حسين الرحال وجماعة الصحافة ونادي التضامن

حسين الرحال وجماعة الصحافة ونادي التضامن

حنا بطاطو*
في العام 1924 أدى حدث صغير الى خلخلة روتين الحياة اليومية في بغداد، ولكنه سرعان ما انقضى وخرج من الذاكرة. وربما يكون مغزاه قد تلاشي كلياً إلا بالنسبة للمراقب المتنبه الذي ما كان ليفشل في ان يرى فيه عارضاً منذراً بأن ومحرومي العراق بدأوا بالتحرك.

وكان الحدث يتعلق بجمعية سرية تضم اناساً غير معروفين اسمها «الحزب السري العراقي». وكان هذا الحزب قومياً منذ نشأته في العام 1922 ولكنه تحول فجأة في غضبه ضد طبقة الاثرياء. وخلال شهر تموز (يوليو) 1924 شق اعضاء الحزب المسلحون طريقهم الى مكاتب بعض كبار رجال الاعمال وهددوهم بالموت ان هم لم يدفعوا آلاف الروبيات. وجاء في رسائل موجهة من «اللجنة العليا» (للحزب) التي كان هؤلاء يمثلونها: «اننا لم نر حتى الان اية اعمال مفيدة للبلاد قام بها الاغنياء مع انهم يتمتعون بهذا الوطن البائس اكثر من الآخرين.. ولقد اعذر من أنذر».
ولم يكن من الامور الجديدة على بغداد القديمة – طبعاً – احتجاز الاشخاص بالقوة، اما الجديد فكان العقلنة التي اعطيت لهذا الاحتجاز. ولكن النتيجة الوحيدة الملموسة لجهد هذه الجمعية كان الهرب المؤقت لكبار الاثرياء العراقيين الى لبنان.
في الوقت نفسه، وبشكل منفصل تماماً عن امثال هذه التعبيرات الفجة والقطرية للصراع الطبقي، كانت البذور الاولى للشيوعية تزرع في العراق سراً وبصمت تام.
وكنا قد اشرنا سابقاً الى آرسين كيدور، عضو «الهنشاق»، والى انه كان يدرس التاريخ في المدرسة السلطانية في بغداد عام 1914. وفي احد الصفوف التي يدرسها كيدور جلس صبي في الحادية عشرة من عمره كان مقدراً لحياته – ان صح تفسيرنا للاحداث التالية – ان تتقاطع مع حياة معلمه في ظروف اكثر زخما. واستنادا الى عراقيين مطلعين فقد كبر الصبي ليصبح احد ابرز مفكري العراق المعاصر. ولقد سمعت من سماه «قاسم امين العراق» بالرغم من انه لم يكن يتمتع بمثابرة هذا المدافع المصري عن المرأة ودأبه. وعلى العموم، فان ما لاشك فيه هو انه كان اول ماركسي في العراق. وكان اسم هذا الصبي حسين الرحال.
كان الرحال متحدراً من أب عربي وام تركمانية. وكانت امه من عائلة النفطجي التي تمتعت لاجيال باحتكار منابع النفط في كركوك. وكان ابوه قد أتى من الرحالية في محافظة الدليم وكان ينتمي في القرن التاسع عشر الى طبقة الجلبيين الذين كانوا – كما ذكر في مكان آخر – تجاراً يبوأون مراكز اجتماعية رفيعة. وفي ذلك القرن كان آل الرحال يملكون اسطولاً كبيراً من السفن الشراعية يتاجرون بواسطته عبر انهار العراق وصولا الى الخليج والهند.
ولكنهم فقدوا ثروتهم في وقت لاحق، ويعود السبب في بعضه الى ان الكثير من سفنهم، التي كانت تبحر في اسطول، دمرت خلال عاصفة بحرية، وفي بعضه الآخر الى حضور السفن البخارية البريطانية الى المياه العراقية. ودخل والد حسين الرحال سلك الضباط الاتراك وتقدم في القيادات العليا للمدفعية. وحملته واجباته العسكرية الى انحاء كثيرة من العراق والامبراطورية العثمانية. ورافقه ابنه، حسين، دوماً مما اتاح له الفرصة لمراقبة طرق عيش شعبه عن قرب. وحملته السنوات الاخيرة من الحرب العالمية الاولى الى اوروبا (حيث ذهب ابوه الى المانيا في بعثة عسكرية)، ولم يستطع منع نفسه من المقارنة بين احوال العراقيين واحوال الاوروبيين المتقدمين. وفي نهاية الحرب كان الرحال الشاب يتلقى علومه في مدرسة ثانوية في برلين. وكان ما زال في العاصمة الالمانية – وفي دكان حلواني في الواقع – عندما اقام شيوعيو «سبارتاكوس بند» متاربسهم في شوارع المدينة (كانون الثاني / يناير 1919).
ويتذكر الرحال انه توجه يومها الى احدهم يسأله عما يحصل، فقيل له ان العمال يريدون اقامة حكومة خاصة بهم. وتعجب الرحال من امر بهذه «الغرابة». واذ كان اولاد بعض المشاركين في الانتفاضة طلابا في مدرسته نفسها فقد جرت في الاسابيع التالية نقاشات كثيرة حول الحدث. وربما يكون هذا قد اسهم يومها في زيادة اهتمام الرحال بما كانت تقوله االصحيفة الاشتراكية «داي فرايهايت» («الحرية»). وعلى العموم، فانه سرعان ما عاد الى مسقط رأسه بغداد ليجد مواطنيه غارقين في انفعالات التململ والقلق. وكان هذا في عام 1920، «عام النكبة»، اذ وقعت سورية في ايدي الفرنسيين وتمزق الارث العربي نتفاً. واخذ الرجل العراقي بالغليان خلال اشهر قليلة. وتركت النزاعات التي ثارت حينها وتدفقات المشاعر المضطربة وحالات القمع التي مارسها الغزاة وحوادث التفاني والتضحية علاماتها التي لا تمحى على حساسية الكثير من العراقيين. وسرعان ما خلف الابتهاج بالانتصارات المبكرة للثورة وراءه مشاعر الاحباط والمرارة. ولم تكن الحرية الوهمية – وبالشكل دون الجوهر – هي ما كانت تتوقعه «الشبيبة» المتعلمة في المدارس الحديثة.
