في ذكرى رحيله 23 شباط 1936..من ذكريات الزهاوي وطرائفه

في ذكرى رحيله 23 شباط 1936..من ذكريات الزهاوي وطرائفه

اعداد : رفعة عبد الرزاق محمد
تمر هذه الايام ذكرى رحيل الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي في الثالث والعشرين من شباط 1936 ، وبهذه المناسبة نقتطف بعض ما كتب عنه من ذكريات بقلم عارفيه من معاصريه ..

الزهاوي في مصر
كتب الاستاذ مشكور الاسدي (صحفي راحل) ما يلي:
لم يكن الزهاوي شاعرا حسب، بل كان شاعرا وفيلسوفا، ولعل جانب التفكير الذي طغى على شعره جعل هذا الشعر مما لا يقبل عليه كثير من الناس،

هذا الى جانب العوامل الاخرى التي كانت حربا على الشاعر وعلى شعره في العهد القريب الذي عاش فيه الشاعر الكبير، فكسدت سوق دواوينه وكتبه، ثم جاءت الحرب، فكانت ضغثا على ابالة: فباع الناشرون مخلفاته المطبوعة في الاسواق، وجنوا من ورقها ما املوا من ربح حين طبعوها اول الامر، فليس غريبا ان لا يجد المرء بغيته من آثاره حين ينشدها اليوم وان وجدها فبثمن الغالي ومن ثم ليست ندرتها لانها بيعت كتبا ودواوين بل لانها بيعت بالوزن ورقا!، لقت به العطارون والبقالون بضاعتهم!، هذا ما حدثني به بعض العالمين في سوق الوراقين عندنا في بغداد.

كان الزهاوي ذائع الصيت في البلاد العربية بما نشر من قصائد ومقالات في صحفها وخاصة مجلة المقتطف، واخيرا الرسالة وكان له في تلك البلاد اصدقاء اوفياء يعرفون قدره ويذيعون فضله، وعند ما زار مصر احتفى به احرارها ومفكروها، ومن اغرب ما حدثني به في القاهرة الدكتور زكي مبارك رحمه الله ان الزهاوي كان يطمع بان يكون شاعر البلاط المصري وسعى لهذا خلال زيارته تلك فلم يوفق في مسعاه، غير اني اشك في صحة هذه الرواية واستبعدها، وقد سألت بالامس في ذلك الاستاذ رفائيل بطي، الاديب الكبير ونائب بغداد، فاستبعدها كذلك ونفى ان يكون الزهاوي حاول تلك المحاولة، وقد اودع الشاعر لدى صديقه الاستاذ سلامة موسى ديوانه المخطوط "نزغات ابليس" واوصى بان لا يطبع الا بعد وفاته بخمسين سنة. وقد رجوت الاستاذ سلامة موسى ان يطلعني على الديوان فذكر لي انه اعطاه الى الدكتور الشاعر احمد زكي ابو شادي فاخذه هذا معه الى امريكا حين هاجر اليها، ولا شك ان في الديوان مالا يستساغ اليوم اشره من الخواطر الدينية والاراء الفلسفية.

الزهاوي والموت
كتب الاستاذ رفائيل بطي :
في يوم من ايام عام 1933 اغمى عليه في نوبة اصابته وهو في السوق فجعل الى داره، وبعد ان استفاق، نظم قصيدة طويلة بعنوان "احساساتي" نعى فيها نفسه وودعها:
ليس من هذا الموت يانفس بد
فهو للناس من تراث الجدود
يا اماني فارقيني ويا نفس
وداعا ويا حشاشة جودي
بعد ايام قد تقاربن مني
انا يا نفسي لا محالة مود
والقصيدة من اروع ما نظم الزهاوي، ونشرت في ديوانه الخامس "الاوشال" وهو آخر ديوان اشرف بنفسه على طبعه، وصدر بعد وفاته الديوان السادس والاخير وهو "الثماله" يشتمل على ما لم يدرج في دواوينه من شعر الشاعر.
وقد كرر في قصائده التي نظمها بعد هذه القصيدة ذكر الموت وانتظاره له. مما لسنا في سياق التبسط في هذه الناحية المهمة من نواحي حياة الشاعر وشعره، والزهاوي متعدد الجوانب، ثر المعاني، كثير الاغراض، انه بحر وسيع، ذو افق بعيد..

