الشراكة بين السلطة.. والمثقف .. ملامح الحداثة  في الثقافة العراقيةمنذ الأربعينات

الشراكة بين السلطة.. والمثقف .. ملامح الحداثة في الثقافة العراقيةمنذ الأربعينات

عدنان حسين أحمد
كتاب «تمثّلات الحداثة في ثقافة العراق» للناقدة فاطمة المحسن وهو استكمال لموضوع بحثها السابق «تمثلات النهضة في العراق الحديث» ورؤيتها لمفهوم الحداثة العالمية الذي نشأ بفضل جيل من المثقفين العراقيين الذين اتصلوا مباشرة باللغات الغربية، ونهلوا من آدابها وعلومها مباشرة، كما تركز الناقدة على مصطلحات الطليعية والمثقف الثوري ودورهما في الحداثة العراقية

من دون أن تهمل المثقف الأكاديمي وأهمية الأبحاث التي كتبها في ميادين مختلفة وعلى رأسها التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.

يتألف الكتاب من خمسة فصول رئيسية أولها «ثقافة المؤسسة وتمردات الحداثة» الذي تركِّز فيه على مرحلة الأربعينات من القرن الماضي وتعتبرها مرحلة حاسمة في تاريخ العراق لأسباب متعددة أبرزها عودة الدارسين من الجامعات الغربية بعد حصولهم على الشهادات العليا، واستقطاب عدد من الفنانين البولونيين الهاربين من جعجعة الحرب العالمية الثانية أمثال ماوتشيك، جابسكي، زيكمونت وياريما إضافة إلى عدد من الكُتّاب والآثاريين والمستشرقين أبرزهم كنث وود، دزموند ستيوارت، أغاثا كريستي وزوجها ماكس مالون، وظهور حركة الشعر الحر بين التجمعات الطلابية في كلية الآداب والتربية بسبب دراساتهم للأنماط العالمية للكتابة الشعرية، ونزوح الأدباء من الموصل والبصرة وبقية المحافظات العراقية إلى بغداد ورفد صحفها ومجلاتها بالكثير من النتاجات الأدبية والمقالات والدراسات الرصينة، وتفاعل المرأة مع الرجل في المعاهد والجامعات العراقية الحديثة، ودخول النساء إلى تجمعات المثقفين العراقيين أمثال الرسامة مديحة تحسين عمر، نزيهة سليم، عالية القرغولي وروز ماري خيّاط. وتنظيم المركز الثقافي البريطاني ببغداد لعدد من معارض الفن التشكيلي لعطا صبري، حافظ الدروبي، أكرم شكري وجواد سليم مُجترحًا بذلك مظهرًا جديدًا من مظاهر الحداثة في المشهد الثقافي العراقي. وفي السياق ذاته حاول الرسامون والأدباء تجاوز القيم الأخلاقية السائدة فرسموا أماكن اللهو ومنازل اللذات العابرة فيما تناول الشعراء ثيمات جريئة كانت محجوبة أو مسكوت عنها في الأقل.
تختم فاطمة المحسن هذا الفصل بالإشارة إلى العنف الذي استشرى في العراق وأفضى إلى مغادرة غالبية ممثلي الجيل الخمسيني إلى خارج العراق مثل فرمان والتكرلي والبياتي وبلند الحيدري وعلي الشوك، بينما صمت في الغربة بعض المثقفين أمثال عدنان رؤوف وأنيس زكي حسن ونهاد التكرلي.
الطليعة الثقافية
تشير فاطمة المحسن إلى أن أحزاب اليسار تستعمل كلمة «طليعة» باعتبارها مُعبِّرة عن هموم الشعب وناطقة باسمه. ومع أن الجواهري كان متصدرًا المشهد الثقافي آنذاك إلا أن أدوات تعبيره ظلت كلاسيكية، وأن طليعيته كانت تستمد الكثير من لغة الماضي، بل إن صوته كان صوت الجماعة القديمة.
