في الطريق الى بيت دستويفسكي

في الطريق الى بيت دستويفسكي

علي حسين
في الثالث من تشرين الاول عام 1866 اقترب منها معلمها ليخبرها أن هناك كاتباً يعاني من أمراض عديدة وهو بحاجة الى مساعدة كاتبة اختزال ، من هو هذا الكاتب؟ سألت الشابة أنا جريجوريفنا ، أجاب الأستاذ إنه فيدور دستويفسكي . لم تصدق اول الامر ان الاسم الذي يقصده الاستاذ هو نفسه كاتبها المفضل الذي طالما ذرفت الدموع وهي تعيد قراءة "ذكريات من منزل الأموات" ، وأنها كانت مغرمة بـ " فرنكا " بطلة قصته الاولى "الفقراء" ،

فهي مثلها تكتب رسائل لشخص مجهول تخبره ان حياتها تغيرت منذ ان توفي والدها، لتبدأ الخطوة الأولى لها في مسيرة الفقر ومخاطره وهمومه !

وفي صبيحة اليوم التالي استيقظت انا جريجوريفنا على غير عادتها نشطة ، كانت تنتظر هذا اليوم منذ شهور، ان تتحول من طالبة صغيرة الى موظفة ، غادرت البيت مبكرا ، كان لابد ان تمر على منزل صديقتها ايميليا لتخبرها انها ستضع اولى خطواتها على سلّم الحياة ، ولتغيضها ايضا فهي ستلتقي وجها لوجه مع فيدور دستويفسكي الذي طالما تبادلت مع ايميليا كتبه .
في الساعة الحادية عشرة كانت تقف أمام الشقة 13 الواقعة في شارع بولشايا . ذكرتها البناية بأحداث رواية "الجريمة والعقاب" التي كانت قد أتمت قراءتها قبل مدة ، تتلفت حولها ، ربما في واحدة من هذه الشقق سكنت ذات يوم العجوز "اليونا" القاسية الأنانية التي ظهرت فجأة في طريق راسكولينكوف الذي شعر أمامها في لحظة أنها عقبة تقف في طريقه :" لم تكن العجوز إلا وعكة أردت ان أتخطاها مسرعاً قدر الإمكان ، انا لم اقتل العجوز ، بل قتلت مبدأ ".
تتذكر أنا جريجوريفنا ان والدها أعطاها يوما مجلة الرسول الروسي ،وفيها قرأت تلخيصاً قدمه دستويفسكي لروايته الشهيرة هذه، حين كتب ردا على تساؤلات القراء عن مغزى الجريمة قائلا :" هذه الرواية انما هي عرض سيكولوجي لجريمة ... والحدث يدور في زمننا الراهن ، أي في هذه السنة بالذات. أما صاحب الحدث فهو شاب طالب في الجامعة من أصول بورجوازية لكنه يعيش في فقر مدقع، لذلك يقرر ،تحت تأثير بعض الأفكار الغريبة التي نراها رائجة هذه الأيام، ان يخرج بضربة واحدة من وضعه المزري : لقد قرر ان يقتل امرأة عجوزاً، هي أرملة لمستشار وتعمل اليوم في الربا . والشاب ينطلق في مشروعه من تساؤلات لا ينفك يطرحها على نفسه :"ما فائدة هذه المرأة؟ لماذا تراها تعيش؟ هل تنفع أحداً في عيشها؟ وهو يؤمن ان في مقتل العجوز خلاص له واداء واجب تجاه إخوته في الإنسانية ، لقد شعر وهو يفك الساطور من الإبزيم بأنه لم تعد لديه لحظة يضيعها "
أخيراً انتبهت انا جريجوريفنا على صوت امرأة عجوز تقول لها : تفضلي ماذا تريدين ؟
للحظة تصورت انها تقف أمام عجوز "الجريمة والعقاب" بشالها الأخضر وعينيها الماكرتين ، وقبل ان تعيد الخادمة عليها السؤال أجابت بنبرة مترددة : "انا قادمة من طرف السيد أولخين وان صاحب المنزل على علم بموعدي معه ."
دعتها الخادمة للدخول ، وبعد دقيقتين ظهر أمامها كاتبها المفضل الذي لم يترك لها فرصة ان تأخذ نفسها حيث سألها مباشرة : " هل انت بارعة بالاختزال؟ وقبل ان تجيب طرح عليها سؤالاً آخر : منذ متى وانت تعملين بهذه المهنة ؟ لكنه اخيراً تنبه الى أنها لم تجلس فطلب منها ان تدخل معه غرفة مكتبة، وقال للخادمة : "احضري لنا الشاي."
