أدب الرسائل بين مؤرخ العراق الحسني واعلام عصره

أدب الرسائل بين مؤرخ العراق الحسني واعلام عصره

رفعة عبد الرزاق محمد
لا يختلف اثنان على ان لاستاذنا الكبير الراحل عبد الرزاق الحسني فضلا كبيرا على الدراسات التي تناولت تاريخنا الحديث ، فهو بحق شيخ المؤرخين العراقيين . ولا غرابة ان يعد مرجعا رئيسا لكل باحث في تاريخ العراق في العهد الملكي ، وان تصبح مؤلفاته الوثائقية من نوادر الكتب، على الرغم من الطبعات العديدة لها . ومهما قيل عن طريقة الحسني في كتابة التاريخ واعتباره وثائقيا وليس مؤرخا ، فان ما كتبه سيبقى مصدرا كبيرا ،

وذلك لان كتبه قد عرضت على اللذين كانوا في مركز الاحداث فاضافوا اليها فوائد كبيرة ، وحسبه انه كان ملاذ طلبة الدراسات العليا الذين حصلوا على ارفع الدرجات العلمية في التاريخ الحديث ، بعد ان استعانوا بما لديه من وثائق كثيرة ورسائل هائلة ، فضلا عما يتذكره من لقاءاته بالذين صنعوا تلك الاحداث في العهد الملكي وعرفوا اسرارها ..

