ذكريات مسرحية: بين  الفرقة الشعبية للتمثيل  وجماعة  جبر الخواطر

ذكريات مسرحية: بين الفرقة الشعبية للتمثيل وجماعة جبر الخواطر

لطيف حسن
تجمع خريجو الدورة الاولى في معهد الفنون الجميلة في فرقة واحدة عام 1948 حول جعفر السعدي، على خلاف طموح ورغبة حقي الشبلي في ان يجمعهم في فرقة قومية كبيرة كان يحلم بتأسيسها آنذاك من طلابه وتحت وصايته الابوية، وأسسوا بشكل منفصل (الفرقة الشعبية للتمثيل) وهذه هي في رأيي اول صوت معارض يرفعه المسرحيون ضد اوضاع وشكل المسرح السائدة آنذاك، واول مقاومة يبدوها ضد التدجين في نوع من المسرح تريده الحكومة.

ومن الاسم (الشعبية) حددوا توجه فن الفرقة نحو الافق الواسع للناس بشكل عام بدلا من فن يتوجه للنخبة، وبدأوا العمل.. وقدموا اول اعمالها مسرحية (الفلوس) 1949مترجمة عن التركية اخراج جعفر السعدي، وابتداء من هذه المسرحية، بدأت ملامح المسرح العراقي القادم تتشكل، فقد خلقت علاقة جديدة بالجمهور، تميز بها المسرح العراقي عن باقي المسارح العربية، هي تلك العلاقة الاندماجية بين الفنان والجمهور المسيس الذي كان.فقد كان طلاب معهد الفنون الجميلة، حالهم حال المثقفين والمواطنين عموما، منخرطين بقوة في النضال السياسي والاجتماعي، كانوا عنصرا هاما مشتركا في الحركتين بحيث يصعب على المرء ان يفصل بين من هو سياسي وبين من هو فنان مسرحي.لقد كان النضال من اجل الاستقلال والتحرر الوطني والديمقراطية في هذه الفترة، له بعده الفكري الملهم على المسرح العراقي، واستطاع ان يؤثر على توجهات تطوره اللاحق بشكل متزايد.
لقد افرزت معمعة نضال الشارع في الاربعينات (الثنائي شهاب القصب ويوسف العاني) اللذين تعاونا في كتابة المسرحيات بشكل مشترك، او بشكل منفرد، وشكلا اهم جماعة مسرحية مع نخبة من الفنانين وطلبة الجامعات، اصبحت فيما بعد نواة لاحد اهم الفرق المسرحية المعاصرة (فرقة المسرح الحديث 1952-1957) وهي (جماعة جبر الخواطر) التي دأبت على تقديم اعمالها على المسرح المدرسي والجامعي، الذي انتعش بشكل ملفت للنظرانذاك واتسع نطاق جمهوره، حتى تحول المسرح المدرسي الى كوة عامة تطل منها كل الفرق والمجموعات المسرحية العاملة آنذاك.
من الناحية العملية لم تستطع (الفرقة الشعبية للتمثيل) ان تواصل الحفاظ على لحمة هذا التجمع الكبير من القدرات والكفاءات المهمة بين احضانها الى النهاية، وأن تنجح في تلبية كل الطموحات المتنوعة لاعضائها في المسرح، فتشظت منها فرق عديدة مهمة بعد تقديم عمل او عملين.
لكن نواتها جعفر السعدي ولفيف من زملائه، من بينهم يعقوب القرة غولي وسالم عبدالقادر وبدري حسون فريد (الذي اسس ايضا فيما بعد فرقة شباب الطليعه) وآخرين، واصلوا العمل، ولكن بشكل متقطع، بسبب انشغال معظم اعضاء الفرق آنذاك عن المسرح بالسينما التي بدأت صناعتها بعد بناء (ستوديو بغداد 1943) على شكل فورة سرعان ما انطفأت بعد انتاج عدد محدود من الافلام يذكرها التاريخ كأفلام ريادية ومتحفية وحيدة هما فلمان بالاشتراك مع مصر (قاهرة وبغداد) و(ليلى في العراق) والفيلم العراقي الاول (عليا وعصام) واخر افلام الاستوديو قبل ان يغلق ابوابه، وهو ايضا يعتبراول فلم روائي ملون عراقي (نبوخذ نصر).
