محمد عبد الوهاب يغني في بغداد

محمد عبد الوهاب يغني في بغداد

رفعة عبد الرزاق
لم يزر الفنان الكبير محمد عبدالوهاب 1904 -- 1991 العراق، سوى مرة واحدة في ربيع عام 1932، بمناسبة اقامة المعرض الزراعي والصناعي، وقد تضمنت تلك الزيارة الفريدة – على قصرها – العديد من الطرائف.
وقد اقامت الجمعية الزراعية الملكية برعاية مباشرة من الملك فيصل الاول هذا المعرض لبيان النهضة الزراعية والصناعية والعلمية التي يشهدها العراق وعهد برئاسة المعرض الى عبدالنور،

وهو من اعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث لم يشر الى جهوده الا لماما،
ولعل ما يزين سيرته اقامته مهرجان سوق عكاظ سنة 1922، وكان مناسبة وطنية وادبية كبيرة في بداية تأسيس الدولة العراقية.


وقد ساهم في اقامة المعرض الزراعي الصناعي ممثلو الوزارات جميعا، واختيرت بناية الجمعية الزراعية الملكية والاراضي المجاورة لها في منطقة الباب المعظم محلا للمعرض الذي افتتحه الملك فيصل الاول في الاول من نيسان 1932..
وسميت الارض التي اقيم عليها المعرض (حديقة المعرض) اذ بقيت بعد انتهاء المعرض حديقة غناء تزورها العوائل البغدادية وتقام عليها مختلف الفعاليات الفنية والادبية والاجتماعية وقد اقيمت عليها فيما بعد ابنية حكومية عديدة، وهي اليوم تضم دوائر بناية وزارة الخارجية سابقا ثم مديرية اسالة الماء وشغلتها فيما بعد بعض الدوائر العسكرية لقربها من وزارة الدفاع كما تضم ارض المعرض مكتبة الاوقاف العامة ودائرة صحة الرصافة ووزارة الاوقاف سابقا وجمعية الهلال الاحمر وجمعية حماية الاطفال، وعلى ركنها البعيد انشأت المدرسة الغربية المتوسطة.
وفي هذا المعرض اقيم مسرح لكي يقدم عليه الموسيقار محمد عبدالوهاب حفلاته الغنائية، فقد دعي هذا الفنان، وهو في مقتبل حياته الفنية الحافلة الى زيارة بغداد للمشاركة في المعرض الزراعي الصناعي باحياء حفلات غنائية في امسيات الشهر الذي اقيم فيه المعرض.
وفي الحفلة الاولى التي اقيمت في اليوم الاول من ايام المعرض، انشد محمد عبدالوهاب قصيدة (ياشراعا) التي نظمها الشاعر الكبير احمد شوقي بهذه المناسبة وطلب من عبدالوهاب غناءها امام الملك في بغداد، وفي الايام التالية اعادها الفنان مع اغانيه الشهيرة آنذاك مثل (ياجارة الوادي) و(الهوى والشباب) و(انا انطونيو) و(ظبية الوادي) وبعض ادواره الغنائية، ويبدو ان الاقبال على حفلات عبدالوهاب كان ضعيفا كما ذكر معاصريها، فالفنان لم يشتهر امره بعد في الاوساط العراقية، كما ان اسعار التذاكر كانت باهظة (من 5 روبيات الى 10 روبيات) في الوقت الذي كانت ذيول الازمة الاقتصادية العالمية تنوء بكلكلها على الوضع الاقتصادي في العراق، ولانعدم القول هنا ان حملة (شعبية) اثيرت ضد عبدالوهاب والفن المصري بشكل عام، قادها الشاعر الشعبي الكبير الملا عبود الكرخي، اذ كان يعتقد ان ذلك ما يضيف الى النزعة الوطنية.