ثمة شراكة بين السلطة والمثقف كما ترى المحسن، فلقد سعى ذو النون أيوب والجواهري إلى الحصول على عضوية مجلس النواب استنادا إلى مكانتهما الأدبية، كما حصل عبد الحق فاضل وهو محام وأديب ومترجم على منصب دبلوماسي مرموق، وأصبح رفائيل بطي وزيرا في الخمسينات، وأشرف حسين الرحّال على الإذاعة الأمر الذي يكشف عن وجود مثل هذه الشراكة المعلنة.
نأى الرسام عن استنساخ المناظر الطبيعة، وابتعد النحّات عن تقليد النماذج المرئية، وعزف الشعراء المحدثون عن الموضوعات القديمة فكتب السياب «أنشودة المطر» 1953 وهي من أهم التجارب اللافتة في الحداثة الشعرية العربية رغم أن مشعل الحداثة حمله البياتي وبلند الحيدري إلى جانب السياب. أعرب عبد الملك نوري عن إعجابه المفرط بالأدب الإنجليزي وحاول اجتراح طريقة جديدة في كتابة القصة لكن وجوده الخاطف سرعان ما انتهى في الثقافة العراقية. كما ينطبق الأمر نفسه على الرسام محمود صبري الذي غادر العراق ثم تبنّى «واقعية الكم» وقدّم نتاجات شكّلت قطيعة مع ماضيه الفني.
لكن المؤلفة تذكر من ناحية أخرى أن المثقف العراقي كان بالضياع والعزلة والاغتراب وهو في وطنه فلا غرابة أن يشعر علي الشوك بأنه «مثقف معزول» لأنه غريب عن مجتمعه، ومغترب وهو في بيته ومدينته، ولهذا عاش البريكان عزلة مكتملة كان ينتصر عليها بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، كما كان يفعل نجيب المانع، ومحمود صبري، وجواد سليم ونهاد التكرلي وغيرهم. هذا الولع بالموسيقى سوف يتحول إلى كتابة انطباعية أو نقدية عنها على أيدي شعراء وكتّاب عراقيين مثال علي الشوك، نجيب المانع، صلاح نيازي، فوزي كريم وقتيبة الشيخ نوري.
لم تكْفِهم صفات الغربة والضياع والتشتت فبحثوا عن العبثية واللاجدوى والمنحى الوجودي وأسسوا مقاهي وجماعات فنية من بينها مقهى «الواق الواق» التي استمدتها مخيلاتهم من قصص «ألف لية وليلة» وجماعة «الوقت الضائع». ينتمي جيل عبد الملك نوري، ونازك الملائكة، وفؤاد ونهاد التكرلي، ورفعت الجادرجي وجواد سليم وقتيبة الشيخ نوري وغيرهم إلى الفئات المتمكنة ماديا ولكنهم كانوا يصرّون على أنهم يعانون من الضياع، ويمعنون في الهرب من الواقع. حاول بعضهم أمثال عبد الملك نوري وعائد خصباك ومهدي عيسى الصقر إبراز عيوب وتشوهات المجتمع البرجوازي، كما حاول التكرلي إبراز تصوراته الوجودية وتجسيد فكرة الإحساس بالضياع والشعور بالعبث.
تناولت المحسن في هذا الفصل الشخصية «الداندية» كإنسان «متأنق ومتشاوف ومترفع»، كما قدمت عددًا من الأدباء الأكاديميين العراقيين الذين اصطبغوا بالصبغة القومية ودخلوا في صراعات مريرة مع اليسار العراقي برمته، كما أشارت إلى منظمة «حرية الثقافة» ومؤسسة فرانكلين في الستينات التي دعمت عددًا من الأدباء والكتاب ونشرت ترجماتهم ومن بينهم السياب. وتُنهي المحسن هذا الفصل بالحديث عن تداخل الثقافة العارفة بالشعبية حينما كتب النوّاب بعض شعره بمحكية أهل الهور ونشر ديوانه الأول «الريل وحمد» الذي تحوّل إلى أيقونة ثقافية ثم عززت هذا المنحى الشعبي لميعة عباس عمارة وغيرها من الشعراء بينما اعتبر القوميون إدخال المحكية إلى الأدب تجاوزًا على الفصحى وانتهاكًا لها.