عند تأسيس (الفرقة الشعبية للتمثيل) كان يوجد على الساحة يحيى فائق يقود (فرقة انصار التمثيل) منذ نهاية الثلاثينات التي كانت تضم فوزي محسن الامين ويعقوب الامين وآخرين، وقدمت آنذاك احد اعمالها الجريئة (ثورة بيدبا) 1949 لرئيف خوري التي تعتبر من العلامات الهامة في المسرح العراقي وبعدها قدمت (القبلة القاتلة) والمسرحيتان من اخراج يحيى فائق. (علما بان المسرحيات هذه كان يعاد تقديمها في كل الفرق العاملة والمجاميع الطلابية لشحة النصوص، كمسرحية (في سبيل التاج) و(القبلة القاتله) و(ثورة بيدبا) و(فتح الاندلس)..الخ، على سبيل المثال).
في هذا الوقت ايضا شكل خمسة من الطلبة الاريحية واصحاب نكتة في معهد الفنون الجميلة، فرقة صغيرة تميزت بتقديم المسرحيات الشعبية المسلية هي (فرقة الزبانية) وهم حميد المحل وفخري الزبيدي وحامد الاطرقجي وناجي الراوي وناظم الغزالي. من الفعاليات التي قامت بها هذه الفرقة في تلك الفترة، زيارة الجبهة العسكرية التي فتحت في فلسطين، وقدمت هناك عروضا ترفيهية للجنود العراقيين المرابضين هناك.
اعود ثانية الى تشكيلة (جماعة جبر الخواطر) وأمتدادها (فرقة المسرح الحديث) لما للفرقة من أهمية في تاريخ المسرح العراقي المعاصر، ودور واضح ومؤثر في الحركة المسرحية اللاحقة. فكما هي (الفرقة الشعبية للتمثيل) تعتبر الحاضنة الاولى للفن المسرحي الرصين التي ولدت منها بهذا الشكل او ذاك معظم الفرق المسرحية اللاحقة، كانت (فرقة المسرح الحديث) وامتدادها (فرقة المسرح الفني الحديث) فيما بعد حاضنة لمختلف المدارس المسرحية، وفسحت المجال امام كل المخرجين القادمين بأفكار جديدة من الخارج لتحقيق افكارهم، من بين ابرز الاسماء التي عملت فيها من خارج الفرقة فور انهاء دراستها في الخارج جاسم العبودي وبهنام ميخائيل وبدري حسون فريد، اضافة الى تحقيق تجارب هامة لقاسم محمد في تقديم التراث، واعمال سامي عبالحميد الملحمية، وافكار ابراهيم جلال المحلقة، وفسح المجال لمن يرغب من الشباب للتجريب.
فقدت (جماعة جبر الخواطر) التي كانت تعمل في مجال المسرح المدرسي والجامعي، احد نشطائها شهاب القصب الذي اختطفه الموت بشكل مبكر عام 1949، الا ان يوسف العاني والآخرين واصل مسيرة الجماعة التي كان من ابرز اعضائها، يعقوب الامين ومجيد العزاوي وسعدي محمد صالح وسامي عبدالحميد وعبدالرحمن بهجت، ونظيمة وهبي وعبدالحميد قاسم ومحمد القيسي وعبدالواحد طه وطلبة اخرين من كلية الحقوق والصيدلة والطب والتجارة، وتعاون معهم استاذهم في المعهد ابراهيم جلال، واحيانا خليل شوقي. بدأت هذه الجماعة تدرس فكرة ان تتحول الى فرقة مسرحية متميزة ومختلفة عن ما موجود من الفرق العاملة لتواصل عمل (جبر الخواطر)، بعد ان تخرجوا من كلياتهم ومعاهدهم، وحصل بعضهم على وظيفة وماعادوا طلابا ليستطيعوا الاستمرار في العمل بالمسرح المدرسي كجماعة بالسهولة التي كانت، أسسوا الفرقة عام 1952، برئاسة ابراهيم جلال، ويوسف العاني سكرتيرا لها. استغل ابراهيم جلال علاقاته الشخصيه ونفوذ عائلته في السلطة لتمرير اجازة الفرقة امنيا، واصبح بيته كله تقريبا مقرا للفرقة، فالفرق المسرحية آنذاك تنشأ وتعمل بأمكانياتها الذاتية المحدودة جدا، بدون عون أواعانة من الدولة.