وشهدت السنوات التي نلت ذلك اكتساب التطرف السياسي مزيداً من القوة في العراق وصار الاعتدال بغيضا. وتعمق كذلك الانزعاج الفكري الذي عبر، اول ما عبر، عن نفسه في سنوات مطلع القرن والذي كانت جذوره تمتد الى استنفاد الاسلام. واصبح ميل الشباب المتعلم الى الشك بالامور التي يراها كبار السن مثالية او يعتبرونها مسلمات اكثر بروزاً، وانحسر احترام هؤلاء الشباب للتقاليد. وعندما تعجب الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي قائلا في العام 1924.
سئمت كل قديم عرفته في حياتي ان كان عندك شيء من الجديد فهات
او عندما حض العراقيين عام 1928 ان:
ثوروا على العادات ثورة حانقٍ وتمردوا حتى على الاقدار
انما كان يعبر عن اكثر من مجرد غرابة طور شاعر مزاجي. وكان مزاجه مطابقا لمزاج الكثيرين من «الشبيبة». وكان الرحال الشاب جزءاً من هذا الجو، كما انه اسهم فيه – واكثر من كثيرين غيره بالتأكيد – ولكنه تنفسه ايضا ولم يكن له الا ان يؤثر على مجرى تفكيره.
وكان هنالك عامل اخر يبدو انه اثر على التطور الايديولوجي للرحال، الا وههو رحلته الى الهند في العام 1921. ويبدوا انه لم يكن قد خطط لهذه الرحلة. ولواقع انه اقنع اهله باعادته الى اوروبا لمتابعة دراسته. ولكن المرور بسورية لم يكن امناً. لذلك فقد غادر الرحال العراق عبر البصرة، وتوجهت سفينته اولا الى كراتشي. ولأمر ما غادر الرحال السفينة ليبقى في الهند ما يزيد على السنة. وليس واضحاً ما فعله هناك الى جانب تعلمه اللغة الانكليزية.
وقال الرحال في حديث اجراه مع المؤلف انه احتجز هناك لـ»اعتبارات ذات طبيعة شخصية». وفي «جلال خالد»، وهي رواية كتبها محمود احمد السيد وتعتمد في بعضها على تجربة الرحال، هناك اشارات متكررة الى تبادل البطل في الهند للافكار والمشاعر مع صحافي هندي «ثوري». وفي كل الاحوال فبعد فترة قصيرة من عودته الى بغداد اخذ الرحال يطالع صحيفة «الشهرية العمالية» The labour Monthly التي كان ناشرها يومها بالم دات، وهو مفكر شاب هندي المولد وعضو في الحزب الشيوعي لبريطانيا العظمى. واستنادا الى رواية الرحال نفسه فانه وقع على المجلة للمرة الاولى في مكتبة ماكنزي – مؤسسة بريطانية مشهورة في بغداد- وصار يلاحق اعدادها منذئذ وحتى ارتات السلطات منعها من دخول العراق. ويقول الرحال ان ما جذبه اليها هو انها «خلافا للمجلات الاخرى كانت تهاجم الامبريالية بعنف، وهو ما كان يلائم مزاج تلك الايام».
وليس بالامكان التأكد اليوم مما اذا كان سبيل الرحال قد تقاطع ثانية مع سبيل معلمه السابق، ارسين كيدور، قبل رحلته الى الهند ام بعدها. وكان كيدور، عضو الهنشاق» ماركسيا غير بلشفي. على العموم، فانه يبدو انه اقترب من البلشقية بعد ظهور ارمينيا السوفيتية ان لم يكن قد تبلشف فعلا في تلك الايام. ولقد تعرض كيدور للتأثير البلشفي حتى في وقت ابكر وفي لحظات عديدة من حياته. ومنذ سنوات الدراسة (1903 -1908)، وفي اتشميادزين في ارمينيا الروسية، كان خاتشيك صموثيليان، استاذ الاقتصاد السياسي البلشقي، قد ترك اثره على افكاره. وكانت الكنيسة الارمنية تدير المدرسة. وفي العام 1905 اشترك كيدور، في المدرسة في «ما شبه ثورة ضد الكنيسة» قادها الطالب البلشقي اسكناز مرافيان، الذي اصبح في ما بعد وزيرا للتعليم في ارمينيا السوفيتية. وفي العام 1917، وبعد خروجه من مخبئة في النجف- ونذكر هنا بانه كان متورطا في المؤامرة ضد جمال وطلعت وانور – اتصل بالقوات الروسية المتبلشفة والمحتلفة لخانقين وبعقوبة بفضل تعيينه كمترجم للغة الروسية في الجيش البريطاني. وفي وقت لاحق غادر كيدور العراق الى ارمينيا برفقة القوات الروسية. وفي العام 1920 عاد كيدور الى بغداد بصفته قنصلا لجمهورية ارمينيا المستقلة التي اعلنت كذلك في العام 1918، ولكنه استمر بممارسة مهماته كقنصل للجمهورية السوفيتية التي تلت ارمينية المستقلة منذ كانون الاول (ديسمبر) 1920، وكان يدير في الوقت نفسه محلا لبيع الخمور في حي راس القرية المسيحي. وفي حزيران (يونيو) 1924 اختلى كيدور في احدى غرف فندق ماجستيك مع غريغوري ميخائيلوفيتش لاكتينوف، وعضو اللجنة الاستثنائية في موسكو» ، الذي وصل بغداد في الثالث من ذاك الشهر في طريقه الى بوشاير. وفي وقت لاحق، في العام 1926، قام بلشفي اخر بزيارة كيدور، وكان هذا ه شاؤول سلطانوف، الذي اعتقل بعد ذلك بقليل في الموصل لوجوده في العراق «دون القدرة على اعطاء توضيح مرض لهويته»، ولدخوله البلاد دون جواز سفر. وكان بين الاوراق التي عثر عليها مع سلطانوف مذكرة غير موقعة ولا مؤرخة ولا اشارة فيها الى مكان تستعلم – بين اشياء اخرى – عن فحوى الانفاق البريطاني – التركي المتعلق بالموصل، والفائدة التي يجنيها العراق منه، وقوة اليد العاملة في حقول النفط، وحصة العراق من عائدات النفط، واعداد القوات البريطانية في منطقة الموصل وتفاصيلها. وفي السنة نفسها قام كيدور بتنظيم «لجنة مساعدة الارمن» (HOK) التي عملت في الاصل – واستناداً الى الاستخبارات البريطانية – من اجل استقلال ارمينيا ولكنها اصبحت جمعية بلشفية لاحقاً.
