كوبرنيكوس وكتابه الفذ (عن الدورات السماوية)

كوبرنيكوس وكتابه الفذ (عن الدورات السماوية)

عبد الله حمدي
على الرغم من كل العوائق التي واجهته واصل نيكولاس كوبرنيكوس عمله لتطوير أفكاره، وواصل القيام بأرصاده للأجرام السماوية حتى أنه اخترع أداة فلكية جديدة سميت بالطاولة الشمسية، وكانت عبارة عن مرآة تعكس ضوء الشمس على جدار رسمت عليه خطوط تمثل خط استواء وهمي للكون، فكان بالاستطاعة تحديد زمن الاعتدال التالي (يوم تساوي ساعات الليل والنهار)

بالنظر إلى المكان الذي تسقط فيه الشمس على تلك العلامات، بهذه الأداة وغيرها تمكن كوبرنيكوس من تأليف كتابه (عن الدورات السماوية).
احتوى الكتاب على مزيد من التوسع والتنقيح لبحثه (تعليق صغير) حيث أسس لنظام شمسي وأبقى على فكرة السابقين حول الطبيعة الدائرية الكاملة لمدارات الأجرام السماوية، لكنه أعاد ترتيب النظام السماوي تماماً، ويبقى أهم ما أنجزه كوبرينكوس هو الكثير من الجداول والخرائط والبراهين الرياضية التي أُسست على مدار سنوات من أرصاده الفلكية التي تثبت نموذجه عملياً، وكان لهذا أهميته الشديدة، إذ بدون هذه الجداول والبراهين كان من المستحيل إثبات أن نموذجه يفسر حركة الشمس والكواكب والنجوم على نحو أفضل.

يعتقد مؤرخو علم الفلك أن الكتاب استغرق حوالي 26 سنة ليكتمل، وإن كان التاريخ الحقيقي غير مؤكد فإن معظمهم يتفقون على أنه بدأ في عام 1515 وأنهى معظم البحث بحلول عام 1535، إلا أنه بعد كل هذا الوقت والجهد لم يكن يشعر بعد بإمكانية اطلاع غيره على هذا العمل.
في النهاية استطاع ريتيكوس -وهو عالم شاب أتى للدراسة مع كوبرنيكوس- إقناعه بأن هذا البحث العظيم ينبغي أن ينشر، في سبيل ذلك قام (أي ريتيكوس) في عام 1540 بنشر توصيف موجز أسماه (السرد الأول) كجس نبض لما يمكن أن ينشأ من ردود أفعال عن كتاب كوبرنيكوس وللفت الانتباه أيضاً، بدا رد الفعل مشجعاً فقام كوبرنيكوس في عام 1541 بإرسال مخطوطته لتطبع في نورمبرج بألمانيا.
أسلوب الكتاب وأهم محتوياته
قُسم الكتاب إلى ستة أقسام قُسمت بدورها إلى فصول؛ يحتوي الفصل الأول من كل قسم على وصف تأسيسي لفكرته الجديدة، بينما توضح الفصول التالية براهينه باستخدام الهندسة وخرائط الأرصاد كمعطيات مدعمة. بنى كوبرنيكوس حججه بأسلوب منطقي واعتقد أنه بهذه الطريقة تمكن من البرهنة على الفرضية التي فرضها في مقدمة الكتاب وهي أن الأرض تتحرك حول محورها الخاص أثناء دورانها حول الشمس التي تقع في المركز.
عرض كوبرنيكوس في القسم الأول أجزاء من معارف علم الفلك السابقة يعتقد أنها حقيقية، كأن وافق المرجعيات القديمة في اعتقادها بأن الكون يتألف من كرات تترابط فيما بينها وتبقي الشمس والكواكب والنجوم فيها، ثم أتبع ذلك بتوضيح كيف أنه لا يتفق مع القدماء في أن الأرض لا تتحرك، وضمن بنداً درامياً رسم فيه خريطة جديدة للسماء بين فيها الشمس وهي تقبع في الوسط تدور حولها بقية الكواكب ولأول مرة في عهد الطباعة يرى الناس الأرض ككوكب مثل بقية الكواكب لا تحتفظ بالمركز الرئيسي.
وصف في القسم الثاني هندسة الدوائر التي تبرهن على هذا التغيير الجذري، ووضح في القسمين الثالث والرابع كيف أن فكرته تضفي دقة أعظم للتنبؤ بالانقلابات والاعتدالات الشمسية، وفي القسمين الأخيرين قدم المعادلات التي تصف بدقة حركات الكواكب الخمسة، وقدم عند كل نقطة من كتابه جداول الأرصاد التي قام بها سعياً للحصول موافقة وتأييد المتعلمين والباحثين.