************
كان الدائنون قد يئسوا من الحصول على أموالهم ، فباعوها لناشر الكتب ستيلوفسكي الذي كان يأمل بالحصول من دستويفسكي على رواية جديدة شبيهة بالجريمة والعقاب التي حظيت بمبيعات جيدة . وفي ركن من المكتب، وعلى الأريكة المغطاة بقماش قديم مهترئ ، كان ستيلوفيسكي يبرز كمبيالات الدائنين وهو يقول : "انه العطف الذي اشعر به نحوك دفعني الى شراء هذه الكمبيالات رغم انني اعتبر الصفقة خاسرة ، فديونك ثلاثة آلاف روبل وهي قيمة اكثر من ثلاث روايات."
وقبل ان يجيب دستويفسكي يحكم الناشر الخبير خطته بأن يخرج نقودا جديدة من جيب معطفه يقلبها وهو يقول : "وفوق هذا يمكن ان ادفع مئات الروبلات الجديدة بشرط." ما الشرط ؟ قال دستويفسكي.
- "نوقع عقدا جديدا بثلاث روايات جديدة خلال فترة عام واحد" ، قال ستيلوفسكي.
* "لكنه زمن قصير" ، اجاب دستويفسكي.
- "وانا لا استطيع ان انتظر اكثر، هذه ليست أموالي إنها أموال شركاء لي." قال تيلوفسكي وهو يخرج من جيب معطفه الآخر أوراقا يضعها على مفرش أحمر يغطي المنضدة المستديرة والى جانبها اوراق الروبل الجديدة.
مد دستويفسكي يده الى أوراق الروبل التي سحبها الناشر بخفة ليقدم له العقد وهو يقول : أرأيت رقة قلبي ، وما فطرت عليه من رحمة ؟
*"لكنك أفّاق كبير" ، قال له دستويفسكي.
- "وناشر شاطر ستوافق على شروطه لأنك لاتريد ان تدخل السجن ثانية" ، كانت كلمة السجن تثير الرعب في نفس دستويفسكي ، فهو مايزال يتذكر صبيحة الحادي والعشرين من كانون الاول عام 1849 حين أغمض عينيه ، انه السادس في ترتيب تنفيذ حكم الإعدام ، الدور القادم سيكون دوره ، فبعد خمس دقائق لن يعود موجودا ،اثناء ذلك يوجه الجنود بنادقهم الى الأعمدة التي ربط عليها زملاؤه ، يسود صمت يثير الحزن ينطلق صوت : "نار" ، ستنهار تلك الأجساد الثلاثة على الارض ، وسينتقل هو الى واحد من هذه الأعمدة ، ولكن مرت ثوانٍ ثقيلة ولم تُطلق النار . وبخوف يتلفت حوله لكي يرى ماذا يحدث ، كان هناك احد الجنود يلوّح بمنديل ابيض إعلانا بالتوقف عن التنفيذ ، لقد قرر صاحب الجلالة القيصر منحهم الرحمة وإبدال الإعدام بالسجن مع الأشغال الشاقة ، واخيرا نجا من الموت وسيقول لآنا جريجوريفنا بعد عشرين عاما : "اني لا أذكر يوما شعرت فيه بمثل تلك السعادة."
كان يرتعش وهو يتذكر تلك الأيام ، لاحظ ستيلوفسكي تغير وجهه ، للحظات أصيب برعب وهو يرى دستويفسكي يمتقع لونه ولربما سيصاب بنوبة من نوبات صرعه ، كان يعرف ان كاتبه المفضل مريض منذ زمن طويل .
- "ليست لدي شروط سوى ان تقدم لي رواية بـ 400 صفحة" ، قال ستيلوفسكي ليخرج دستويفسكي من حالة الشرود التي سيطرت عليه
* لكن لا أفكار جديدة عندي ، ولا استطيع ان اعدك بشيء.
- "يا للخسارة ، لقد تصورت أنك بأمسّ الحاجة الى النقود"، قالها وهو يمد يده الى النقود ليعيد وضعها في جيب معطفه.
* حسنا ، رواية بأربعمئة صفحة فقط.
- "وهذا ما أطلبه الآن" ، قالها ستيلوفسكي وهو يقدم له العقد الذي كان من ابرز شروطه ان المؤلف مطالب بأن يقدم خلال شهر تشرين الثاني، رواية جديدة لاتقل عدد صفحاتها عن اربعمئة صفحة.