ولا يمكن القول ما اذا كان ما سنتحدث عنه قد حصل بمبادرة شخصية او تحت تاثير ارسين كيدور، او ربما بتأثير من الثوري الهندي المجهول، ولكن الواقع هو ان حسين الرحال، الذي اصبح في هذا الوقت طالبا في مدرسة الحقوق في بغداد، شكل في العام 1924 ما كان بالفعل اول حلقة دراسية «ماركسية» في العراق، او انه بث – بالاحرى- اول العناصر الماركسية في تفكير جماعة ادبية لا رسمية كانت موجودة قبل ذلك التاريخ. وربما لم يكن لمعظم الشباب الذين كانوا يختلون يومها بالرحال في مناقشات مغلقة في غرفة داخلية من مسجد الحيدر خانة في بغداد (وهو مسجد اشتهر في تاريخ بغداد كمكان للقاء ثوريي العشرينيات) ان يعرفوا انفسهم بكونهم «ماركسيون»، ولو سئلوا لقالوا انهم جماعة همها دراسة «افكار جديدة». وكان الرجال يشير اليهم، ببساطة، بقوله «جماعتي». ولكن القاء نظرة خاطفة على الجريدة الناطقة باسمهم، «الصحافة»، التي ظهرت في 1924-1925، ثم لفترة قصيرة في العام 1927، كانت تكفي لكشف توجههم الماركسي الواضح.
وكان من بين الاعضاء الاساسيين في الجماعة محمد سليم فتاح، طالب الطب ابن المسؤول السابق في الحكومية العثمانية وصهر الرحال، ومصطفى علي، وهو معلم مدرسة وابن نجار، والرجل الذي اصبح في عهد الجنرال عبد الكريم قاسم وزيراً للعدل، وعبد الله جادو الموظف في ادارة البريد والبرق وابن متعهد ثياب، وعوني بكر صدقي، وهو معلم – صحافي وابن مسؤول صغير اصبح في اواخر الخمسينيات رئيس تحرير «صوت الاحرار» ذات الميول الشيوعية، ومحمود احمد السيد، الذي كان ابرز من في االجماعة بفارق كبير.
واالمعروف اليوم عن السيد (1903 – 1937) هو انه اول روائي العراق، ولكن ما لايعرفه الا القلائل هو ان «الافكار الجديدة» لصديقه الرحال اسهمت في ايقاظ مواهبه الادبية الكامننة. ولابد لنا من الاشارة فورا الى ان هذه المواهب لم تكن ذات شأن كبير، بل ومن المشكوك فيه امكانية اعتبار روايته «جلال خالد» او قصصه القصيرة اعمالا فنية. ومع ذلك، فقد نجح السيد – وعن غير وعي الى حد ما – في رسم الصعوبات والحيرة التي كان يعانيها ابناء جيله وفي اضافة شيء ما الى معرفة العراقيين بانفسهم.
وبالرغم من ان السيد والرحال اشتركا في تعاطف متبادل فانهما كانا يختلفان الى حد مذهل في الخلفية والطبع. فقد ولد السيد من أب عربي وام هندية – افغانية في اسرة من «العلماء» و»الاسياد». وكان والده – لعقود – امام جامع الحيدرخانة. وكما هو متوقع في هذه الاحوال فقد لون الدين نشأته المبكرة. ولكنه – على العموم – وقع تحت تأثير علماني ضعيف في اثناء وجوده في المدرسة التركية الابتدائية في بغداد. واستمر هذا باستمرار دراسته الرسمية. ولكنه كان قارئاً شرهاً بطبعه، وكان يلتهم الكتب والصحف المنشورة خصوصا في مصر والتي بدأت تتدفق على العراق في اعقاب الحرب العالمية الاولى. وكان لرحلة قام بها الى الهند عام 1919 ان تفتح امامه افاقاً جديدة ومثرية، ولكن افقه الذهني بقي اكثر محدودية من افق رفيقه الرحال، ولم تكن معرفته واسعة، بالرغم من انه كان اكثر حساسية واغنى خيالا واكثر تاثيرا بالضمير الاجتماعي. وكذلك، فقد كانت معالجة الرحال لشؤون الحياة اكثر هدوءاً واكثر توريا من معالجة السيد، الذي كان اكثر انقادا وتهوراً. ولم يكن السيد بقدرة الرحال في التعامل مع الافكار النظرية او المجردة، او باستعداد لتبين مضامينها المنطقية. كما انه كان يستسلم بسهولة للنوعية الجمالية للكلمات اكثر مما يفعل بالنسبة الى محتواها الفكري. وكان التصافه بـ «الشيوعية» – ان جاز لنا استعمال التعبير في وصف افكاره الضبابية غير المصقولة وغير المنضبطة – عبارة عن عاطفة اكثر من قناعة. وتعاطف السيد مع «الشيوعية» لانه تحسس متاعب الجماهير العراقية الكبرى المهملة ورأى في «الشيوعية» تبديدا للعتمة التي تعيشها هذه الجماهير. واذا ما اريد تعريف شخص السيد قيل عنه انه «عاطفي» او «شيوعي رومانسي».
