التحقيقات الجنائية وحزب الشعب  1946 ـــ 1948

التحقيقات الجنائية وحزب الشعب 1946 ـــ 1948

د. زينة شاكر الميالي
بدأ حزب الشعب نشاطه السياسي بشكل سرّي عام 1942 وكان يقتصر في بداية تكوينه على نشر المقالات في نشرات سرّية تُكتب باليد ويوزعها قسم من الأعضاء في نطاق محدود ويتلقفها رجال الأمن من دون أن يعثروا على مصدرها إذ تمزق في حينها، في الوقت ذاته حاول أعضاؤه العمل بشكل علني عام 1943 لاسيما عندما أعلن الأمير زيد نائب الوصي بخطابه في اجتماع مجلس الأمة في الأول من كانون الأول عام 1943

بأن "الحكومة عازمة على تشجيع تأليف الأحزاب السياسية وإعادة الحياة الدستورية في البلاد".

وفقاً لذلك تقدم جماعة من المحامين من حملة الأفكار الاشتراكية بطلب تأسيس حزب سياسي باسم حزب الشعب في السابع والعشرين من كانون الأول، إلا ان حكومة نوري السعيد السابعة رفضت الطلب، وعلى الرغم من ذلك استمر الحزب في عمله السرّي وقدم عدة طلبات لممارسة نشاطه بشكل علني، كان آخرها الطلب المقدم في الثاني من كانون الثاني عام 1946 وكان الموقّعون على هذا الطلب كلاً من عزيز شريف، وتوفيق منير، وعبد الرحيم الشريف، وعبد الأمير أبو تراب، وحميد هندي، وإبراهيم الدركزلي، ونعيم شهرباني، وجرجيس فتح الله، وسالم عيسى، ووديع طليا، وقامت الجهات المختصة بالتحقيق في هويات طالبي التأسيس وهي بالتأكيد دائرة التحقيقات الجنائية التي تقوم بالتحري عنهم وترفع تقاريرها إلى مديرية الشرطة التي بدورها ترفعها لوزارة الداخلية مؤكدةُ أن أغلبهم معلومون باعتناقهم المبادئ الشيوعية، إذ عدّت التقارير الأمنية المحامي عزيز شريف عبد الحميد احد الشيوعيين المتطرفين وقيامه بأعمال فوضوية وتحريضية على إقامة المظاهرات والإضرابات كإلقاء الخطب وإعلانه صراحةً تأييده للشيوعيين وتجنّت التقارير الأمنية الخاصة كثيراً عندما اتهمته بالتجسس لحساب المفوضية الروسية ببغداد وخدمة مصالحها لقاء مبالغ تدفعها له، وكان يكثر من التنقل في الألوية للاتصال بالعمال لبث الشغب والفوضى بينهم، وقد حكم عليه عدة مرات بالغرامة لنشره مقالات مثيرة للرأي العام في جريدة الوطن، أما توفيق منير الذي كان يتوكل دوماً للدفاع عن الشيوعيين في المحاكم، وكان يتردد على نقابات العمال ويحرضهم على الإخلال بالأمن ووقف أمام المحاكم ليدافع عن عمال السكاير المضربين فتطرق في دفاعه إلى وعي وتطور الحركة العمالية وعدم التفات الحكومات لها مما أكسبه تأييداً كبيراً بين صفوف العمال الذين كانوا يهتفون "يعيش المحامي توفيق منير نصير العمال"، كما وإنّ سالم عيسى كان قد أُتهم بانتمائه إلى جمعية سرية بالعمارة عُرفت باسم شباب الشعلة السرّية حيث قام أعضاؤها حينذاك بتوزيع النشرات المضرّة وبث الدعاية المعادية.
ومما يؤكد ذلك ما ذكره مالك سيف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في اعترافاته التي أدلى بها إلى دائرة التحقيقات الجنائية بقوله "كان من مقررات المؤتمر الحزبي للحزب الشيوعي أن يعمل على إخراج حزب علني يتصل به ويكون هذا الحزب العلني وسيلة لنشر مفاهيم الحزب الشيوعي ونشاطه بين الناس وقد اتصل كل من حسين الشبيبي وزكي بسيم بالمحامين توفيق منير، وعبد الأمير أبو تراب، وعبد الرحيم شريف، ويوسف جواد المعمار ودفعوهم على تقديم طلب تأسيس حزب الشعب..."