كيف أكمل علي الوردي دراسته العليا قبل الدكتوراه ؟

كيف أكمل علي الوردي دراسته العليا قبل الدكتوراه ؟

د.علي طاهر تركي
وكان من بين قراءاته المهمة في هذه المرحلة قراءته لـ"مقدمة" ابن خلدون ، فقد لفت انظاره جملة من القضايا المعالجة في المقدمة ، كان منها تقسيم المجتمع الى (حضري) و (بدوي) ، والتأكيد على السمات والخصائص المميزة لكل منهما ، واثر تلك الخصائص في المجتمع والدولة وبالتالي في قيام وسقوط النظم السياسية .

تعين علي الوردي معلماً ، إثر حصوله على شهادة الاعدادية ، إلا ان هذا لم يكن نهاية المطاف في طموحه التعليمي ، كان يتحين الفرص لاستكمال ما بدأ في مسيرة الاستزادة العلمية والتزود المعرفي ، فجاء اعلان وزارة المعارف العراقية في عام 1939 عن وجود بعثات دراسية الى " الجامعة الأمريكية في بيروت"، فرصة اغتنمها مقدماً اوراق الترشيح في الوزارة ، وعند اعلان نتائج الترشيحات ، كان من بين الفائزين باحدى مقاعدها المخصصة لدراسة "التجارة والاقتصاد " ، وهو ما لم يلق هوى في نفسه ، بيد انه لم يجد بداً الا في القبول، خشية ان يفقد مقعد البعثة العلمية .

استكمل دراسته الجامعية في عام 1943 وبدرجة شرف ، ليقفل عائداً الى بلاده ، وقد تزود بمعارف جديدة ، فتحت امامه افاق ثقافية وعلمية لم تكن مألوفة لديه في اساليبها المنهجية والتحليلية والتعليلية ، آليات بحث ومنهج كان لها الاثر الكبير في نماء قدراته الذهنية وبالتالي تأجيج فضوله العلمي .

نقلت وزارة المعارف خدماته الى " الإعدادية المركزية " مدرساً لدرس الاقتصاد ، ومن ثم رشحته لتدريس مادة دراسية جديدة أضيفت على المنهج الدراسي في المدرسة نفسها ، عنونت بـ" احوال العراق الاجتماعية " ، اختصت موضوعاتها بدراسة الواقع الاجتماعي للبلاد، والعوامل المؤثرة فيه مع التعريج عند ابرز سمات المجتمع العراقي وخصائصه .

اعترض علي الوردي على قرار وزارة المعارف رافضاً تدريس درسٍ ليس ضمن تخصصه الدقيق، الا ان الوزارة اصرت مهددة اياه بنقل خدماته الى مدرسة اخرى في حال عدم الاستجابة الى مطالبها ، وهو أمر اضطره الى الرضوخ لأوامرها والقبول بتدريس " احوال العراق الاجتماعية " ، فانكب على القراءة والاستقصاء عنه ، وجمع المادة المتخصصة فيه ، لاسيما ان الدرس افتقد الى كتاب منهجي مقرر من الوزارة المذكورة ، خلافاً لبرامجها الدراسية المقرة لمختلف الدروس ، اذ كانت مطبوعة بصورة كتب للمراحل الدراسية الاولية كافة .