ومن ناحية اخرى، فان انجذاب الرحال الى الشيوعية، او بالاحرى الى الماركسية، من النوع الفكري، وقد سجر منذ اللحظة الاولى بديناميكية معالجاتها الفكرية.
وعبرت الجماعة «الماركسية» الجديدة عن تبلورها، اول ما فعلت، عندما بدأت بنشر جريدة «الصحافة» بدءا من 28 كانون الاول (ديسمبر) 1924. وكانت الجريدة جديدة في نوعها، والاولى نوعيا في عراق العشرينيات. وخلافا للصحف العراقية الاخرى لم تسع هذه الى كسب الرزق بل الى تغيير الناس. ولم يكن همها الاخبار بذاتها او انباء الفنانين، بل الافكار. وركزت الصحيفة على المشكلات الاجتماعية ولم تتعامل الا هامشيا مع الموضوعات السياسية. ولم تتردد الجريدة، في فترة كان التعبير فيها عن الرأي مشحونا بالمخاطر، في مهاجمة المعتقدات والاحكام المسبقة المتأصلة في قلوب الناس. واعطت هذه الامور، كلها، جريدة «الصحافة» طابعا خاصا بها، وسجلت فتح منظورات جديدة في الحياة الذهنية للعراق.
وتنقل جريدة «الصحافة» الينا العديد من الانباء عن الجماعة الجديدة، واولها انه يتضح من صفحاتها ان الجماعة لم تتخل ابدا عن افكارها. وبكلمات اخرى، فانها بشرت –ببساطة – بافكار ولم تهتم بالعمل السياسي. واكثر من هذا، فان افكارها كانت عالية المستوى الى حد جعلها تتفلت من قبضة الجماهير العراقية. ثم، وعلى الرغم من ان تبشير اعضائها بـ»الماركسية» كان واضحا فان هذه الكلمات لم ترد، ولو مرة واحدة، في كتاباتهم، مع انهم اعلنوا صراحة ان «المادية التاريخية» تشكل «التفسير الافضل» لعملية التاريخ. وهذا ما خدع الشرطة اليقظة وقليلة المعرفة في الوقت نفسه. ولابد من الاضافة هنا ان معرفة اعضاء الجماعة انفسهم بالماركسية كانت ضحلة الى حد ما. وواضح انهم لم يكونوا اكثر من مبتدئين.
وكانت معظم مفاهيمهم مأخوذة من مجلة «الشهرية العمالية» وعن مقالات كان الرحال يترجمها عن صحيفة «اومانيتيه» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي.
وتكشف «الصحافة» بوضوح عن امر آخر، وهو انه لم يكن لدى كتابها برنامج محدد، وعلى العموم، فانه يمكن تلخيص كل ما كتبوا بفكرة واحدة مسيطرة، الا وهي ضرورة الاطاحة بسلطة التقاليد. وفي البداية، لم يهاجم هؤلاء الكتاب التقاليد بكل حقولها، بل انهم ركزوا على تأثيرها على حياة العائلة ودافعوا عن تحرير المرأة العراقية من اغلالها القديمة. ولكنهم ، بمهاجمتهم التقاليد في هذا الميدان الوحيد، وجدوا انفسهم يواجهون قوة تخترق كل الميادين المختلفة وتقيم التماسك في بنية التقاليد الضخمة بامرها. ولم تكن هذه القوة غير الدين الاسلامي. ولكن هذا لم يرهبهم، بل انهم تساءلوا في اسس الاسلام نفسه من خلال تفسيرهم لكل الاديان بمنطق طبيعي. وكان هذا اكثر مما يمكن للرأي العام التقليدي ان يتحمله، وكان ان اغلقت «الصحافة».
ولم يكن الرحال ورفاقه روادا في دعوتهم الى تحرير المراة العراقية، بل كان الشاعر جميل صدقي الزهاوي اول من اطلق الدعوة. ولكنهم كانوا من جعل حركة تحرير المرأة تأخذ شكل الحملة، اذ تمت عقلنة الفكرة وتقديمها كمطلب من مطالب العملية التاريخية. وما من شك في ان توقيت هذه الحملة قد تأثر بالانجازات النسائية المعاصرة في مصر وتركيا. ولكن المثير للاهتمام هو العقلنة التي وظفت الى حد ما في تقديم اول حالة لاستعمال الفكر الماركسي في العراق، وان لم تكن تلك اول اشارة لتأييد البلشفية، اذ كان الزهاوي قد سبق الرحال الى هذا ايضا. وكان الزهاوي قد حيا الثورة البلشفية في كانون الثاني (يناير) 1921، وفي قصيدة عنوانها «الحياة والموت» قال فيها:
ايها الفقراء لا تيأسوا من الحياة، ايها الفقراء
رفعت اخيرا فوق رابية الهدى راية بلشفية حمراء
ولكن االزهاوي كان مغرما يومها بقول الاشياء المذهلة الخارجة عن المعتاد، ولم يكن يؤخذ دوما على محمل الجد.