من المزايا الحميدة التي تحلى بها المؤرخ العراقي الكبير عبد الرزاق الحسني في مؤلفاته الكثيرة عن تاريخ العراق الحديث وبلدانياته وملله ،فكانت علامة بارزة في تلك المؤلفات اضافت الى صدقها ورصانتها التوثيقية الشيء الكثير .. اعني هنا الرسائل التي تبادلها الحسني مع اعلام عصره من عراقيين وغيرهم وتقدم بتوجيه ائلة مختلفة عن الموضوعات التي نهد الى الكتابة عنها واستجلاء اسرارها والخوض في مجاهلها .
ولم يفت الحسني وهو يلاقي كبار الشخصيات السياسية والاجتماعية والعلمية من اثارة القضايا التاريخية موضع اختلاف الرأي والرواية امامهم ثم استكتابهم في اسئلة محددة اضافت فوائد جليلة ومعلومات زاخرة جديرة بالتحقيق والتدبر . ومن الجميل ان ينشر الحسني تلك الرسائل والاجابات ويلحقها بكتبه خدمة للباحثين من بعده .
الاستاذ سليم الحسني نجل مؤرخنا الراحل تنبه الى هذه النصوص الوثائقية المتفرقة في كتب الحسني العديدة ، والى اهميتها البحثية النادرة ، فنهد الى جمعها وتبويبها وفقا لموضوعاتها في كتاب حفل بما يستدرك من حياة الحسني وجهوده التاريخية الفائقة . لقد اعتاد الحسني ان يراجع كتبه نخبة من المعنيين واغلبهم من شارك في الاحداث او عرف باسرارها او له معرفة بتفاصيل الكثير من المواقع والشخصيات ممن لهم الدراية والمعرفة والنواهة .. ومن ذلك عندما كتب كتابه المهم ( الثورة العراقية الكبرى ) ، يقول :
وقد طلبت من زميلي القديم الاستاذ جعفر الخليلي ان يمعن النظر في فصول الكتاب قبل ايداعه الى الطبعة الثانية وان يوافيني بما يتراءى له من ملاحظات وتصويبات فكان ما تفضل به شيء لا يستهان بقيمته ، ولا غرو في ذلك فالمرء صغير بنفسه كبير باخوانه ، وقد اخذت ببعض هذه الملاحظات في هذه الطبعة من الكتاب وتركت البعض الاخر الى كتبي الاخرى لعلاقتها بهذه الملاحظات اكثر من علاقة هذا الكمتاب بها .
اقول : لقد احسن الاستاذ سليم الحسني باصداره هذا الكتاب الفخم بطبعة جميلة نهدت به مكتبة النهضة العربية في بغداد ( 2019م) فاضاف الى تراث السيد الحسني فضائل جديرة بالتنويه والتحقيق .
ومن المؤسف ان نعلم ان للحسني رسائل مع شخصيات كثيرة من سياسيين وعلماء ومستشرقين ورؤساء عشائر وزعامات مختلفة تبادل فيها الراي والمعلومات التاريخية وكان الحسني محتفظا بها في ملفات كثيرة ، ولما اهدى مكتبته الى الحكومة العراقية التي نقلتها الى المكتبة الوطنية حفظت تلك الملفات في جناح خاص في تلك المكتبة .. وعندما زار الاستاذ سليم الحسني الى دار الكتب والوثائق حيث المكتبة الوطنية للاطلاع على بعض تلك الرسائل لم يجدها وعاد بخفي حنين !!
ولما كان حديث هذه الكلمة عن رسائل الاستاذ الحسني ، فمن الطريف النادر ان نذكر هنا ان للحسني رسائل كثيرة يحتفظ بها الكثيرون ممن تبادل معهم ادب الرسائل ، ومن هؤلاء العلامة الاب انستاس ماري الكرملي ـ فقد اطلعت في ثمانينيات القرن الماضي في مركز المخطوطات التابع لدائرة الاثار العامة عل طائفة من رسائل الادباء والعلماء الى الاب الكرملي ونشرت شطرا منها .. ومن ذلك بعض رسائل السيد الحسني الى الكرملي في (مجلة ( الحضارة) في عددها الثاني في كانون الاول 1978 بعنوان : رسائل نادرة لشيخ المؤرخين عبد الرزاق الحسني ) . ومنها رسائل كان قد ارسلها من معتقله في جنوب العراق يتحدث فيه عن حياته ومعاناتها في المعتقل ، وساكتفي هنا بنشر رسالته في العاشر من كانون الاول 1941 التي قال فيها :
سيدي العلامة الاب انستاس ماري الكرملي المحترم
محبة واحترام
وبعد ، كان الاستاذ مير بصري كتب الي في 25 تشرين الاول يطلب موافاته بكلمتي او مقالي عن الديون العثمانية وحظ العراق منها لينشرها في مجلة غرفة تجارة بغداد وقد لبيت هذا الطلب ، فارسلت اليه في 27 من الشهر المذكور المقال موضوع البحث وشاءت مصلحة الحكومة ان تعتقلني في اليوم المذكور وترسلني الى معتقل الفاو مع من ابعد اليه من الرعيل الاول ، وقد طالعت اليوم فهرست الجزء العاشر من هذه المجلة فلم اجد ذكرا لمقالي فيه واخشى ان يكون الاستاذ قد خشي نشر مقال علمي لكاتب معتقل فاهمله ، فاذا كان الامر كذلك فارجو تفظلكم باسترجاع المقال وحفظه لديكم لاني لا املك نسخة ثانية له والتكرم باعلامي عن ذلك ، فيما اذا كنتم لا تجدون مانعا من الرد على هذا الخطاب .
يتألف معتقل الفاو من 36 دارا عصرية تحيط بها الاسلاك الشائكة وتنيرها الكهرباء ، وفي كل بيت اربع غرف مع حمام ومطبخ ومرحاض وساحة صغيرة ( 4في 4 ) ويقطن في المعتقل 150 معتقلا بينهم الطبيب والحاكم والمدير والمدرس والصحفي والاديب وغيرهم والحكومة تنفق على كل معتقل 119 فلسا عدا الصابون والحاجيات الضرورية الاخرى كالفحم مثلا ، وصحتنا جميعا على احسن مايرام ، فاذا اراد احد المعارف او الاخوان ممن يحضر المجلس العلمي الانور معرفة احوالنا او السؤال عنا فلا بأس من تزويده بهذه المعلومات والبريد الينا على غاية من الانتظام ، ودمتم .
السيد عبد الرزاق الحسني