قراءة في كتاب  «خمسون عاماً من الشعر البريطاني»

قراءة في كتاب «خمسون عاماً من الشعر البريطاني»

نوال العلي
في مقالته الشهيرة المعنونة «تأملات في قصيدة النثر»، يرى تي. إس. إليوت أنّ قصيدة التفعيلة توفّر لشاعرها أدوات ترفع سويّته الشعريّة كالغنائية والإيقاع. أما صاحب قصيدة النثر، فتُشبه حاله محارباً بلا أسلحة: إما أن يكون شاعراً عظيماً وإما لا. هذا هو رأي إليوت وهو تقريباً آخر المشاهير البريطانيّين الكبار والقلّة الذين قُيض لهم أن يُتَرجموا وينقلوا إلى لغات أخرى ويؤثروا في أدبائها.

يبدو أنّ الشعراء العظام في بلاد شكسبير قد جفت أدواتهم نثراً وتفعيلة. ليس مستغرباً أن تقف صرامة التقاليد الثقافية البريطانية وقسوة النقد، حائلاً أمام نشوء حركات تجديدية جنونية كتلك التي حدثت في الأوساط الأدبية الفرنسية. أو على الأقل هذا ما يخرج به المرء لدى قراءة كتاب المختارات الشعرية «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» («دار المدى»)، من إعداد فاضل السلطاني وتعريبه.
عنوان الكتاب يقترح النظر إلى الشعر من زاوية الحقبة التي حددها المترجم، أي بين 1950 حتى بداية الألفيّة الثانية. كأنّه يدعونا إلى وقفة مسحيّة لمن فاته أن يقرأ هذا الشعر مترجماً. ولنقل إنّ العرب لم يهملوا التجربة الشعرية البريطانية، لكنهم اكترثوا أكثر بالحالة الفرنسية. وقد أسهم في ذلك بروز المجلات الثقافية مثل «شعر» التي رفدت هذا التوجه وثابرت في تعريف المثقّف المشرقي بالحركات التجديدية في الشعر الفرنسي.
إضافة إلى ما تتيحه المختارات من الاطلاع على نتاج شعراء ما زال بعضهم حياً، وتلمّس سمات التجارب الحديثة، وبعض الظواهر المثيرة للانتباه كغياب «الشعر الأسود» مثلاً، أو تتبع المراحل التاريخية التي مرت بها التجربة الشعريّة البريطانية... إلا أنّ ما يلفت حقاً هو علاقة الشعر البريطاني بما حدث للقصيدة العربية في منتصف القرن الماضي، من انقسامها إلى مشهدين لم يحفل كثير من النقاد بقراءتهما. وها هو السلطاني يلفت في مقدمته إليهما: المشهد العراقي الذي قاده بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة متأثرين بما اطلعا عليه من التجارب الإنكليزية، والمشهد اللبناني المنشغل بالتجربة الفرنسية. أمّا الأوّل فشاطر الشعر الإنكليزي شيئاً من سماته، كالنزعة الواقعية، والغنائية، والالتزام بالإيقاع. وهي عوامل أثّرت في تأخّر قصيدة النثر العراقية عن نظيرتها في بلاد الشام. إذ جنحت القصيدة إلى الرمزية والسريالية وتحطيم البنية الموسيقية بكاملها.
ومن ناحية أخرى، ترك السلطاني الشاعر العراقي المقيم في لندن العنان لذائقته لتكون حكماً في انتقاء هذه المختارات، ولم يمنعه هذا من الحرص على تعدد مشارب القصائد. هكذا، ضمّ الكتاب أشعاراً لـ56 شاعراً وشاعرة من أجيال مختلفة من إنكلترا وويلز واسكوتلندا وأيرلندة الشمالية. ولم يتردد في الإقرار بغياب بعض الشعراء المهمين نظراً إلى عجزه عن نقل شعريتهم إلى العربية.
وغالباً ما قدّم السلطاني ترجمة معقولة لأشعار صعبة، مثل قصيدة تشارلز كوسلي «عشرة نماذج من زائري المستشفى». تقسم إلى عشرة مقاطع، في كل واحد منها، يتأمل الشاعر المريض أحد زائريه. لننظر إلى هذا المقطع: «الزائر الثامن يبدو أكثر خوراً/ وجهه كالح جداً/ هناك نفحة من زهور بيضاء تطوف حوله/ ومنظر رثّ لكفن استخدم قليلاً/ المريض الذي تشجع بلا حدود/ يشكره بحماسة/ ليس على البرتقال/ والبسكويت والكعك/ ولكن على رؤية شخص يبدو بوضوح أنّه أكثر مرضاً منه».
وفي الواقع، إنّ صدور مختارات من الشعر البريطاني مسألة نادرة حتى باللغة الإنكليزية. إذ لم يظهر مَن يهتم بإبراز التجربة الشعرية البريطانية الحديثة منذ صدور «شعر منتصف القرن» عن «دار بينغوين» أو «الشعر الإنكليزي» لمحرّره سي داي لويس. وهي مختارات انتهت حداثتها عند الستينيات. والأمر نفسه يؤكده الناقد البريطاني أندرو دانكن في كتابه The Failure of Conservatism in Modern British Poetry. إذ استعرض مسيرة القصيدة الإنكليزية في خمسين عاماً خلت، وكشف أنّه رغم أنّ الآلة الثقافية المحافظة التي تعمل فيها غالبية الرموز الثقافية البريطانية، هي أشبه بالحطام... إلا أنّ شيئاً جديداً لم يضف إلى هذا الحطام الذي يدير الثقافة ويريد من الشاعر البريطاني أن يكون مجرّد قيّم عليه. ألا يذكِّرنا هذا بحال الشعر في مكان آخر من العالم، مكان قريب جداً؟