وتطور موضوع حرية المرأة الذي طرحته الجماعة الجديدة بالشكل التالي: فتح الموضوع بمقال كتبه الرحال تحت عنوان «الحتمية في المجتمع»، اعلن فيه ان لا وجود لنظام اجتماعي «طبيعي» او «خالد». بل على العكس من ذلك فان كل المؤسسات الاجتماعية هي مؤسسات انتقالية بطبيعتها. ووضع المرأة يخضع لهذا «القانون العام». واضاف الرحال قائلاً ان العائلة العربية، بوضعها الراهن، جزء من بقايا ايام «الاقطاع». واستناداً الى ذلك فان الحريم والحجاب هما من بصمات اخلاقيات «الاقطاع». ولم تتمكن الارستقراطية من بناء «دور الحريم وزج هذه الاعداد من النساء فيها الا عن طريق استغلال جهد الناس». وانتهى الرحال الى القول ان الحريم والحجاب لم يكونا معروفين في حياة «الطبقة الشعبية» – بين الفلاحين العاملين – «وسيختفيان كليا عندما تقيم الطبقة الشعبية سيادتها». وكان ما سعى الرحال اليه هو انه يدعونه الى الغاء الحجاب والى مساواة المرأة بالرجل انما كان يسهم في رسم التاريخ.
وهكذا دخلت «الماركسية» الى عقول العراقيين بشكل غير معلن وغير ملحوظ مرتدية ثياب تحرر المراة.
في البداية، كان التقليديون الذين اتخذوا من صحيفة «البدائع» ناطقة بلسانهم ميالين الى السخرية من هذه الدعوة «الانثوية» الجديدة على انها من صنع «الفتيات البغداديات» اللواتي ادخلت بجرأة اراءهن غير المنشورة على الشيوخ والافاضل. وعلى العموم ، فانه سرعان ما نزل بعض التقليديين الى مستوى النقاش مع جماعة الرحال. وقال هؤلاء انهم لايفهمون لماذا بدافع «الانثويون» عن تحرير المراة اذا كان التغيير «حتميا» كما يدعون. وكان ذنب هؤلاء في تناقضهم. ورد «الانثويون» بالقول ان معارضيهم لا يستطيعون التمييز بين الحتمية والقدرية، واضافوا انه استنادا الى علم النفس الحديث الذي تنغرس جذوره في فلسفة القرن التاسع عشر – التي ولدت الحتمية الاقتصادية – فان الانسان قد «يريد» اشياء معينة، ولكن شكل هذه الارادة يتحدد من خلال تاثيرات البيئة. وعموما، فانه بخضوع الانسان لهذه التأثيرات تتشكل في ذهنه افكار جديدة يتابع استخدامها بشكل هادف لاحداث تغيير في بيئته.
وبقدر ما كان الاسلام والشريعة يقران الوضع الاجتماعي للمراة، فانه لم يكن للرحال ورفاقه – باصرارهم على افكارهم – الا ان يجلبوا لانفسهم تهمة تخريب الدين والاخلاق. ورد هؤلاء بقولهم ان هدفهم الأوحد هو «اجتثاث ما زرعه التقليديون في اذهان ابناء الشعب لكي يتمكنوا من تنمية وعي اجتماعي متكافيء مع وضعهم الراهن ويمنع اعداءهم من احتكار القانون والفضيلة بعد ان احتكروا الثروة والهيبة والشرف.
وانكر الرحال وجماعته كذلك صلاحية الشريعة وصلتها بالموضوع على اساس ان مبادئها «صيغت من اجل مجتمع كان موجوا قبل الف سنة ونيف». وقالوا انه بالشريعة او من دونها، فانه لابد للتغيير ان يحصل اذا كانت هنالك حاجة اجتماعية واقتصادية ملحة اليه.
ويبدوا ان الرحال وجماعته كانوا يقللون من اهمية خصومهم عندما ذهبوا الى ابعد من ذلك باعلانهم ان «العصر الذي كان الناس يؤمنون فيه بالتوجيه الالهي لاحداث الطبيعة قد لى»، وان «ليس الدين هو الذي يحرك الحياة الاجتماعية بل ان الحياة الاجتماعية هي التي تحرك الدين». وبكلمات اخرى، فانهم صرحوا بانهم صاروا لايعترفون الا بالاوضاع الانسانية والردود الانسانية. واثارت جرأتهم المتزايدة حنق التقليديين الذين لم يتأخروا في التكشير عن انيابهم.
وسرعان ما وجدت جماعة الرحال الصغيرة نفسها محاطة بهيجان ناجم عن المرارة والامتعاض، وصارت خطب ايام الجمعة في المساجد تصليهم نارا حامية. واستنكرتهم المضابط الجماعية على اساس كونهم مرتعا للكفر والالحاد. واسكت صوت الجماعة، ولكنها عادت فسجلت نقطة لحسابها.
والواقع ان الجماعة لم تخضع. وجرى تذكير بغداد بذلك بعودة «الصحافة» االى الظهور لفترة قصيرة بعد ذلك بسنتين (في العام 1927). وقالت افتتاحيتها بلهجة الانتصار: «عدنا! ولم نلفظ نفسنا الاخير كما تصوروا».
ولم يستكن الرحال خلال فترة انقطاع الجريدة، بل انه شن حربه بطرق اخرى بعد ان منع من الكتابة. وكان له دور اساسي في تاسيس «ناي التضامن» في اواسط العام 1926، وسرعان ما تورط النادي في الاحداث التي شكلت نقطة علام في التاريخ الثوري للعراق. ونظرا لان كل خطوة من خطواته كانت خاضعة للرقابة، فانه تراجع بحذر الى الخطوط الخلفية وصار يعمل من خلال يوسف زينل، وهو من القوميين ومعلم في المدرسة الثانوية في بغداد.