نتائج الكتاب
عُد الكتاب نوعاً من الهرطقة إلا أن علماء الفلك لم يستطيعوا تجاهله لما فيه من براهين رياضية وأرصاد فلكية دقيقة، مثال لذلك ما قدمه تيكو براهي وهو فلكي عينه ملك الدنمارك لتحديد ما إذا كان كوبرنيكوس على صواب أم خطأ، ولم يوافق براهي على نموذج كوبرنيكوس، ولما كان في حاجة لمعطيات دقيقة لتفنيد النموذج الشمسي فقد أجرى أرصاداً فلكية بالغة الدقة وراح يجري تحسينات على أدوات الرصد حتى صنع ما يمكن اعتباره أول مرصد فلكي حقيقي.
أدى ذلك بالنهاية إلى عكس ما أراد براهي حيث قام مساعده جوهانز كبلر بالاعتماد على تلكم الأرصاد الدقيقة لدعم كوبرنيكوس ودحض ما عند براهي من الحجج المضادة، أدرك كبلر صحة نموذج كوبرنيكوس ولكنه أثبت خطأه في اعتقاد أن الأرض تتحرك في مدار دائري واستنتج بذلك المدارات البيضاوية للأرض وبقية الكواكب حول الشمس واكتشف انطلاقاً من بحث كوبرنيكوس القوانين الثلاثة لحركة الكواكب التي لا زالت مستخدمة حتى اليوم.
وفي عام 1632 نشر جاليليو كتابه (حوار بين النظامين العالميين البطلمي والكوبرنيكي) أعطى فيه لنظام كوبنيكوس المصداقية التي يستحقها. لإثبات صحة نموذج كوبرنيكوس كان جاليلو قد أنشأ تليسكوباً محسناً تحسيناً هائلاً أتاح له أرصاداً أكثر دقة بكثير، واكتشف أن كوكب الزهرة أقرب إلى الشمس منه إلى الأرض ما دعم أكثر النظام الشمسي، وقدم أفكاراً كثيرة حول الجاذبية وطريقة عمل القوى أدت لمزيد من التنقيح لنظام كوبرنيكوس.
وعلى الرغم من أن جاليليو برهن بما لا يدع مجالاً للشك على أفضلية نظرية كوبرنيكوس إلا أنه أُدين هو وكتابه في النهاية، ورغم ذلك انتشرت كتابات كبلر وجاليلو في المجتمع العلمي المتنامي وتمكن العالمين من المزج بين الحلول الرياضية والأرصاد التي تتزايد دقتها فصار من العسير على النقاد أن ينكروا أبحاثهما ونموذج كوبرنيكوس الذي بنيت عليه.
في عام 1943 بعد أربعة قرون من نشر عمله الفذ نال نيكولاس كوبرنيكوس التقدير الجماهيري الذي يستحقه، وأقيم احتفال هائل بتلك المناسبة اشترك فيه جمع غفير من الباحثين والشخصيات العالمية ليلقوا الضوء على أهمية دور كوبرنيكوس بالنسبة لفهمنا لذلك الكون الذي نعيش فيه، وتضمنت الاحتفالات تخصيص لوحات ونصب تذكارية لكوبرنيكوس وإنتاج تمثيليات إذاعية تعرض اكتشافاته وأحاديثه في سياق درامي.

عن الحوار المتمدن