نيكولاس كوبرنيكوس أيقونة الثورات العلمية

نيكولاس كوبرنيكوس أيقونة الثورات العلمية

عثمان حسن
الأرض كوكب من مجموعة كواكب تدور حول الشمس.. ليست هذه سوى معلومة عادية يعرفها الصغير قبل الكبير، ولا يتجادل فيها اثنان، لكنها في الواقع كانت ثورة هزت أركان كل جهات العالم، الذي ظل طوال قرون عديدة يتمسك بمبدأ مركزية الأرض، ويعتبر أي قول خلاف ذلك هرطقة توجب أشد عقوبة.

إنها ثورة كوبرنيكوس، ذلك الكاهن الذي قوض أساساً في كهنوت عصره، والعالم الذي رفض الإذعان لإرث أرسطو العظيم، وبطليموس الكبير، فجاهد ببحثه سنوات وسنوات، يعلق نظره في السماء أكثر مما يحسب لخطواته على الأرض، حتى يثبت نظريته ويقر برهانها، ثم يعلنها على الملأ: أيها الناس، الشمس هي مركز النظام، وليست الأرض.
مات كوبرنيكوس دون أن يعلم أثره في مجرى التاريخ، حين أسس لتلك النهضة الكبرى، وذلك العالم الجديد.. عالم ما بعد كوبرنيكوس.
في إيطاليا
كانت إيطاليا حاضرة من حواضر العلم والمعرفة، وحين انتقل كوبرنيكوس إليها عام 1496 التحق بأحد البرامج الدينية في جامعة هناك، حيث التقى بعالم الفلك «دومينيكو ماريا نوفارا»، ورافقه مدة من الزمن، متبادلاً معه الآراء العلمية في الفلك وحركة الأجرام السماوية.
وبعد مدة من دراسته الطب في جامعة أخرى بإيطاليا، اضطر كوبرنيكوس لقطع دراسته والالتحاق بالكنيسة لشغل منصب فيها، بترتيب من خاله.
وبعودته إلى بولندا، وعمله كاهناً في الكنيسة، اختار كوبرنيكوس، الإقامة في أحد الأبراج، لنحو ثلاثين عاماً، تفرغ فيها لأبحاثه السماوية، من أجل إثبات نظريته الثورية.
الثورة الكوبرنيكية
أدى ظهور ما بات يعرف بالثورة الكوبرنيكية، نسبة إلى كوبرنيكوس، إلى تحول كبير في النظرة إلى الكون، فالأرض التي ظلت لقرون مركز الكون، لم تعد كذلك، وأصبحت مجرد كوكب في مجموعة تدور حول الشمس، مركز هذا النظام الدقيق.
وقد مهدت هذه الثورة العلمية لاكتشافات كبرى على يد علماء تلك العصور، ومن بينهم كيبلر وغاليليو ونيوتن.
ومن خلال جهود العلماء الذين استفادوا مما قرره كوبرنيكوس، توصل العالم إلى تفسير العديد من الظواهر الكونية المتعلقة بحركة الكواكب والأجرام السماوية، وقوانين هذه الحركة، إضافة إلى الظواهر الأرضية التي تتأثر بها، كظاهرة المد والجزر وعلاقتها بجاذبية القمر.
كل هذا الرصيد المعرفي المتراكم يدين بقدر من الفضل لكوبرنيكوس، حتى أصبح من الشائع بين العلماء والدارسين والمفكرين في مختلف المجالات أن يطلقوا مصطلح «الكوبرنيكية» هذا على كل ثورة أو فكرة تحدث تغييراً جذرياً في أي من الجوانب المعرفية.
المواجهة مع الكنيسة
منذ أرسطو، كان قد تقرر في العلم السائد أن الأرض هي مركز الكون، وهي ثابتة، تدور من حولها الأجرام، وجاء بطليموس في القرن الميلادي الثاني ليضع نموذجاً مطوراً على الأساس نفسه، مركزية الأرض.
هذا العلم «الأرسطي» انتقل إلى الساحة الدينية ليصبح مسلمة لدى الكنيسة، بعد إجراء التعديلات الدينية المناسبة، وبذلك منحت الكنيسة سلطة دينية لهذه النظرية «الخاطئة»، وضعت كل مشكك فيها أمام اتهامات الهرطقة، وعرضته لعقوبة الخروج على الكنيسة.
وكان قبول الكنيسة لهذه الفكرة مبنياً على أساس ملاءمتها للنظرة إلى البشر على الأرض باعتبارهم الجزء المركزي في الخلق، وأن كل ما في الكون مسخر لخدمتهم، ما جعل علماء الكنيسة في تلك العصور يفترضون أن هذا يقتضي أن تكون الأرض هي مركز الكون كذلك.
ومن هنا يتضح حجم الصدمة التي أحدثتها نظرية مركزية الشمس في الأوساط الدينية، إلى جانب العلمية، لا سيما أن كوبرنيكوس كان يشغل منصب كاهن في الكنيسة.
وقد احتاج الأمر مدة من الزمن كي تراجع الكنيسة موقفها وتقر بخطأ النظرية التي تبنتها.