ودعا نادي التضامن الذي اجتذب اليه بشكل اخص شباب الطبقة الطلابية، وفي برنامجه المعلن، الى وحدة الشباب ونشر المعرفة وتشجيع الصناعة الوطنية وبث وتنفيذ «المبادئ المؤدية الى تحسين حياة المجتمع». وعلى العموم، فان الاخبار التي وصلت الى مكتب «الخدمة البريطانية الخاصة» اوحت بان النادي كان، في الواقع، مهتما جدا بتشجيع الاشتراكية في العراق وان قادته كانوا على اتصال بالمراسلة مع الاممية الثالثة، والضوء الذي عليهم ان يتوجهو نحوه».
ولم يكن نادي التضامن في وقت من الاوقات نقطة تجميع للعناصر التي كانت وطنية الميسول، في رأي «الشبيبة» ، وكانت تهدد «السلام وحسن النظام في البلد» في رأي الحكام، وعلى كل حال، فق جعل النادي الامور في بغداد اكثر حيوية خلال سنتين من وجوده. ووقع في ذلك الوقت حادثان عاصفان لايمكن ان يمحوا من هذا السجل، ولعب الرحال وزينل دورا بارزا في كليهما.
ونجم الحادث الاول عن قضية انيس النصولي. وكان النصولي، وهو معلم في مدرسة بغداد الثانوية، وقد نشر في كانون الثاني (يناير) 1927 كتابا عن تاريخ الامويين. وبدا الامام علي، ابن عم الرسول، في عدة فقرات من الكتاب في صورة غير لائقة. واحتج عدد من الشيعة الغاضبين على هذا الامر لدى وزارة التعليم، فطلب من المؤلف شطب هذه الفقرات، ولكنه رفض، مما جعل الوزارة تطلب منه سحب النسخ التي وزعت على الطلاب. ولم يرض بعض الشيعة بذلك ومارسوا ضغوطا في سبيل فرض عقوبة اكبر على النصولي. وضجت النجف وكربلاء بالحديث عن الكتاب ومؤلفه وانتشرت اشاعة تقول بان الملك قرر طرد النصولي. وفي 30 كانون الثاني (يناير) 1927 قدم ثلاثة من معلمي المدرسة الثانوية ومعهد التدريب المعلمين احتجاجاً مكتوبا الى وزير التعليم ضد «كارثة حرية التفكير» الناجمة عن الموقف «المتعصب» للوزارة. وجاء الرد الفوري على الاحتجاج بطرد المعلمين الثلاثة. وفي اليوم نفسه تحرك 600 طالب في المدرسة الثانوية، بتحريض من نادي التضامن، فهجروا كتبهم وتدفقوا الى الشوارع في مظاهرة غاضبة. واشترك في المظاهرة طلاب من الطائفتين السنية والشيعية واصدروا بيانا يوضحون فيه للجمهور ان المظاهرة «لم يقصد بها، بشكل من الاشكال، المس بمشاعر الطوائف المختلفة، بل الحفاظ على حق حرية التفكير». وبالرغم من ان النتيجة الفورية كانت اغلاق المدرسة لعشرة ايام وطرد عدد من الطلاب، فان هؤلاء اعيدوا في وقت لاحق وكذلك المعلمون الثلاثة. وكانت الاهمية الحقيقية للحادث باكمله تكمن في ان الطلاب بدأوا شكلا جديداً من اشكال النشاط يحتوي في الواقع على مبادئ فن العصيان، اذ كانت هذه اول مظاهرة طلابية عرفها العراق. ومن ناحية اخرى، كانت هذه الضربة الاولى التي يوجهها جيل الشباب مدافعين فيها عن حرية التعبير.
والذي حصل هو ان حادث كانون الثاني (يناير) 1927 خدم كنوع من التمرين على المظاهرات الصاخبة التي اندلعت في بغداد يوم 8 شباط (فبراير) 1928، وهي لا تبقى في الذاكرة لذاتها او للامر الملكي رقم 13 الذي اقر جلد تلاميذ المدارس الذين «يهددون السلام في الارض»، بل لاحدى نتائجه التي لم تلحظ الا قليلا ، فهي قد جمعت بين عاصم فليح ومهدي هاشم وزكي خيري، الذين كانوا يومها مجرد شباب قلقين ومستائين ثم اصبحوا في ما بعد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي وقادته. والتقى فليح وهاشم في مركز شرطة الرأي حيث احتجزا مع متظاهرين اخرين، وهناك سمعا بخبري وبالاصابات الجسدية التي عاناها على ايدي رجال شرطة الكولونيل بريسكوت الخيالة.
وكان السير الفرد موند هو السبب المباشر للمظاهرة. وكان موند مؤيدا بحماسة للحركة الصهيونية، وكان يزور فلسطين، فقرر زيارة العراق «لدراسة احواله الزراعية»، كما اعلن يومها. وعشية وصوله عقد نادي التضامن اجتماعا مستعجلا توالى خلاله كل من حين الرحال ويوسف زينل على اقناع زملائهم بان النية الحقيقية لموند هي اقامة مستوطنة صهيونية في العراق. واقترح الاثنان تنظيم مظاهرة، وتمت الموافقة على الاقتراح فوراً. وعندما بدأ الطلاب في اليوم التالي مسيرتهم عبر المدينة لحق بهم جمع كبير من الناس، وما كاد المتظاهرون يصلون الى محطة السكك الحديدية حتى تضخم عددهم ليفوق العشرين الفاً. وكانت تنتظرهم هناك قوة من رجال الشرطة بادرت الى تهديدهم واصدار الاوامر لهم بالتفرق. وبدأ العراك عندما رفض المتظاهرون التزحزح من مكانهم. وشوهد حسين الرحال وهو يستحث مشاعر المتظاهرين عند طريق جسر الخير حيث بلغ الهيجان ذروته، ووجد رجال الشرطة صعوبة في الصمود امام الضغط الغاضب المجيش. وهذه آخر صورة توفرت لنا عن الرحال كثوري، لانه بعد حل نادي التضامن في اعقاب هذا الحادث، وباستثناء ما افيد عن مراسلاته مع «العصبة المضادة للامبريالية» والقمع الاستعماري، مال الرحال الى الراحة واستسلم كليا لحياة كسولة وروتينية.
