آفاق ..يوميات الكتاب

آفاق ..يوميات الكتاب

سعد محمد رحيم
معظم الذين يدوِّنون يومياتهم إنما يدوِّنونها لأنفسهم ولا يفكرون بنشرها على الملأ. غير أن الأمر لا يكون كذلك، غالباً، فيما يخص الكتّاب. في يوميات تولستوي، المنطوية على بعد وعظي، تربوي، نلمس تلك المسحة الرقيقة من الروحانية التي طبعت حياته بطابعها.

تلك النبرة الوقور المتقشفة التي تنقل لواعج النفس وخلجاتها الصافية، وتأنف من الإفصاح عن الجانب المحتدم الحسّي للجسد. فيما تكتسي يوميات فرجينيا وولف بغلالة كئيبة تعبّر عن روح معذّبة تحدّق في العدم، هي التي ستكتب قبل بضعة أيام من انتحارها غرقاً في مارس 1941؛ "لديّ إحساس هائل يشبه الإحساس بشاطئ البحر حيث كل واحد يحارب ضد الهواء، ويجد نفسه ممسوكاً من الفراغ، أو فارغاً من جسده".
أما في ( يوميات لص ) لجان جينيه فتألف نفسك مع روح ملعونة متمردة، مستوحشة، متوحدة، حزينة، تلتم على مزيج غريب من الوجد والقسوة والألم، ولكن مع كثير من الإباء والنبل والكبرياء على الرغم من أنه، في معظم الأحيان، يتحدث عمّا يعد موبقات في نظر المجتمع كالسرقة والشذوذ الجنسي. إن في تجلي روحه عارية عبر الكتابة تعبير عن صرخة احتجاج وإدانة للمجتمع البرجوازي الذي وجد نفسه، منذ طفولته، منبوذاً فيه.
تختلف الحال مع كافكا الذي أوصى صديقته (ميلينا ) بحرق يومياته على غرار وصيته لصديقه ماكس برود بحرق قصصه ورواياته. لكن تلك اليوميات وقعت أخيرا في يد برود الذي أخلّ بعهده ونشر أعمال الكاتب، ومنها اليوميات التي تغطي ثلاث عشرة سنة من حياته ( 1910 ـ 1923 ) ويصل فيها إلى درجة عالية من الصدق المشع مع الذات، كأنه في حالة تصفية حساب معها. أو أنه من خلال هذه الكتابة كان يمارس طقس تطهّر موجع؛ في محاولة يائسة لاستعادة طمأنينة مفقودة.
في يومياته يتحدث كافكا عن الأدب والحب والخوف والأمل والفشل والكوابيس.. نتعرف على أغوار نفسه القلقة وأفكاره التي تبدو وكأنها تدور في رأس إنسان يطل على الهاوية ويرى الهول. إن يومياته مثل أدبه السردي مطعّمة بالتهكم، بالسخرية المرّة من العالم وكائناته وأشيائه. كان يريد أن يتوارى، مع شعور مأساوي باللاجدوى، غير راغب بترك أي أثر وراءه. وقد بدا، تماماً مثلما هو في رواياته وقصصه، رؤيوياً يستشرف بغضب مكتوم صورة الكوارث الآتية.
في حين كانت يوميات أناييس نن ( 1903 ـ 1977 ) سبباً في شهرتها الواسعة.. تلك اليوميات التي أودعت في عدد كبير من الكراسات وصدرت منها مختارات في سبعة مجلدات. وقد شكّلت مادة ثرية تحكي عن جوانب من حياتها الشخصية المثيرة. وحيويتها المفرطة وقوة حضورها في باريس عاصمة الثقافة والفن خلال أغلب عقود القرن العشرين.
نقلت نن بأسلوب دافئ مشرق وشفاف في هذه اليوميات، رؤاها وحقيقة مشاعرها ووجهة نظرها في الأحداث المحيطة بها حيث مثّلت الصداقة قيمة عليا في حياتها. فطالما جذبت رقتها وعذوبتها وسخاء روحها الآخرين إلى دائرتها السحرية. ومارست دوراً أمومياً مع بعض منهم، لاسيما مع أولئك الذين يصغرونها بسنوات غير قليلة، فضلاً عن علاقاتها مع كبار كتّاب عصرها من أمثال هنري ميللر ولورنس داريل وأدموند ولسن.. كانت نن تكتب بحرية وفرح من غير تردد أو خوف، بصراحة جارحة، جاعلة حياتها مكشوفة تماماً خلل سطورها.
كذلك دأب جورج أورويل على كتابة اليوميات والمذكرات. وكتابه (متشرداً بين باريس ولندن) يحكي عن تفاصيل حياته البوهيمية الصعبة، بين المدينتين المتروبوليتين في الفترة ما بين الحربين العالميتين. أما في يومياته وهي تؤرخ في الغالب للمرحلة عينها فقد حاول تسجيل التفاصيل اليومية الاعتيادية من قبيل تقلبات الطقس ونمو الأشجار ومظاهر الطبيعة المتبدلة فضلاً عن همومه واهتماماته الصغيرة الخاصة.. نقرأ، في سبيل المثال، ما كتب يوم ( 16 آب 1938 )؛ " ثمرة الكستناء مكتملة لكنها لم تنضج بعد. آمل أن أراها بحجم البندق.. أمس ذهبت، مرة أخرى، إلى حديقة الحيوانات. كانت هناك أشبال صغيرة حجمها أكبر قليلا من حجم القطط، أجسامها مرقطة، أما تلك التي ولدت قبل سنة فقد صارت بحجم كلب برنارد...".