المرأة: الطريق إلى السماء ..

المرأة: الطريق إلى السماء ..

قراءة يونغية لديوان الشاعر فاضل السلطاني: ألوان السيدة المتغيرة
لؤي عبد الاله
مقدمة:على عكس دواوينه السابقة، يضع الشاعر العراقي فاضل السلطاني في ديوانه «ألوان السيدة المتغيرة»، الهم الخاص قبل الهم العام أو النبرة الشخصية قبل نبرة الجماعة ، فبدلا من أن يكون صوته (حال الشعراء ما قبل الإسلام) متماهيا مع صوت القبيلة (الحزب أو الشعب) ومعبرا عنها، نجده في هذا الديوان ينشغل بثيمات وجودية تتعلق بالمصير الفردي أكثر منها بمصير الجماعة.

مع ذلك فهو ينجح بكسب قراء اكثر لأنه استطاع أن يمس وعبر المجاز والبناء الدرامي للقصيدة والصور المكثفة والتناص مع شعراء آخرين مخزونا مشتركا يتمثل بتلك الصور أو المركبات البدئية القائمة في اللاشعور الجمعي.
يطرح مؤسس علم النفس التحليلي، كارل يونغ، مبدأ اللاشعور الجمعي باعتباره ذلك الجزء الموروث والمشترك بين الناس جميعا او هو العناصر الكامنة في لا شعور الفرد المستمدة من تجارب الأسلاف، فهو «مخزن الذكريات سواء من البشر أو من الحيوان... فمثلا طالما لجميع الناس امهات، فإن كل طفل يولد لديه استعداد لإدراك الام والاستجابة لها» (موسوعة علم النفس والتحليل النفسي الدكتور عبد المنعم الحفني ص146)
ولذلك يرى يونغ بأن اللاشعور الجمعي هو (الاساس العنصري الموروث للبناء الكلي للشخصية، وعليه يبنى الانا واللاشعور الشخصي وجميع المكتسبات الأخرى».(نفس المصدر والصفحة).
ولا ينشط هذا الجانب من النفس البشرية إلا عبر صور بدئية (او أنماط) مثل الأم والأب والقرينة لدى الرجل (انيما) والقرين لدى المرأة (أنيموس).
وفي «ألوان السيدة المتغيرة» يشكل مركب «القرينة» (كما يبدو لي) الاساس لأهم قصائد المجموعة .
يصف كارل يونغ القرينة كالتالي:
كل رجل يحمل في داخله صورة أزلية للمرأة، وهي ليست صورة لهذه المرأة أو تلك، بل هي صورة محددة للانثى. وهذه الصورة هي لا شعورية اساسا، وهي عنصر متوارث ذات أصل بدائي محفورة في النظام العضوي الحي للرجل، فهي بصمة أو صورة بدئية لكل التجارب السالفة للانثى، ترسبٌ ما، لكل الانطباعات التي تركتها المرأة... ولأن هذه الصورة لا شعورية ، فإن اسقاطها يتم لا شعوريا على شخص المحبوب وهي واحدة من الأسباب الرئيسة للانجذاب أو النفور العاطفي» (On Jung by Anthony Stevens, page 46)

اتحاد صورتين بدئيتين
في قصيدة «أمي» نجد هاتين الصورتين البدئيتين (أوالنمطين البدئيين) يتكاتفان لتقديم حبل النجاة تحت وطأة سطوة الموت القائمة في أعماق كل انسان، والتي سعت الديانات إلى انسنته، فهنا تستولي الأم (او صورة الأم) على القرينة مما يسمح لها أن تظهر ارضا وماضيا، ودرعا حاميا من الفناء لكنها في الوقت نفسه تدفع نحو الحياة، ومن خلال العلاقة الجدلية بين الجانبين استطاعت ان تستفز المتلقي فتجعله في قلب القصة، وانّ هذه القصيدة تعنيه:
انتِ هنا في غرفتي الصغيرة
النقطةُ الاقربُ في الكون إلى السماء
أسمع طولَ الليل، يا أمي،
صلاتك الأخيرة
والمس الجبين، وهو ينحني، إلى الإلهْ
أنت هنا، ايتها الميتةُ،
في غرفتي الصغيرة،
النقطة الأقرب في الكون ...
إلى الحياة.
في قصيدة «سهام» يرثي فاضل السلطاني اخته المتوفاة التي كانت خلال سنوات طفولته وشبابه المبكر رفيقة له حتى مغادرته العراق إلى المنفى في أواخر السبعينات من القرن الماضي. لكنها هنا تعود لتأخذ مكان صورة «الأم» البدئية، او بصيغة أدق أن تكون امتدادا لها. وهي تبدو قصيدة حب بكل معنى الكلمة، ومن خلالها يؤنسن الشاعر الموت ويسعى إلى التفاوض معه عبر التحاور معه، وعبر مكنونات اللاشعور الشخصي الذي حدد ما بين الليل والنهار، وما بين عودة الأرواح عند حلول الفجر إلى السماء، لكنه هنا يقلب رجاءه ليقدم صوتا كوراليا هشا ورقيقا كالرماد:
ساقول لموتك ما لا يقالُ.
سأقول لموتكِ يكفيك ليلٌ
لتفعل ما قد تشاء،
ثم ولِّ مع الصبح حتى تقول القتيلةُ
ثم تطير إلى البيت (كان بيتا كبيرا)
لتسقي النباتَ،
وترعى الحديقةَ
ثم تعودَ إلى النوم بين يديكْ.
انها قسمة عادلة
أيها الموتُ..
ليلكَ لكْ
ونهار قصير لنا سيكفي
لاكتمال الحياة