سرعان ما تحول الوجل من درس مرفوض وتدريسه مفروض ، الى شغف في البحث عن اسراره ، وولع لسبر أغواره والوقوف عند خباياه ، فأنشد إلى الدرس الجديد ، وتفاعلت في بودقة بنائه المعرفي الأسس "النظرية" لعلم الاجتماع مع تجربته "العملية" المستمدة من واقع حياته اليومي ، طرفي معادلة شكلت "مقدمة ابن خلدون " اساسها الأولي نظرياً ومشاهداته العينية واحتكاكاته المباشرة وغير المباشرة مع مختلف فئات مجتمعه اساسها العملي.
نجح على ما يبدو علي الوردي بتدريساته لهذه المادة ، مما حفز وزارة المعارف في ترشيحه عام 1946 لبعثة دراسية امدها اربع سنوات الى الولايات المتحدة الامريكية، لاستكمال دراساته العليا في جامعة تكساس والتخصص في علم الاجتماع تحديداً ، فاستجاب الى الترشيح مبتهجاً ، وكأن الاقدار ابتسمت له على حد تعبير احد معاصريه ، حزم امتعته وشد الرحال الى بلاد ، فتحت امامه افاقاً معرفية وعلمية جديدة اولاً ، والتعرف الى عادات وتقاليد مجتمع غربي غير مألوف لديه ثانياً ، فشكلت هذه المرحلة من حياته انعطافة تاريخية اخرى ومهمة في مسيرته العلمية وسيرته الحياتية الشخصية علماً وفكراً .
نال درجة الماجستير بتفوق عام 1948 ، وقد ادرك خلال مرحلته الدراسية هذه، ان " علم الاجتماع " علم عملي – ميداني ، لا يرتكز على النظريات فحسب ، بل الى بعده الحيوي المتفاعل والمتناغم بصورة مباشرة مع المجتمع تكويناً وتركيباً وارهاصات وسلوكيات، فلا يمكن ان يكون " مومياء جامدة " حبيس الكتب حسب تعبيره .
عمل علي الوردي في حقل التربية والتعليم زهاء الثلاثة عقود ، كان منها ثلاث سنوات في التعليم الابتدائي خلال المدة (1937-1939) ، فقد ابتدأت مهامه في التعليم من اصدار اول امر اداري في تعيينه كمعلم "بمدرسة الشطرةالابتدائية"في 16 كانون ثان عام 1937 وحتى انتقاله الى مدرسة "الشالجية الابتدائية" في الاول من تشرين اول عام 1938 ، ليحصل بعدها على اجازة دراسية لاستكمال دراسته الجامعية مدة اربع سنوات ، ليعود فيلتحق بـ" الإعدادية المركزية " في 15 ايلول من عام 1943 ، ثم انتقل بعد عام ونيف الى "ثانوية التجارة" في الاول من كانون اول عام 1944 ليدرٌس فيها مادتي الاقتصاد وأحوال العراق الاجتماعية حتى الأول من تشرين أول عام 1945 ، حيث قدم اجازة دراسية لاستكمال دراسته العليا في الولايات المتحدة الامريكية.

شرع بعد ذلك التحضير لأطروحة الدكتوراه ، متخذاً من ابن خلدون وآرائه في علم الاجتماع موضوعاً لدراسته ، فقدم اطروحة عن موضوعه بعد عامين من المواضبة والجهد الكبيرين في البحث والدرس والتحليل لمؤلفات ابن خلدون ، نالت اعجاب وتقدير اساتذته المناقشين والجامعة ، فحصل على تقدير متميز عن اطروحته في عام 1950 ، قررت بموجبه الجامعة ان تمنحه " دكتوراه فخرية " اضافية لما حصل عليه من درجة دكتوراه بصورة رسمية، ولم يقف التكريم عند هذا الحد ، بل منحه حاكم ولاية تكساس وسام التفوق في الولاية ، وهو وسام لا يمنح الا لمن قدم من الباحثين انجازاً علمياً مرموقاً ، كما منحته الجامعة شهادة تقديرية ومذكرة معنونة الى وزارة المعارف العراقية يومئذ ، اكدت فيها ، على ما حصل عليه من "نتيجة مذهلة متفوقة " ، بل ان اطروحته " تعادل ثلاث اطاريح متميزة " للدكتوراه في حقل تخصصه ، ولم تكتف بذلك وحسب ، اذ شددت على انها كانت " إضافة حقيقية " في علم الاجتماع .

عن رسالة :علي الوردي جهوده الفكرية وآراؤه الإصلاحية دراسة تاريخية.