، وذكر أيضاً "لقد نشط هؤلاء بمساعدة الحزب الشيوعي على إصدار نشرات سميت "رسائل البعث" ونشر منهاج حزب الشعب في الألوية وأخذت التأييدات ترسل إلى توفيق منير بعدّه مسؤولاً عنه"، وأشار أيضاً "لم يوافق عزيز شريف على اتصال حزب الشعب بالحزب الشيوعي بل كان رأيه أن يدخل جميع الشيوعيين في حزب الشعب ولا حاجة للعمل السرّي... وقد أيّده عبد الرحيم شريف وتوفيق منير وعبد الأمير أبو تراب وانضم اليهم حسين عبد العال وتوفيق وهبي وفريد الأحمر وقد نشطوا للدعوة لحزب الشعب وجمعوا حولهم الأنصار الكثيرين، وتجاه ذلك قام الحزب الشيوعي بحملة عنيفة ضد حزب الشعب... مما زاد من شدّة الخلاف بين الطرفين ولم تنجح محاولات التوفيق بينهما. وقد وصف كامل الجادرجي هذا الحزب بقوله "انه يضم شيوعيين واشتراكيين وأحرار فكر ومناوئين للاستعمار البريطاني وغيرهم من الوطنيين"، لذلك عُدّ في نظر التحقيقات الجنائية من الأحزاب الخطرة مما جعله في الخطوط الأمامية لأنظار مخبريها لاسيما بعد أن ثبت توجههم اليساري.
وعلى الرغم من ذلك أجازت وزارة الداخلية الحزب بكتابها المرقم 4587 والمؤرخ في الثاني من نيسان عام 1946 تأسيس الحزب، دعا الحزب في منهاجه إلى استقلال العراق واستكمال سيادته القومية وإحداث تطور اقتصادي واجتماعي شامل والوقوف ضد الاستعمار والصهيونية، أما في السياسة الخارجية فقد دعا إلى تطوير العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول الديمقراطية وإعادة النظر في العلاقات العراقية البريطانية، كما أيد السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي ووقف ضد القوى الغربية التي وصفها بالاستعمارية، وأصدر الحزب جريدة الشعب.
وبما إنّ حزب الشعب كان قد اعتنق الماركسية منذ أن تأسس عام 1943 وبقي محتفظاً بها خلال مدة عمله العلني من دون أن يصرح بها الأمر الذي أثار السلطة التي كانت قد أصدرت قانوناً بتحريمها منذ عام 1938، يضاف إلى ذلك معارضة عزيز شريف العلنية وتهجمه الصريح على الحكومات المتعاقبة الأمر الذي جعله محاطاً برجال التحقيقات الجنائية السرّيين، إذ عارض في جريدته الوطن وزارة أرشد العمري (في الأول من حزيران 1946) ، ودعا في خطابه الذي ألقاه في مقر حزب الاتحاد الوطني في أثناء اجتماع الأحزاب الديمقراطية في الثلاثين من آب إلى محاربتها، مما أدى إلى تعطيل جريدة الوطن واعتقاله، كما عارض الحزب وزارة نوري السعيد التاسعة (الحادي والعشرين من تشرين الثاني 1946) وأصدر بياناً أعلن فيه مقاطعة الانتخابات مشكّكاً بنوايا الحكومة في إجراء انتخابات نيابية حرّة، كما قدم الحزب مذكرات عديدة لرئيس الوزراء مع حزبي الوطني الديمقراطي والأحرار حول التدخلات السافرة في شؤون الانتخابات واستفزازات رجال التحقيقات الجنائية والشرطة ضد الوطنيين. وانتقد عزيز شريف وزارة صالح جبر (في الحادي والثلاثين من آذار 1947) كونها تمثل الشخصيات نفسها التي تداولت على الحكم كثيراً أو قليلاً، الأمر الذي دفع حكومة صالح جبر إلى إصدار بيان في التاسع والعشرين من أيلول 1947 بسحب إجازته متذرعة بقيام الحزب بتشكيل خلايا سرية وبالحصول على أموال من جهات مجهولة.
وصدرت الأوامر إلى سلطات الأمن باعتقال عزيز شريف مع رفاقه لغرض مثولهم أمام المحكمة إلا أنه نجح في الهرب إلى سوريا، فضلاً عن ترك العديد من أعضائه العمل إلا ان الحزب استمر في العمل بصورة شبه سرّية واشترك في إحداث وثبة كانون عام 1948 وتقرب إلى الحزب الشيوعي وتم الاتفاق معه على العمل سوية في لجنة التعاون بالاشتراك مع جماعة رزكاري وجماعة كامل قزانجي. وقد مثّل الحزب في اللجنة عبد الرحيم شريف والتي كانت أحد أسباب اعتقاله من التحقيقات فيما بعد، وشارك بعض أعضاء الحزب في التظاهرات الوطنية وجرت محاولة لإعادة تأسيس الحزب في وزارة الصدر لاسيما ان الحزب يؤيد الحكومة لأنها ألغت معاهدة بورتسموث وحلّت المجلس، إلا انه لم يستمر في العمل السياسي طويلاً إذ انضم أغلب أعضائه إلى الحزب الشيوعي العراقي.


عن رسالة ( التحقيقات الجنائية في العراق )