وقبل ان نترك الرحال ورفاقه لابد لنا من قول كلمة او اثنتين عن رواية السيد: «جلال خال»، التي ظهرت بعد مرور فترة قصيرة على الاحداث التي ذكرناها. وكانت هذه الرواية – وهي الرواية العراقية الاولى – مبنية على وقائع حقيقية. ولقد استخدمت كوسيلة لترسيخ معتقدات جديدة ولعبت دوراً في التشكيل الايديولوجي للشباب العراقي.
وكان جلال خالد، بطل الرواية، نوعا من خليط غير مميز من الرحال والسيد، ولكنه كان يحمل ملامح لايمكن تجاهلها من طباع الثاني المهتزة والرومانسية.
ويظهر جلال خالد في مطلع الرواية شخصا موزعا وغير منسجم. ويقال لنا بانه شخص تسيطر الكبرياء عليه وينظر الى رفاقه من عل. وكان جلال خالد الرواية يختال بثياب مكلفة وينفق الكثير من وقته في صالات بغداد الكبرى. وبالرغم من ذلك فانه كان يشعر في قرارة نفسه مع المحرومين والمضطهدين ولكنه «لم يكن يستطيع فعل الكثير من اجلهم، ولذا فقد استسلم لليأس». وكان يتذبذب بين المشاعر الانسانية الحائرة، والتدين المقيت والمتزمت، والقومية المتطرفة التي تجعله «يكره كل الشعوب الا العرب». وكان – باختصار - يكاد يكون تجسيدا لكل التشوش الحزين لايامه.
وكانت بقية القصة عرضا لتحول جلال خالد الداخلي، وحلا تدريجيا للتنازع القائم في شخصيته. وتستمر الرواية في سرد ما حصل له عندما غادر بلده التعيس والمستعبد وفي قلبه غصة، في مطلع العام 1919. وكانت تجربته الاولى قد بدأت على متن السفينة التي نقلته الى الهند. ويبدو ان قدره العابث اراد ان يسخر من ارائه التي تخصه وحده والتي مضى عليها الزمن، فرأى فتاة يهودية ذات جمال اخاذ غير عادي، وتوقف كل شيء عن الوجود بالنسبة اليه لفترة. واحب الفتاة سراً ومن غير ان تباله اياه، ولكن هذا الحب حرك فيه الشعور – وهذا هو المضمون الاخلاقي للحادث باسره – بانتمائه الى زمالة انسانية اوسع من زمالة العرب او حتى العالم الاسلامي بكامله.
وعلى العموم، فقد كانت نقطة الانعطاف الفعلية في حياة جلال خالد هي ارتباطه خلال العامين 1919 -1920 بـ»ف. سوامي»، وهو صحافي «ثوري» هندي. ويبدو انهما التقيا مصادفة في بهو احد فنادق كالوتا وضاعا – قبل ان يشعرا – في محادثة مفعمة بالحيوية.
وكان موضوع الساعة هو الاضراب الصناعي الذي لم تمض عليه بضعة ايم الا واطبق على المدينة. وكان هذا امر جديد على جلال اثار فضوله. وظهر ان لـ «سوامي» يد في تحريض العمالة. وهذا ما قاله لجلال بعد ان اعلمه انه منحه ثقته بلا تردد. وتابع «سوامي» قائلاً: «ما قولك لو عرفت ان في عالم اليوم عقيدة اشتراكية لها اتباع اقوياء وصحافة ناشطة، وانها تسلك الى المصانع وكسبت الى جانبها عقول كل العمال». ولم يكن جلال يعرف، اذ لم يكن هنالك عمال في بلده. وقال متقربا: «ليس في العراق الا فلاحون جوعى ولكنهم قانعون، ولاشك في انهم يعتقدون بان القناعة كنز، وان واجب الانسان هو ان يقبل بما قسم له في الحياة».
وكانت للاثنين احاديث طويلة لاحقة. وكانا يقتربان مرة من معبد هندوسي كبير في كالكونا، فالتفت سوامي الى جلال وقال بحرارة:
«ما فائدة هذه المعابد الفنية، التي فتنت كتاب اوروبا، لنا نحن هنود اليوم؟ لدينا من هذه المعابد اكثر مما لدينا من مدارس للناس. ما هو الخير الذي يفعله الكهنة الاغبياء في داخلها؟ يهرع الناس اليهم في ساعات الشدة طلبا لحماية لم يوفروها ابدا، ماذا يعلمنا ديننا غير «النيرفانا» والتنكر للوجود؟.... الم يفصلنا عن اخواننا المسلمين كما فصلهم دينهم عنا؟... نحن الذين نطمح الى تحرير شعبنا وكل الشعوب المضطهدة في الشرق... تحررنا من هذا الدين.. اقول لك اننا تحررنا منه واعلنا الحرب على ثقافته. ولكن، من نحن؟ لسنا الا قلة من طبقة المتعلمين الذين يتبعهم الناس نتيجة لتطرف افكارنا السياسية... ولو كنا اكثر عددا لنهضنا وسدنا وسيطرنا على الناس وقدناهم بالسياط الى الحضارة والحرية والحياة الحقيقية، ولن يكون هذا مصيبة تحل بهم او ظلما، بل رحمة وانبعاثا».
ولم يجبه جلال خالد. وكان شديد الاضطراب يقلب في ذهنه ما سمع لتوه ومتسائلا ما اذا كانت هذه ، بالفعل ، حقيقة الدين، وما اذا كان الدين حقا مصدر عذاب الشرق.