بين الاستاذ والتلميذ
حين انتقل المرحوم جميل صدقي الزهاوي شاعر بغداد وفيلسوفها الى رحمة الله في الثالث والعشرين من شباط 1936، كان تلميذه ومريده المرحوم احمد حامد الصراف حاكما في البصرة. فحرم من وداع شيخه والسير وراء نعشه والوقوف على قبره في ساعة الوداع الابدي، فالمه ذلك وهاجت في نفسه خواطر وهواجس كانت كامنة. فارقت ليله، وكتب رسالة الى صديقه واستاذه المرحوم محمود صبحي الدفتري يشكو اليه فيها حزنه يبثه لوعته على فراق استاذه الزهاوي، وحرمانه من القاء النظرة الاخيرة عليه. وقد افضى الصراف في هذه الرسالة الى الدفتري بمكنونات نفسه. وباح باسراره، واعترف بانه كان قد سبب كثيرا من القصص والمنغصات للزهاوي.
* وقد اعلن ندمه واسفه على ما فرط منه في جنب شيخه الزهاوي، فجاءت رسالته وكانها رسالة استغفار وانابة عما بدر منه في تلك السنين الخوالي، وعزا ذلك الى طيش الشباب ونزاوته، لقد جلس الصراف على كرسي الاعتراف وانتصف من نفسه لشيخه، والرجل، كل الرجل، من انتصف من نفسه لغريمه، واقر بفضل خصمه قبل ان ينتصف منه. ومما جاء في الرسالة :
اعلن ان الموت منهل بردء كل حي، واعلم ان الانسان وان عمر ما شاء الله ان يعمر لابد ان يرقد في الاخير في ملحودة تضمه بين جنبيها، فيصبح بعد قليل كومة عظام لا تلبث ان تستحيل الى تراب تدوسه اقدام البشر وسنابك الخيل، وانه من العبث ان يبكي الانسان وان يكثر الاعوال اذ ان لكل بداية نهاية. والزهاوي، غمره الله بنوره، عمر طويلا وعاش جليلا، وقد نضبت كاسه وانقضى اجله فمات كما الذين عاشوا من قبله. كل ذلك اعرفه واعلمه علم اليقين، ولكن ايدري مولاي ان نعي الزهاوي احدث في انفعالات شديدة في النفس. واضطرابات قوية في العاطفة، وهزات عنيفة في الجوانح، حتى لقد استحقرت الدمعة والزفرة واستصفرت الانة والحسرة عليه.
ماتت امي فحزنت عليها، ومازلت حزينا عليها، وكنت اتسلى بانني خدمتها ووفيت حقها وقمت بالواجب المحتم علي احسن قيام.
ومات الزهاوي فحزنت حزنا فيه مرارة وفيه خجل، حتى لكأنني شعرت بان كل شيء في الدنيا يؤنبني ويؤلمني ويؤذيني، وان السماء غاضبة علي، وان في العالم صيحة تدوي في الحقد علي، ذلك لانني لم اخدم الزهاوي ولم اوفه حقه تماما.
الان شعرت باللطمة الشديدة، الان شعرب بالجرم الذي ارتكبته، الان احسسن بالخطأ الذي اقترفته، انني اغضبت الزهاوي في حياته، وبذلك اسأت اليه وقد ندمت على ما فعلت. انا الان ابكي واعض اناملي واضرب يدا بيد فقد ندمت على ايذاء الشيخ، ولكن الله يشهد بانني لم اتقصد الاساءة، ولم اتعمد الايذاء، وانما كانت ظروف واسباب وبدوات ونزوات للشباب.
تمر على عيني صفحة تتلوها صفحة من ذكريات تلك الايام. وفيها من المتناقضات والمسرات والمحزنات ما تشجي وتهيج، هذا عام 1923، وهذا الزهاوي على اتانه وفي يده هرواته الغليظة، وهذا الصراف الشاب الناحل المكمود اللون يمشي على اقدامه، وبجانبه، محمد، الخادم وقد حمل "روايات" اشتراها الاستاذ ليقرأها.
"أبني احمد لنذهب الى قهوة الشط.
- كما تحب يا استاذ
- استاذ اليوم قرأت قصيدة لابن معتوق
الموسوي مطلعها:
خفرت بسيف الغنج ذمة بغفري
وفرت برمح الغد درع تصبري
فيتجعد وجه الاستاذ وتبدو عليه الغضون كسطور خطئها يد الدهر، ابتي لا تقرأ هذا الشعر، لان فيه مبالغات واكاذيب، واحسن الشعر اصدقه لا كما قيل اعذبه اكذبه".
ثم يندفع الاستاذ فيلقن تلميذه اساليب الادب، وبعد ساعة يمتطي اتانه والصراف الفتى يتبع اثرها وهي تمشي الخيلاء كالطاووس راضية مسرورة بان تحمل ذلك المرعب المخيف اذا غضب، والخفيف اللطيف اذا رضي، فتوصله الى الدار المباركة.

