يمنحها الفرصة الكافية لتتطوّر: (ودار المعلمين العالية جوّ شعريّ وموئل شعر ورأى صاحبنا نفسه يقول شعراً لم يخلُ من شاعرية، وهو يقرّر - هنا – أنّ أ ول انبثاق شعري له جرى بعد قراءة........ ديوان ابراهيم الطباطبائيّ...... وان صاحبنا لم يدخل في حسابه أن يكون شاعراً وفي هذا يكمن سبب مهم لانقطاعه العاجل) (ص 144، 145) ..

2- المرجعيّة المصريّة:
واعني بها الحصيلة المعرفيّة التي أمدتّه بها الحركة الثقافية المصرية الحديثة خلال النصف الأول من القرن العشرين، وليس المقصود طبعاً ما حصل عليه خلال فترة دراسته في جامعة فؤاد في مصر خلال سنة ونصف (شباط 1947 / حزيران 1948). وانّما ما اكتسبه وهو في العراق، فقد كان القرّاء العراقيون نهمين يتلقفون بهمة عالية جديد دور النشر والمطابع المصرية فتأثر بكثير من الأعلام: (طه حسين، سلامة موسى، أحمد حسن الزيات، توفيق الحكيم، المازنيّ، محمد مندور..... الخ) في حدود تتراوح بين التأثّر بطروحاتهم الفكريّة وبين التمتّع بأساليبهم الفنية في الكتابة، ولم تكن عدّته في ذلك كتباً فحسب، بل مجلات وسلاسل أيضاً تحتلّ مكانة مهمة لديه: (الرسالة، الكاتب المصريّ، الهلال، الثقافة، سلسلة (اقرأ).... الخ، وـ(للرسالة) – خاصة – مكانة مستديمة لديه بما قدَّمت له من اسرار فنية في صناعة الأساليب (ولا سيما أحمد حسن الزيّات)، وبما أمدّته به من حصيلة ثقافية مبكرة في النقد الأدبيّ.

3- المرجعيّة الفرنسيّة:
بتأثير دراسته في السوربون التي قدّمت له اثنتين:
3/أ – دراسة التراث العربي بطرائق جديدة على يد جماعة من المسشرقين أخذ عنهم أصول مناهج البحث والتحقيق: (وأشهد هنا أنّي تعلّمت كثيراً جداً من المسيو بلاشير في شؤون المنهج وأكاد أقول: لولاه لما عرفت جوهر المنهج ولولاه لما عرفت جوهر التحقيق: تحقيق المخطوط العربي) (ص 156).
3/ب – دراسة روائع الأدب الفرنسي بلغتها الأصلية وبما أتاح له توسيع أفقه المعرفي، ويصف هذه التجربة باعتزاز ملحوظ: (اختلفت الى مدرجات الأدب الفرنسي أضعاف أضعاف ما اختلفت الى غرف الأدب العربي، ووجدت لدى المسيو مورو ما يكمل ما وجدته لدى المسيو بلاشير، وفرحت بدبلوم الحضارة الفرنسية – وتقوم أركان الدبلوم على الأدب الفرنسي – أضعاف فرحي بالدكتوراه، وقرأت الكثير من نصوص الأدب الفرنسي وتاريخه ونقده) (ص 158).
***
ج - وفي الكتاب لمحات مفيدة عن تاريخ التعليم الحديث في العراق بما انتقت الذاكرة من أسماء المدرسين الذين تأثر بهم وعنوانات الكتب المدرسية التي درسها خلال المراحل الدراسية المختلفة مقرونة بأسماء مؤلفيها العرب والعراقيين منبهاً في صفحات كثيرة الى أهميّة هذا الجانب المنسيّ من تاريخنا: (أنّ هذه الكتب في حكم المفقود وأحسب أنّ الذي بقي منها في المكتبة الوطنية – أنْ بقي منها شيء – محدود جداً على حين أنّها في جملتها تكوّن اسساً من الفكر العراقي في تطوره والعلم العراقي والأدب العراقي، ولا يستحيل أن يتجرد باحثون متخصّصون في المكتبات (الببلوغرافيّة) تُنيط بهم جهة رسمية معتمدة عمل (معجم بالكتب المقررة) ويُذكر فيه اسم الكتاب والمؤلف أ و المؤلفين أو المترجمين وتاريخ الطبع ومكانه وعدد طبعاته ليرجع اليه الدارسون ويتابعوا من خلاله التطوّر ويستعيدوا التاريخ العام والخاص) (ص 81).

وتهمني كثيراً اشارته الأخيرة عن (التاريخ الخاص)، فما سجّله في هذا الجانب ليس من قبيل التاريخ العام، انّما أرَّخ لمواقف وأحداث تقع ضمن الخاصّ والخاصّ جداً – أحياناً – ما يمنحها قيمة وحيوية.
لقد رصد – فيما رصد – الأسس الصحيّة المعتمدة في فلسفة العملية التربوية في مدارسنا الأبتدائية والثانوية، اذ سعت – مبكراً جداً – بقصد توسيع مدارك الطلبة الى عدم غلق العملية التربوية على الأنشطة الصفية ضمن حدود (الكتاب المقرر والمعلم) بل مدّتها الى الأنشطة والفعاليات الثقافية: (المسرحيات، الحوارات الشعرية، الرسم، مواسم الخطابة، دروس الموسيقى، تاسيس المكتبات......الخ).