الروائي الأميركي دون ديليلو..  39 عاماً بعيداً عن الضوء

الروائي الأميركي دون ديليلو.. 39 عاماً بعيداً عن الضوء

ترجمة منى مدكور
أجرت صحيفة «وول ستريت جورنال» لقاء نادراً مع الروائي والكاتب المسرحي الأميركي دون ديليو بمناسبة صدور روايته الجديدة «نقطة النهاية»، حيث بادر إلى الاعراب عن اعتقاده بأن الكتاب يرصدون الآتي قبل أن يستشرفه الآخرون.
وأشار إلى أن سوق النشر العالمي اليوم أقل اتساعاً مما كان عليه قبل أربعين عاماً، وألقى الضوء على جوانب مختلفة في روايته الجديدة، وقال إنها اشارة إلى الأشياء أكثر مما هي اكتشاف لأغوارها. وفيما يلي نص الحوار

لا يزال دون ديليلو يكتب رواياته على آلة كاتبة قديمة من طراز أولمبيا، وهو لا يشاهد التلفزيون إلا بالكاد باستثناء البرامج الرياضية وفيلم وثائقي بين الحين والآخر، وهو لا يستخدم البريد الالكتروني.

وهو لا يمكن إلا بالكاد أن يكون أكثر عزلة عن التيار الرئيسي للثقافة الأميركية، ومع ذلك فقد كتب ببصيرة مفزعة عن الكثير من القضايا التي تحدد أميركا القرن الحادي والعشرين، ابتداء من الإرهاب الدولي الذي كتب عنه في روايته الصادرة عام 1991 بعنوان «ماو الثاني» إلى العولمة، الكوارث البيئية، جاذبية التقنية وسيكولوجية الجماهير.
ويقول ديليلو في لقاء نادر معه في مكتب ناشره سكريبنر في حي مانهاتن بنيويوركر: «ربما يميل بعضنا، نحن الكتاب، إلى رؤية الأشياء قبل الآخرين، الأشياء الموجودة أمامنا مباشرة، لكننا لا نلحظها».
يجلس ديليلو في غرفة مليئة بالكتب، ويتحدث برقة بصوت خافت يحمل اللكنة النيويوركية، ويقول إن روايته الجديدة قد استمدت إلهامها من فيلم شاهده في متحف الفن الحديث.
ويضيف إن فكرة رواية «نقطة النهاية» خطرت له في عام 2006، عندما ساقته قدماه إلى قاعة في متحف الفن الحديث، وشاهد سايكو 24 ساعة وهو عمل تجريبي من إبداع فنان الفيديو الاسكتلندي دوجلاس جوردون، الذي اختزل فيلم الفريد هيتشكوك الشهير إلي الساعات الأربع والعشرين الأخيرة، ويقول ديليلو إنه عاد إلى هذا العرض ثلاث مرات.
ويتابع: «بدأت في التساؤل عن الكيفية التي نرى بها ما نراه وما الذي يغيب عنا عندما ننظر إلى الأشياء في اطار اكثر تقليدية، ومن هنا قمت بموضعة الشخصيات في قاعة العرض وانطلقت من هناك.
وهو يشير إلى أن إليستر، أحد الابطال الثلاثة للرواية قد دفعته الصحراء ـ شأن المؤلف نفسه ـ إلى «التفكير في الزمن بطريقة مختلفة تماماً، حيث يصبح هائلاً، يغدو زمنا جيولوجيا، وهو يفكر من منظور التطور والانقطاع».
وتستمد رواية «نقطة النهاية» عنوانها من مفهوم صاغه الفيلسوف الجزويتي الفرنسي بيير دي شاردان، الذي وصف نقطة النهاية بأنها المرحلة الأخيرة في تطور الوعي، ويقول ديليلو إنه قرأ عن عمل شاردان منذ وقت طويل للغاية، فأسرته الفكرة القائلة إن الوعي الإنساني يصل إلى نقطة الاستنفاء، وأن ما يأتي عقب ذلك قد يكون إما البرحاء أو شيئاً شديد السمو والرقي.
ويشير ديليلو الذي نشأ في حي برونكس بنيويورك ابنا لمهاجرين إيطاليين إن من المحتم أن تربية الكاثوليكية تزحف إلى أعماله. ويتابع: «إن لها تأثيراً بطرق لا يمكنني تحديدها، الإحساس بالاحتفال، الشعور بالأشياء الأخيرة، والإحساس بالدين باعتباره يوشك في بعض الأحيان أن يكون فناً».
ويوشك منهاجه في الكتابة على أن يشارف حدود الاستحواذ، وهو يركز على أشكال الحروف والكلمات، ويحكم على كل عبارة بمظهرها البصري وكذلك بإيقاعها ووضوحها. وهو يحب مجموعات الكلمات، التي تحيط فيها كلمة بأخرى.