غير ان الامر اختلف بعد سنوات قليلة، فقد اشتهر اسم محمد عبدالوهاب ومال الناس الى غنائه الشائق، بعد ان عرض في بغداد اول فيلم له وهو(الوردة البيضاء) ويذكر الاستاذ محمد علي كريم- المذيع العراقي الرائد- ان سينما الرافدين عرضت الفلم الثاني لعبد الوهاب وهو (دموع الحب) عام 1936، وقد توافدت الى دار السينما اعداد كبيرة، وكان مدخل السينما ضيقا بعض الشيء فتكسرت جميع الواجهات الزجاجية التي تعرض فيها صور الفلم، فاضطرت ادارة السينما الى فتح جميع ابوابها لدخول الجمهور ولاول مرة امتد عرض فلم (دموع الحب) لاسابيع عديدة.
واذا كان الموضوع يتناول طرائف وصور منسية من زيارة عبدالوهاب لبغداد سنة 1932، فقد اطلعنا في وثائق البلاط الملكي المحفوظة في مركز الوثائق في المكتبة الوطنية ببغداد على رسالة موجهة الى الملك فيصل الاول من الموسيقار محمد عبدالوهاب بعد شهرين من زيارته لبغداد، وتاريخها 26 حزيران 1932 يلتمس فيها تعيين احد اقربائه ويدعى فهمي خالد علي، خريج مدرسة الشرطة في مصر في احد الوظائف الحكومية في العراق، وعندما استفسر الملك فيصل من رئاسة الديوان الملكي عن وجود وظيفة شاغرة لتعيينه اخبر بعدم وجودها في الوقت الحاضر، مما دعا رشيد عال الكيلاني رئيس الديوان الى ارسال رسالة الى محمد عبدالوهاب في 18تموز 1932 اخبره فيها باطلاع الملك على رسالته وانه لاتوجد وظيفة شاغرة حاليا (ملفات البلاط الملكي، الملفة 131، الوثيقة 19 سنة 1932)..
روى محمد عبدالوهاب احداث زيارته للعراق في مجلة (الكواكب) المصرية التي صدرت في عام 1947، وتحدث عن حادثتين اثرتا فيه كثيرا، الاولى عندما دعي للغناء في القصر الملكي بحضور الملك فيصل الاول وولي عهده الامير غازي وعدد من الوزراء وكبار موظفي الدولة، وقد انشد في هذه الحفلة قصيدة (ياشراع وراء دجلة يجري) وعندما مثل بين يدي الملك بعد الغناء سمع من جلالته كلمات الاطراء والثناء مما كان مدعاة فخر واعتزاز له.
اما الحادثة الثانية فهي كما يرويها عبدالوهاب انه خلال عودته من العراق في طريقه الى سوريا اصاب عطل سيارته التي كان يستقلها بصحبة احد افراد فرقته الموسيقية فاضطر للتوقف في الصحراء العراقية ريثما يتم اصلاح الخلل، بينما واصلت بقية السيارات سيرها الى دمشق.
وقد استغرق اصلاح الخلل بعض الوقت فترجل عبدالوهاب وزميله من السيارة وسارا في الصحراء على غير هدى، حتى فاجأهما في جوف الصحراء اعرابيات يتمنطقان بالاسلحة النارية، ولما اقتربا منهما صاحا بهم ، من انتما؟ رأى عبدالوهاب ان يكتم اسمه عنهما خوفا ان يعتقد الاعرابيان انهما يحملان ثروة، ولكن زميل عبدالوهاب لم يأبه بذلك وقال لهما: ان هذا الشخص هو المطرب المصري المشهور محمد عبدالوهاب، وسرعان ماتغيرت ملامح الاعرابيان واتسمت على ثغرها ابتسامة الاعجاب وقالا: انت عبدالوهاب الذي يغني على ليلى ؟ لقد سمعناك في الحضر كثيرا وانت تغني في الفونوغراف ثم اكرم الاعرابيان وفادة الرجلين، وهيأ لهما الطعام ثم غنى لهما عبدالوهاب بعض اغانيه الرائعة من باب الاعتراف بالجميل .