ولم يكن جلال خالد مقتنعا .. ولكن الشك كان يزيد من عذابه، ووقع فريسة «لاضطراب داخلي مجهول وغامض». وكانت تسيطر عليه افكر صديقه الهندي احيانا، وتسيطر عليه المفاهيم القديمة احيانا اخرى وتعيد تأكيد نفسها كما لو كانت تقتنصه على غير وعي منه.
وتتدخل هنا انتفاضة العراق في العام 1920 ويسرع جلال، الذي كان لايحمل في ذلك الوقت اية فكرة اخرى، في العودة الى الوطن، مطمئنا نفسه بآمال براقة ولكنها غير واقعية. وكان الفشل المؤكد بانتظار الانتفاضة، وسقط جلال في غياهب الخيبة واليأس، فعزل نفسه عن العالم واستسلم للكتب. وعندما خرج من عزلته بعد سنتين كان انسانا مختلفا تماما. ووجد خلاصه في افكار الثوري الهندي، وراح يسعى الان الى وسائل تحقيقها. ولكن الاصدقاء اداروا له اذنا صماء ووصفوه بالتطرف: هذه المخلوقات المدللة ذوات القلوب المسطحة! احدهم منشغل بجمع المال لكي يستطيع الزواج. وصار الآخر مغرما بالرفاهية منيعا على اي شيء آخر. و»اتفق الآخرون على الا يتفقوا»، وهم ينوحون ويتأوهون وكان النواح والآهات غيرت يوما حياة الناس. ويصرخ: «وهكذا لم تكن حماستكم الا فقاقيع تتفجر في الهواء!». ويبكي شاعرا بالم عميق. وتنتهي الرواية عند هذه الفقرة المرة. وبعكس الاحباط والمرارة اللذان يتخللان الصفحات الاخيرة من رواية «جلال خالد» المشاعر التي كانت تسيطر على الرحال وجماعته عند كتابة تلك الصفحات. وكانت الجماعة – في الواقع – قيد التفكك. ولا يصعب معرفة بعض الاسباب، التي تتلخص بالقيود المفروضة من قبل الحكومة، والتفكير الذي ما زال قويا للتقليديين، وبلادة القسم الاكبر من الناس. ولاشك في ان كل هذه العوامل ثبطت حماستهم. وهناك اسباب اخرى لما حدث، قد تفهم من الصورة الذاتية التي تبرع الرحال برسمها اذ قال: «كنت هاويا فقط، والى هذا كنت دوما اكثر اهتماما بالنظرية وبالخطوط الرئيسية للامور.. ثم، وقولا للحق، اني احب الكسل». ويبدو ايضا انه لم يكن ثمة تماثل عقلي كاف بين الاعضاء، فقد كانوا رفاقا تتجاذبهم كل الاتجاهات، وكانوا يختلفون في ما بينهم وينقسمون. وكل هذا امر مألوف جداً في الحياة العربية . وكان الكواكبي قد شخص هذه الحالة قبل ذلك بزمن اذ كتب في العام 1900 يقول: «اصبح كل منا امة قائمة بذاتها».
وعند اجراء اي تقييم لاسهام الرحال في نمو الشيوعية في الراق لابد من اخذ الاعتبارات التالية في الحساب :
1- لم تكن هنالك في العشرينيات ادبيات شيوعية باللغة العربية، وكان العراقيون الذين يستطيعون قراءة اللغات الاجنبية قلائل جدا. ومن هنا يمكن تقدير الفرادة في مدى ملاءمة الرحال لمساعدة قضية الشيوعية بتمكنه المميز من الالمانية والانكليزية والتركية والفارسية الى جانب العربية.
2- كان الرحال هو من عرف زكي خيري، احد ابرز شيوعيي العراق حاليا وعضو اول لجنة مركزية للحزب الشيوعي في العام 1935، بالفكر الشيوعي.
3- كان عاصم فليح ، احد مؤسسي الحزب ورئيس تحرير «كفاح الشعب» – اول صحيفة ناطقة رسميا بلسان الحزب – والمتدرب في «الجامعة الشيوعية لكادحي المشرق» KUTV) ، عضو في نادي التضامن المتأثر بنفوذ الرحال.
4- حسين جميل، الذي كان له دور بارز في تأسيس صحيفة «الاهالي» الاشتراكية الميول في العام 1932 ثم في تأسيس «الحزب الوطني الديمقراطي» ذي الميول المشابهة في العام 1946، كان مرافقا – هو ايضا – للرحال في نادي التضامن وفي مظاهرات النصولي وموند.
5- امينة الرحال، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الفترة 1941 – 1943، كانت ، مصادفة اول امرأة عراقية تخلت عن الحجاب في بغداد، وهي اخت حسين الرحال.
6- كان عبد القادر اسماعيل، احد مؤسسي «الاهالي» وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الفترة 1959 – 1963ورئيس تحرير «اتحاد الشعب» في الفترة 1959 – 1969، قد باد سيرته الثورية في نادي التضامن. واكثر من هذا، فانه وشقيقه يوسف اسماعيل، الذي شغل مراكز عمالية في صفوف الشيوعيين، كانا من ابناء عم رفيق الرحال الاول (محمود احمد السيد) مؤلف رواية «جلال خالد».
7- كان عبد الفتاح ابراهيم، احد مؤسسي «الاهالي» وزعيم «حزب الاتحاد الوطني» الماركسي الاتجاه في الفترة 1946 – 1947 ، هو ايضا، ابن عم لمحمود احمد السيد.
ومن الواضح ان الامور المذكورة هنا تشير ايضا الى اهمية الانتشار العائلي في الحياة الاجتماعية لعراق العشرينات، وخصوصا كوسيلة لنشر الافكار.
*عن كتاب العراق.. الجزء الثاني
ترجمة عفيف دمشقي