الجواهري يتذكر الزهاوي فيقول :
دامت صلاتي بالفقيد الزهاوي اكثر من ثلاث سنوات كان عندي في كل يوم منها شيء جديد افيده ، والذه ، واغربه.. كنت لا اغيب عنه يوما واحدا إلا بتقديم براهين قوية على سبب تغيبي كانت بادئ الامر مواعيد لقاء في مقهاه المفضل، مقهى "رشيد" حيث يقع محل السيد ناجي جواد الساعاتي الان، مطلا على دجلة.. ملتقى للشباب الصاعد، مشرقا قبل الشمس ببسمات "رشيد" صاحبه الطلقة، وببغداديته الاصيلة المحببة، ورأى الفقيد الزهاوي ان في هذه المواعيد تضييعا لدقائق لا تصل حد الساعات فيما يكون بيني وبينه من تخلف، فاخترع طريقة اضمن لكسب الوقت ما كان لمثلي ان يرفضها، هو ان اتي – وكان بيتي حينذاك في الكاظمية – اليه وهو في بيته الجميل اعوج تحت الطاق، مهونا على ذلك بانه في طريقي.. وكان ما اراد، وكان ما اريد ايضا.. كنت اطرق الباب فاسمع عقيلته الكريمة الجليلة تقول قبل ان تسمع لي ركزاً: انه الجواهري، ويفتح لي خادمه الذي عجبت كيف نسيت اسمه الان لشدة ما كان يعلق اسمه بذاكرتي.. الباب، ويصعدني الى غرفته الخاصة التي لا يدخلها من غير عائلته احد غيري، وسرعان ما يدلف بعد مصافحتي الى غرفة لاصقة بها، حيث العقلية التي كانت تلزم نفسها بالباسه ملابسه بيديها، ثم تحضر العربة الى باب البيت، ويجلس خادمه بجانب السائق، واجلس انا الى جانبه، ويصل اناتول فرانس الى مغنى سعيد، وخذ وهات مما يتحدث به الركبان من نكات الفقيد الزهاوي، ومن انطلاقاته، ومن القائه التمثيلي المطرب، ومن تشهيراته اللذيذة بخصومه ونقاده ومنافسيه، ومن كان ينافس الزهاوي غير واحد في بغداد، وفي العراق، في العالم العربي غير الرصافي !! قلت العالم العربي، وكلكم يعرف ان الزهاوي اقتحم هذا العالم بعنف وقوة لم يقدر الرصافي رحمه الله ان يزاحمه بهما.