ثقافة المدينة الحديثة
ترصد فاطمة المحسن في الفصل الثالث المعالم الجديدة لبغداد وصعود العوائل الميسورة بعد عودة أبنائها من الدراسة في الخارج أمثال محمد مكية ورفعت الجادرجي ودورهما في تحديث بغداد. يؤرخ خالد السلطاني ظهور العمارة الحديثة في العراق بين منتصف الأربعينات والخمسينات وأشار إلى عدد من المباني التي صممها مهندسون عراقيون مثل «سوفير» و«مشغل الهلال الأحمر» و«خان باشا». توقفت المحسن عند شارع الرشيد الذي يعتبر أنموذجًا للعمارة الهجينة والحداثة العراقية حيث يجمع هذا الشارع بين الجوامع ذات الطرز الإسلامية، والسوق العربي، والمقاهي العثمانية، والأبنية الحكومية الحديثة.
ترى المحسن أن الحداثة قد فرضت شروطها في مفصلين أساسيين وهما تقريب الأماكن وتوحيد الزمن. وتتوقف عند بعض الجماعات الفنية مثل «جماعة بغداد للفن الحديث» التي أصدرت بيانها الذي يتمحور حول مفهوم التراث والمعاصرة وجماعة البدائيين ورغبتهم في التجريب. كما تُعرّج على السرد في بعض الروايات المهمة لعبد الملك نوري وفرمان والتكرلي التي تدور في الأحياء الشعبية الفقيرة وقد اعتبرت الناقدة رواية «النخلة والجيران» أقرب إلى مرثية لبغداد القديمة الموشكة على الأفول. وتختم المحسن هذا الفصل بالحديث عن عفيفة إسكندر التي مزجت بين المرح واللذة والأنوثة الناعمة والغناء بالفصحى. كما توقفت عند المونولجست عزيز علي الذي كان يسخر من البرلمان والفساد وهيمنة الاستعمار عبر أغانيه الذكية التي أحبها المثقفون وعامة الناس على حد سواء.

المشروع الأكاديمي
تكمن أهمية الفصل الرابع «الدرس التعليمي والمشروع الأكاديمي» في عدد من الظواهر المفصلية أولها أن المناهج الدراسية الحكومية قد تعممت بصيغتها الحديثة بعد هزيمة «الكتاتيب» ووصول المدارس إلى البوادي والأرياف علمًا بأن الدولة لم ينافسها في نهضة التعليم سوى بعض المدارس اليهودية والمسيحية وهي قليلة جدًا في مجتمع غالبيته مسلمة.
صاغ البريطانيون المناهج الأولى للتعليم بمساعدة ساطع الحصري فتنوع الدرس البحثي المتصل بالطرائق الغربية. ركزت المحسن في هذا الفصل على أربع شخصيات أكاديمية مهمة أولها جواد علي الذي قدّم أطروحة نادرة عنوانها «المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية» 1938 التي تُرجمت إلى العربية عام 2005 وقد استعمل فيها الباحث المنهج الاستقرائي باعتباره جدلية تاريخية بين تصارع الروايات. لم يبتّ الباحث في الروايات ولم يدحضها ولكنه ينبه إلى مصدرها، وأزمنة القائلين بها، وأخطاء المؤرخين أنفسهم. وهدفه هو الفصل بين الحقيقة التاريخية والأسطورة. وقد اعتبرت المحسن هذا الكتاب بأنه يصل الدرس الثقافي بدقة المعلومة أو الرواية.