مع ذلك فإن القرينة تتخذ هيئة أخرى لمد حبل النجاة للشاعر(والمتلقي) في لحظات اليأس العميقة. إنها تحضر في الحلم على هيئة كائن انثوي آخر. إنها الانثى الحارسة في الأعماق : الإلهة عشتار: إنها تدعو للخروج من الداخل؛ الدعوة للدخول في مسار جديد؛ الدعوة إلى فتح آفاق جديدة، وهذه هي من أجمل قصائد الديوان بسبب تمحورها حول فكرة الدعوة لقبول اليد الداعية لمغامرة الإبحار ضد التيار:
هناك يد تدق على النافذة
لعله جاء أخيرا
متعبا من حِمل الصباح
وحمل المساء
يد تتنفسُ
تجمع راحتها
كأنها تمتص البيت
ثم تدقُّ
يد ترسم جسدا
يد تكتب شيئا
فوق النافذة
افتحي النافذة
هناك يد تدق

الحب من دون محبوب
هل هو اعتراف ضمني من قبل الشاعر عن رفض لا شعوري عميق بالسماح لامرأة محددة الملامح وحقيقية الاستيلاء على قرينته، حين قال في قصيدة «عابرة في شارع دمشقي»: شهوة الحب لا الحبّ». وهذه عبارة مقتطعة من أبو العباس العُريبي، استاذ (الشيخ الأكبر) محي الدين بن عربي في الاندلس ، حين كان يردد :»اللهم ارزقني شهوة الحب لا الحب».
فشهوة الحب لدى المتصوفة هو ذلك التوق الأزلي للتوحد بالله، وهذا عادة يتحقق عبر جملة مجاهدات منها الذكر والصلاة، والصوم عن الطعام والكلام والنوم، حتى تتحقق المعجزة حين يستطيع المتصوف تلمس الفعل الإلهي عبر المعجزة. ولعل الأمثلة الكثيرة عن الحلاج وابو زيد البسطامي بالقيام بأفعال خارقة هي بفضل هذا الحب الإلهي وتحقق الوحدة الصوفية أو كما يطلق عليها Union Mystique.
لذلك فإن المرأة بالنسبة لابن عربي هي منزلة من الحب نحو حب الله. وهي مصدر إلهام. اي بلغة يونغ هي صورة بدئية اخرى اطلق عليها تعبير «المرأة الملهمة». وقد استخدم التعبير الفرنسي لوصفها: La Femme Inspiratrice . انها المرأة التي تشكل جسرا للوصول إلى الله بالنسبة لابن عربي، وهي على الرغم من احتلالها قرينته فهي تظل خارج دائرة المعايشة. إنها بالنسبة له «النظام» ابنة استاذه في مكة ابي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجا الأصبهاني، والتي ذكرها في مقدمة ديوانه «ترجمان الأشواق»، واصفا اياها بأنها «ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قس بن ساعدة... شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حُقّة مختومة، واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها.. أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنمّت أعراف أزهار المعارف، بما تحمله من الرقائق واللطائف..»
وإذا قرئ «ترجمان الأشواق» قراءة مجردة فيسكتشف القارئ بين خطوطه ذلك الوجد المحرق الذي ظل متقدا بين ضلوعه للفتاة «النظام» . وهذا هو الحال نفسه كما يقول المستشرق الفرنسي هنري كوربان في دراسته عن ابن عربي «وحيد مع الواحد» والذي يقارن بين «النظام» وبين «بياتريس» الفتاة التي استولت على قرينة دانتي خلال سنوات مراهقته على الرغم من أن اللقاءات التي جمعتهما قليلة جدا، وعلى الرغم من أنها ماتت في عمر مبكر، لكنها ظلت المحرك الروحي والعاطفي وراء عمله الخالد «الكوميديا الإلهية». ولعل المثال الثالث هو ليونارد دافنشي وموديله «ليزا ديل جيوكوندو» فبعد اكمال جزء كبير منها عام 1506 اخذ اتللوحة معه إلى فرنسا ولم يسلمها لزوجها التاجر الذي كلفه بالرسم. وهناك ظل يعمل عليها عشر سنوات أخرى. هل وجد دافنشي في تلك اللوحة صورة قرينته المدفونة في أعماق لا شعوره؟ وكم تختلف الصورة التي خلفها لنا والتي أصبحت تعرف باسمين: «الموناليزا» و»الجيوكوندا» عن صورة زوجة التاجر الايطالي فرانسيسكو ديل جيوكوندو.