************
- كم أنجزنا من الصفحات؟ سألها دستويفسكي ذات يوم.
كان العمل قد انتظم برواية "المقامر" ، واخذ دستويفسكي يطمئن بأن الرواية ستسلم في موعدها المحدد ، كان يشعر بمتعة غريبة وهو يعمل الى جانب هذه الفتاة الشابة ، التي ستكون يوما بطلة قصة حياته الحقيقية ، كان يملي عليها قصة غرام الكسي ابفانوفيتش بالشابة الجميلة بولين سوسولوفا ، فتاة بالغة العذوبة يقع في غرامها رجل مقامر، يضيف الى بطلة الرواية بعضاً من ملامح آنا جريجوريفنا ، كانت هي تصغي اليه وتحاول ان تتخيل بطل الرواية يقع في غرامها انه يقول لها :"في حضورك افقد كل كرامتي" وحين يصل دستوفيسكي الى السطور التي يقول فيها ايفانوفيتش : "ضممتها بين ذراعي ، قبلت يديها وقدميها ، وجثوت على ركبتي امامها". تكتب آنا جريجوريفنا في مذكراتها :"بعد أشهر وجدت دستويفسكي وهو يعيد مشهد المعلم اليكسي ايفانوفيتش ، وقع عند قدمي مقبلا ، ضاماً اليه ركبتي وهو ينتحب بصوت عال ، لا اتخيل ان بمقدوري ان افقدك."
بتاريخ 30 تشرين الاول عام 1866 ، وبعد خمسة وعشرين يوما من العمل المتواصل ، اصبحت "المقامر" جاهزة للطبع ، وفي اليوم الاول من تشرين الثاني وحسب الموعد المحدد ذهب دستويفسكي لمقابلة ستيلوفسكي وتسليمه مخطوطة الرواية.
كان قد اعتاد على فتاة الاختزال والتي اصبحت تناقشه بشؤون ابطال رواياته بحماسة ، كانت فكرة فراقها تؤرقه وسألها ذات يوم :"ضعي نفسك مكان بطلة قصة المقامر لدقيقة واحدة وافترضي ان ايفانوفيتش هو انا واني أبوح لك بحبي ، واني أطلب منك ان تكوني زوجتي قولي بماذا يمكن ان تجيبي؟"
كان منزعجاً من جرأته وخائفاً ان تفسد كلماته هذه الصداقة اللطيفة، ولم يكن يتوقع ان موظفة الاختزال ستنظر الى عينيه بهدوء ثم تقول له بكل بساطة : "ساجيبك بأني أحبك وأني سأظل أحبك طوال حياتي ."
************
لعب دستويفسكي في حياتي دوراً حاسماً ، فمنذ أن قرأت له لأول مرة رواية "الأبله" بترجمة العبقري سامي الدروبي أثار فيّ من الحماسة والنشوة للقراءة ما لم يثره كاتب آخر . ولا أزال أتذكر اللحظة الاولى التي قرأت فيها "الأبله" وأتمثل السطور الاولى من الرواية التي لاتزال تسحرني : "في صباح من صباحات تشرين الثاني ، في نحو التاسعة أثناء ذوبان الجليد كان قطار وارسو يقترب من بطرسبورغ " ، وما من مرة قرأت دستويفسكي الا تكشّف لي وجه الأمير مشكين ، صدمني هذا البطل الطيب الى درجة انني كنت ابحث عنه في وجوه جميع الذين التقي بهم ، بل حاولت ان اضع شيئا منه في شخصيتي، لكني فشلت .
في شباط من عام 1967 يكتب دستويفسكي رسالة الى اخيه يقول فيها : "ان فكرة الرواية هي فكرتي المفضلة القديمة ، لكنها من الصعوبة بحيث انني لم اجرؤ على محاولة تنفيذها لزمن طويل ، الفكرة الرئيسية هي تصوير الرجل الطيب الفعال ، وليس على الارض ما هو اصعب من هذا خصوصاً في أيامنا الحاضرة ، فكل الكتّاب الذين تصدروا لتصوير الانسان الطيب قصّروا دائما في غاياتهم ، والسبب ان هذا عمل بلا حدود ، ولاشك ان ظهور هذا الشخص الطيب طيبة لاتقاس ولا تستنفد ليس الا معجزة ، دون كيشوت وحده بين اشخاص الأدب الطيبين اكثرهم إتقانا ، لكنه طيب لا لشيء، إلا لأنه مهرج ايضا ، كما ان بيكوك الذي ابتدعه ديكنز يدعو ايضا الى السخرية ، جان فالجان فكتور هيجو ايضا يمثل احدى المحاولات القوية لكنه يبعث على الشفقة والعطف من جراء حظه الشديد السوء وظلم المجتمع له ، ليس في روايتي شيء من هذا القبيل مطلقا ولهذا فإنني شديد الخشية من ان تفشل فشلا ذريعا ."