ويقول ديليلو إنه في بعض الأحيان يستبعد كلمة ليحل محلها كلمة أكثر جاذبية من الناحية الإيقاعية، حتى ولو أدى ذلك إلى تغيير معنى الجملة، وهو غالباً ما يكتب على الآلة الكاتبة القديمة التي يستخدمها فقرة واحدة في المرة، مستخدماً ورقة بيضاء نظيفة، لكي يتاح له دراسة المعمار بالنسبة لكل فقرة في عزلة عن غيرها.
وقد تجنب الروائي الأميركي أن يظهر علنا بمظهر المنتمي إلى قلب الأمور وجوهرها في الحياة الأدبية الأميركية، ويتذكر جيرالد هوارد، الذي قام بتحرير رواية «ليبرا» من إبداع ديليلو أنه كان يجلس إلى جواره في حفل تقديم جوائز الكتاب الوطنية لعام 1985، عندما فاز ديليو بجائزة عن روايته «ضجة بيضاء». وطلب من الروائي إلقاء خطاب قبول للجائزة، فانبعث واقفاً، وقال: «يؤسفني أنني لم أستطع أن أكون موجوداً هنا الليلة، ولكنني أشكركم جميعاً لحضوركم». وبادر إلى الجلوس في مكانه.
ويشدد ديليلو على أن سوق النشر العالمي اليوم لم يعد كما كان قبل أربعين عاماً مضت، عندما دخله للمرة الأولى.
ويتابع: «لست أعتقد أن روايتي الأولى كان يمكن أن تنشر لو أنني قدمتها للناشر اليوم، ولست أظن أن محرراً كان يمكن أن يقرأ خمسين صفحة منها، حيث كانت مكتوبة بإفراط ومشوشة، لكن محررين شابين رأيا فيها شيئا جديراً بالمتابعة».
ومنذ ذلك الحين ازدادت قامة ديليلو الأدبية شموخاً إلى حد أن الكتب البحثية التي ألفت حول أعماله تجاوزت عدد رواياته، وحكم بعض النقاد على رواياته الصادرة حديثاً بأنها مخيبة للآمال وخفيفة، وخاصة لدى مقارنتها بأعماله الأولى التي تشبه اللوحات الهائلة والأعمال الملحمية.
وبينما يشير الكثيرون إلى الجوانب التي لا تفارق الذاكرة من نثره، وأكثرها بروزاً جمله الرقيقة ذات البناء المعماري المتقن، فإن بعض مراجعي الكتب قد نحوا جانباً روايته «الرجل الساقط» الصادرة عن عام 2007 حول الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك، باعتبارها عملاً محدود الخيال.
ويقول ديليلو إن الانتقالات في أعماله هي نتاج جانبي للسياقات وليست ابتعاداً واعياً عن الروايات الأكثر طولاً وطموحاً. ويشير إلى أنه في حالة روايته الأخيرة: «أردت أن أشير إلى الأشياء أكثر مما أردت اكتشافها بصورة كاملة».
ويضيف: «إن كل كتاب يحدثني بما يريده وبما هو عليه، وسأكون راضياً تماماً بكتابة رواية طويلة أخرى، ولكن يتعين أن تحدث فحسب».وتشير رواية «نقطة النهاية» إلى حرب العراق، وتركز على قدرة الفيلم والفن على تحويل الإدراك الإنساني، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الرواية الرشيقة التي تضم 117 صفحة، هي تأمل في الزمن، الانقطاع، الشيخوخة والموت، وهي موضوعات يقول ديليلو إنه نادراً ما قام باستكشافها بمزيد من التعمق في شبابه.
ويشير المراقبون إلى أن ديليلو قد انتقل في السنوات الأخيرة مبتعداً عن الروايات ذات البعد الشامل والتي تحدد روح العصر مثل «ضجة بيضاء» و«ليبرا» و«العالم السفلي» وان رواياته القليلة الأخيرة وبصفة خاصة روايته «فنان الجسد» الصادرة عام 2001 حول امرأة أقد زوجها على الانتحار، كانت أكثر اقتضابا واعتاماً.
وقد حرص الروائي الأميركي الشهير على تجنب الأضواء منذ 39 عاماً مع صدور روايته الأولى «أميركانا»، ونادر ما قام علنا بمناقشة أعماله، واختار عن طواعية أن يبتعد عن دائرة القيام بقراءات ومحاضرات وأعمال تدريس تتعلق بأعماله، وهي الدائرة التي تبقى على الكثير من المبدعين الأميركيين في حالة انتعاش مالياً.
وهو يقول إنه ليس مهتماً بكتابة مذكراته. وهو يقيم في برونكسفيل بنيويورك مع زوجته التي تعمل بهندسة المشاهد الطبيعية، ويقول نان جراهام محرر أعماله على امتداد سنوات طيولة في دار سكريبنر إن الروائي الكبير اعتاد حمل بطاقة تعريف مكتوب عليها: «لست أرغب في الحديث عن أعمالي».
عن العربي الجديد