في قصائد الحب التي يشملها ديوان «ألوان السيدة المتغيرة» نجد أن المرأة حاضرة غائبة في آن في متن النص. إنها «كانت» هنا وهي «ما عادت» موجودة الآن. القصيدة محاولة استرجاع تلك اللحظة المخطوفة عبر طبقات الزمن. في قصيدة « صورة» وهي مثال عن قوة هذه المرأة الملهمة في الاستحواذ على القرينة لكن بعد أن تكون قد ابتعدت تماما عن الشاعر بسبب فاصلتي الزمان والمكان. إنها الصورة الفوتوغرافية التي تقع في اليد وراء هذا الاستحواذ اللحظي:
«كنت تجلسين وسط الصورة
لاهية عن الموسيقى،
عن لحظة ثبتتك إلى الأبد
صورة في إطار»
«غير أني وأنا في غرفتي المعتمة،
اراك أحيانا
تنسلين من الصورة
مثلما ينسل اللحن من العازف،
والنغمة من الموسيقى،
والخطوة من الراقص،
ثم تدخلين إلى الضوءِ..
كي تحترقي.»
مع ذلك يظل الفرق قائما بين ما يهدف إليه المتصوف وما يهدف إليه الشاعر السلطاني. لكن النتيجة في كلتا الحالتين هي القوة المطلقة. في قصيدة «سيدتي الجميلة»، ومثلما هو الحال مع المتصوف الذي يظل يمارس طقوسه لكي يصل إلى انتقال القدرة الإلهية إلى يديه فيصبح أداة لها للفعل وهو في موضع المراقب، نجد الحال مماثلا مع اختلاف في المنطلق والإطار: الشاعر يستحوذ على محبوبته. إنها بيده تتحرك وفق سلطة مطلقة:
ليّنة أنتِ بين يديَّ
كالطينة الأولى
أعلّم أصابعك التشكيل
أعلّم ساعديك القوة
أعلّم عنقكِ الاستدارة
أعلّم طولكِ الانحناء
ليعبرَ تحت يديّ
في هذه القصيدة يختفي القلق والشك والموت والحيرة ليحل محلها شعور بالتوحد الكامل مع امرأة تقترب إلى الحلم أكثر من الواقع، فكل صفاتها أثيرية وهي طوع بنان الشاعر. إنه أخيرا يحقق هذا التطابق المستحيل: قرينته تسقط صورة على المحبوب والمحبوب يسقط صورة على الشاعر فيتطابق الاثنان معا.
القرينة راضية إلى حين. لكن الطريق إلى السماء لا ينتهي بمحطة واحدة.
لقد انتهت «النظام» بمأوى مخصص للنساء العابدات اللواتي لا يرغبن بالزواج في إحد أحياء بغداد في القرن الثاني عشر ثم ماتت بصمت هناك، وفي زيارته الوحيدة إلى بغداد استحضر ابن عربي «النظام» دون أن يذكرها، كأنه يكتب باستخدام أسلوب النسيب الجاهلي ما أرادت قصيدة السلطاني أن تقوله في «صورة»:
أحَبُّ بلاد اللهِ بعد طيبةٍ
ومكةَ والأقصى مدينة بغدانِ
فقد سكنتها من بُنيَّات فارسٍ
لطيفة إيماءٍ مريضةُ أجفانِ
تُحيّي فتُحْيي من أماتت بلحظها
فجاءت بحسنى بعد حسن وإحسانِ
يضع كارل يونغ بعض الصفات لنمط «المرأة الملهمة» البدئي، فهي تجمع الغموض والالتباس والمراوغة المعقدة والتشوش والقدرة على الأسر. إنها كما يقول يونغ «مملوءة بالوعود مثل صمت موناليزا المتكلم «. « (On Jung by Anthony Stevens, page 161 )
ولعل هذه الأوصاف تنطبق على بطلة هذه القصيدة من ديوان السلطاني والتي تحمل عنوان «شكرا لكِ»:

«شكرا لك
للعشاء الأخير في 2005
لمساء آخرَ قبل الموت،
لشحنة الشمس في كفيكِ،
للضوء سربته أصابعكْ»
«شكراً لذاكرة الحمامِ
وهي تستعيدكِ،
تمزج ضوءك بظلكِ،
تفرش كلَّكِ فوق كفّي
في المساء الأخير قبل الموتْ
فأرى الذي ما كنتُ..
قد رأيت.»