اتهامات
لم يسلم كوبرنيكوس من الاتهام في أصالة اكتشافاته، حتى قال بعض المؤرخين إن جميع ما توصل إليه، سوى نظرية مركزية الشمس، كان منقولاً عن آخرين، ومنهم علماء مرصد مراغة الفلكي الذي أسسه نصير الدين الطوسي عام 1259م.
بل إن بعض الدارسين أشاروا إلى أن التفاصيل الرياضية لنموذج كوبرنيكوس الفلكي مطابقة لنموذج «ابن الشاطر»، الفلكي الدمشقي الذي عاش ما بين 1304 و1375 للميلاد، واشتهر بالساعة الشمسية التي أسماها «الوسيط» وصنعها لضبط وقت الصلاة.
وذكر بعضهم أن كوبرنيكوس استفاد بشكل كبير وأساسي في نموذجه من تلك النماذج المصورة التي وضعها ابن الشاطر، لافتين إلى عثور مؤرخين على مخطوطات باللغة العربية لابن الشاطر موجودة في بولندا.
حقائق ومعلومات
الفلكي أرسطرخس الساموسي، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، سبق كوبرنيكوس في افتراض مركزية الشمس، قبل أن تفرض نظريات بطليموس سيطرتها، لكن نموذج كوبرنيكوس كان أحسن دقة وتفصيلاً، وأرسخ برهاناً، وأكثر قبولاً من قبل الكنيسة فيما بعد.
لم تخلُ نظريات كوبرنيكوس من استنتاجات غير دقيقة خلال أبحاثه، ومنها افتراضه أن مدارات الكواكب دائرية، ما فنده عالم الفلك يوهانس كيبلر فيما بعد، مؤكداً أنها مدارات إهليلجية.
نشر كوبرنيكوس كتابين حملا أفكاره ونظرياته وأثارا جدلاً كبيراً في الأوساط العلمية والدينية، الكتاب الأول هو «التعليق الصغير» ونشر بين عامي 1508 و 1514 والثاني هو «رسالة في دوران الأجرام السماوية» الذي يعتبر أساسا لعلم الفلك وطبع عام 1543، وقد أهدى كوبرنيكوس كتابه الثاني إلى البابا بول الثالث، إلا أن الكنيسة منعت الكتاب من التداول، قبل أن يتم رفع هذا الحظر فيما بعد.
أشار نقاد إلى قصور في نظريات كوبرنيكوس، من بينها عدم تمكنه من تفسير انزياح موقع الجرم السماوي عند رؤيته عبر خطوط نظر مختلفة، وكذلك تفسير سبب دوران الأرض حول الشمس.
لم يحقق الكتاب الثاني لكوبرنيكوس مبيعات تزيد عن أربعمئة نسخة عند نشره، وهو الكتاب الذي يعد اليوم من أكثر كتب علم الفلك أهمية عبر التاريخ.
برع كوبرنيكوس في عدد من العلوم، إلى جانب الفلك، فكان فيزيائياً ومترجماً وعالم اقتصاد، وكان يتحدث اللاتينية والإيطالية والألمانية والبولندية واليونانية.
بسبب التزامه الكنسي، ككاهن، لم يتزوج كوبرنيكوس خلال حياته أبداً.
عند وفاته إثر سكتة دماغية، وجد كوبرنيكوس ممدداً في فراشه، وفي يده نسخة من كتابه الثاني.
رسالة في الأجرام السماوية
بين عامي 1508 و 1514 كان كوبرنيكوس قد طرح آراءه الأولية التي حملت ملامح نظرته الجديدة في علم الفلك، دون أن يصرح باسمه، خوفاً من غضب الكنيسة واتهامها له بالهرطقة، ذلك أن بسط نظريته وتفصيلها ونسبتها إليه لم تتم إلا بعد ذلك حين نشر كتابه «رسالة في الأجرام السماوية»، وهو الكتاب الذي أحدث كل تلك الثورة العلمية الهائلة في علم الفلك، ويعد اليوم أساس علم الفلك الحديث. هذا الكتاب رأى النور عام 1543، عام وفاة كوبرنيكوس، بل إن طباعته تمت في مدينة نورمبيرج قبل وفاته بساعة فقط!.
بعد نحو 150 سنة من هذا التاريخ، بدأت آراء كوبرنيكوس الثورية تفرض صحتها وتأخذ مكانها في الأوساط العلمية والدينية شيئاً فشيئاً، إلى أن أصبحت هذه «البدعة» محل إجماع وإجلال، وتحولت تلك «الهرطقة» إلى أساس راسخ للأجيال من بعد.