أما عبد العزيز الدوري فكانت أطروحته «تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري» الذي ربط فيه التاريخ بالسوسيولوجيا بالاقتصاد وهي أطروحة متفردة غير أنه في كتابه الثاني «دراسات في العصور العباسية المتأخرة» يرى أن النظر في التاريخ يقوّي ملكة النقد، ويوسع أفق التفكير، ويمهد لمعرفة نفسية الأمة. ورغم نزعته القومية واتهام بعض طروحاته بالتعصب للعرب والعروبة إلا أنه سجن في عهد البعث الثاني فقرر الخروج من العراق وعدم العودة إليه طوال ما تبقى من حياته.
لم تسلم الشخصية الثالثة على أهميتها من التعسف فرغم المنجزات والخدمات الجليلة التي قدّمها طه باقر للثقافة العراقية فإن البعثيين زجّوه في السجن فانقطع عن الكتابة لعقد ونصف العقد وهو صاحب المؤلفات الأربعة التي ظلت باقية في الذاكرة الجمعية العراقية وأبرزها ترجمته لملحمة «كلكامش» وتعريفاته المتواصلة بالأدب العراقي القديم والكتابة عن تراثنا اللغوي وما اكتنفته من أشياء دخيلة.
أما الشخص الرابع فهو علي الوردي الذي حاز على شعبية كبيرة نافست شعبية كبار الشعراء، بل أصبح أيقونة من أيقونات الثقافة العراقية، ويعتقد البعض أن سبب شهرته هو عدم تعاليه على قرّائه وقدرته على تحويل الأفكار والنظريات إلى حكايات وقصص جاذبة لا تخلو من الإثارة. تخلص المحسن إلى القول بأنه كان حداثيًا وطليعيًا وجريئًا جدًا في طريقة طرحه لوجهات النظر في الكتابة النقدية.

مجازات الحداثة
يمكن قراءة الملامح الجديدة للحداثة من خلال موضات الملابس، وقصّات الشعر، والفرق الموسيقية والغنائية، وارتياد صالات السينما، وظهور التلفزيون الذي أعلن عن حداثة جديدة في الحياة العراقية. ركزت المحسن على ظاهرة حسون الأميركي، الداندي الذي عوّضته الأفلام الأميركية عن الرحيل إلى عالم الغرب المسحور. ومغني الجاز إلهام المدفعي الذي كان يتحدث بلكنة مواطن إنجليزي تعلّم اللغة العربية وزاوج بين التراث والمعاصرة في أغانية. وفي الجانب الأدبي توقفت المحسن عند البيان الشعري الذي كتبه فاضل العزاوي ووقعه سامي مهدي وفوزي كريم وخالد علي مصطفى وانطوى على عدد من الرؤى والأفكار الجمالية التي أثارت سجالاً طويلاً بينهم وبين الأجيال السابقة واللاحقة. كما أصدر التشكيليون بيانهم الأول الذي جمع عددًا من التشكيليين العراقيين أبرزهم هاشم سمرجي ومحمد مهر الدين ورافع الناصري.
أشارت المحسن إلى أهمية جماعة كركوك ودورهم في صناعة الحداثة الأدبية والفنية ودخلوا في صراعات مع سامي مهدي الذي اتهمهم اتهامات شتّى بحجة انتمائهم إلى قوميات كردية وتركمانية وآشورية وحقيقة الأمر أن الكثير من الذين كتبوا الأدب الحداثي أو السوريالي على وجه التحديد كانوا عربًا أيضًا نذكر منهم فاضل عباس هادي، جليل حيدر، عبد القادر الجنابي، عبد الرحمن طهمازي، هذا إضافة إلى جماعة كركوك وأبرزهم فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، أنور الغساني وآخرين. تختم المحسن حديثها عن بعض الشخصيات النسوية الجريئة مثل عالية ممدوح التي وصفتها الناقدة بأنها أكثر جرأة من الأديبات اللبنانيات، كما توقفت عند سالمة صالح وبثينة الناصري وسعاد العطار ودورهن الواضح في المشهد الحداثي العراقي. بكلمة أخيرة يشكِّل هذا الكتاب إضافة جدية إلى الأبحاث العراقية الرصينة في الجانبين النقدي والفكري على حدٍ سواء.