كان ديستويفسكي يشعر بأن القراء خذلوه في رواية "المقامر" ، والمبلغ الذي حصل عليه من الناشر تقلص كثيرا بسبب الديون المتراكمة ، ولاحظ ان زوجته حامل، وقرر ان المولود سيكون بنتا وانه سيسميها "ايمي" ، وأخفى عن آنا جريجوريفنا رواية "الحرب والسلام" التي صدرت حديثا ، لان تولستوي يروي فيها احتضار الاميرة بولكونسكي اثناء الولادة.
الامير ميشكين المصاب بالصرع يعود من عيادة في سويسرا حيث يعالج من مرض الصرع ، وهو يتيم ولايملك شيئا سوى صرة ملابس هزيلة ، ولايعرف شيئا من امور الحياة، وقد قال له الطبيب : لقد حصلت لدي قناعة تامة بأنك طفل حقيقي" ، هذا الطفل الذي بلغ السادسة والعشرين من العمر مهذب خجول طيب القلب وساذج ، وقد انقضت حياته في تأملات داخلية ، وعندما صدرت "الأبله" أربك بطلها النقاد وحيرهم، يقول تورجنيف لأحد النقاد :"يا إلهي ما الذي لم يقله السيد دستويفسكي في هذه الرواية التي هي في الحقيقة اشبه بكتاب اعترافات ؟"
في "الأبله" يستعير دستويفسكي حياته أكثر من أي رواية أخرى له، ويروي فيها على لسان بطله كيف وقف على منصة مرتفعة وهو في الثامنة والعشرين واعتقد انه بقيت له من الحياة ثلاث دقائق لا أكثر.
************
امضى المترجم السوري الكبير سامي الدروبي عشرين عاما في ترجمة اكثر من عشرة آلاف صفحة من أعمال دستويفسكي الى العربية وكنا نحن القراء ، نرى من خلال هذا الدبلوماسي السوري معالم الدنيا في عناوين دوستويفسكي : "مذلّون مهانون"، و"ليالٍ بيضاء" و"الإخوة كارامازوف" التي تطرح ذلك السؤال: من هو المجرم الحقيقي، المحرِّض أم القاتل؟
ويشير سامي الدروبي ، في لقاء أجراه معه احمد بهاء الدين ضمن زاوية "زيارة الى مكتبة" عندما كان الدروبي سفيرا لسوريا في القاهرة، من ان علاقته بأعمال دوستويفسكي بدأت عندما كان في الثامنة عشرة. ويضيف : "شعرت أن بيني وبينه أنساباً روحية، ووجدت نفسي فيه، وصرت أتحرك في عالمه كتحركي في بيتي، وأعرف شخوصه معرفة أصدقاء طالت صحبتي معهم، حتى لأكاد أحاورهم همساً في بعض الأحيان". ويستشهد بقول لنيتشه: "دوستويفسكي هو الوحيد الذي علمني شيئاً عن النفس الإنسانية."
وتروي زوجة الدروبي أنها كانت برفقة زوجها في زيارة إلى موسكو. وخلال جولة في شوارع المدينة، أشار سامي إلى جسر مرّا بقربه، وقال: "هذا الجسر ذكره دوستويفسكي في قصة الليالي البيضاء" . وفي شارع آخر، وقف يتأمل بيتاً ثم علّق: "أظن أن رواية الجريمة والعقاب حدثت في هذا المنزل" .
في ليلة الثاني عشر من شباط عام 1976 كانت عينا سامي الدروبي ترنوان الى مكتبته حيث كتبه التي ترجمها الى العربية والتي بلغت ثمانين كتاب بأكثر من 40 ألف صفحة ، كان يعاني من ضيق في التنفس ويمشى بصعوبة باتجاه المكتبة ليراجع معجماً بحثاً عن كلمة تقلقه، ولم يدرِ أنها آخر اللحظات في حياته حيث وجدته زوجته ملقى على الارض والمعجم بالقرب من رأسه ، وكانت هناك اربعون صفحة من الجزء الثاني من "الحرب والسلام" لم تترجم بعد.