على أن الطريق إلى الانتصار لنظرية كوبرنيكوس لم يكن معبداً، فهذا العالم الفلكي جيوردانو برونو عندما صرح علانية بصحة النظرية وبأنها حقيقة واقعة، تعرض للمطاردة هنا وهناك، حتى ألقي القبض عليه في مدينة البندقية وأودع السجن لمدة ستة أعوام، ثم أحرق بعدها وهو حي. أما غاليليو، الذي آمن بنظرية كوبرنيكوس بعد أبحاث ودراسات استعمل فيها التلسكوب، فأثبتها عملياً وواقعياً، فقد ثارت ضده ثائرة الكنيسة،‏ ومنعته من تدريس نظرية سلفه أو مناقشتها، وتعرض لمحاكمات مريرة، وأجبر على رفض النظرية أكثر من مرة، تماماً كما منع من تداول الكتب التي كانت تشير إلى حركة الأرض ودورانها، ولم يرفع الحظر عن النظرية وعلمائها وكتبهم إلا في عام 1835م، بعد تضحيات جسام من علماء ومفكرين دافعوا عما اقتنعوا به من آراء ونظريات، في وجه استبداد المجتمع وتحجر عقول السلطة المهيمنة.
نموذج كوبرنيكوس
طور كوبرنيكوس نموذجاً خاصاً ودقيقاً لنظام الأجرام السماوية، هو النظام الشمسي، الذي مركزه الشمس، لينقض بذلك النموذج الذي وضعه عالم الفلك الإغريقي الشهير بطليموس في القرن الميلادي الثاني، تطويراً لنظريات الفيلسوف اليوناني الكبير أرسطو قبل ذلك.
أكد كوبرنيكوس أن الأرض ليست مركز هذا النظام، وإنما هي الشمس، وذكر أن لكل كوكب مداره الذي تتحدد أبعاده وسرعة حركة الكوكب فيه، تبعاً للمسافة بين الكوكب والشمس، كما أكد أن النجوم ثابتة لا تتحرك، وهي إنما تبدو لنا متحركة بسبب دوران الأرض حول نفسها ليس إلا.
عن السيرة
ولد كوبرنيكوس في 19 فبراير /‏شباط عام 1437 م في مدينة تورون البولندية، على الحدود مع ألمانيا، وكان أصغر أبناء والده تاجر النحاس، الذي توفي منتصف أربعينات ذلك القرن.
انتقل الطفل اليتيم كوبرنيكوس للعيش في كنف خاله الكاهن الذي تولى تنشئته وتعليمه أحسن تعليم، ورغم تلقيه علم الكهنوت، إلا أنه لم يظهر رغبة كبيرة في هذا الميدان.. في الجامعة درس كوبرنيكوس الرسم والرياضيات والطب، قبل أن ينذر حياته لشغفه الكبير، بعلم الفلك وأسرار الكون.
كوبرنيكوس في بطون الكتب
حظي كوبرنيكوس باهتمام العلماء والباحثين قديماً وحديثاً، ليس فقط بسبب نظريته الثورية، ولكن أيضاً لسيرته كعالم ورجل دين اضطر لمواجهة السلطة الدينية والعلمية بما آمن به، فضلاً عن اهتمام المؤرخين والباحثين كذلك بما أثير من اتهامات حول أصالة الأفكار والنظريات التي طرحها كوبرنيكوس، وقول البعض إنه إنما كان منتحلاً لإرث بعض أسلافه.
ونحن نكتفي هنا بالإشارة إلى كتابين، أحدها يصلح كنموذج لدارسي إرث كوبرنيكوس، وهو بعنوان «من كوبرنيكوس إلى آينشتاين» من تأليف هانز ريشنباخ، وترجمة ودراسة الدكتور حسين علي، وهو يلقي الضوء على نظريات العالمين الكبيرين وميزة الثورية التي طبعت آراءهما العلمية.
يشرح الكتاب، الذي ينتمي لكتب فلسفة العلم، نظريات كل من كوبرنيكوس وآينشتين، وما قدماه من آراء علمية خرجت على السائد في زمنيهما. كما لا يغفل الكتاب عن الجانب الفلسفي لدى كوبرنيكوس، وكذلك عند آينشتاين.
كما نشير إلى كتاب مهم تحت عنوان «الأسئلة الكوبرنيكية» لروبرت ويستمان أستاذ التاريخ ورئيس قسم الدراسات العلمية في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، وفيه يعرض ويستمان لدفاع نيكولاس كوبرنيكوس عام 1543، علانية عن فرضيته القائلة إن الأرض عبارة عن كوكب، وأن الشمس عبارة عن جسم يستريح بالقرب من مركز الكون المتناهي. والكتاب يحاول الإجابة عن كثير من الأسئلة من مثل: لماذا صنع كوبرنيكوس هذا الاقتراح الجريء؟ وما أهمية ذلك؟ ويطرح لنظرية كوبرنيكوس هذه المسألة المحورية في تاريخ العلم، وقصة الصراع حول مصداقية علم التنجيم الذي اندلع في إيطاليا، ودور كوبرنيكوس الذي سعى إلى الحفاظ على علم التنجيم مع إعادة تشكيل أسسه الفلكية.
كما يوضح ويستمان الجهود التي بذلها كوبرنيكوس لجعل علم الفلك موضوعا حاسما في الحركة العلمية الحديثة، ويتوقف عند القرن السادس عشر بين الأعوام 1490 إلى 1610، تلك الفترة التي شكلت إطارا جديدًا لفهم التحولات الكبيرة في الفلسفة الطبيعية في القرن الذي تبعه