رحلة ذكريات... مع سوزان يوسف سلمان(فهد)

رحلة ذكريات... مع سوزان يوسف سلمان(فهد)

عبدالله حبه
انتقلت ايرينا غيورغيفنا زاسورينا (1911 - 1975 ) ارملة الرفيق فهد الى عالم الخلود دون ان تكشف الكثير عن علاقتها بزوجها يوسف سلمان (فهد) الذي عرفته بالاسم المستعار (فرانك) ، ولم تتحدث عن كيفية اختفائه فجأة كما ظهر فجأة في حياتها. ولم تعرف أرملة الشهيد بنبأ استشهاده الا بعد مضي تسعة اعوام حين جاء الى موسكو الشهيد جمال الحيدري بعد ثورة 14 تموز عام 1958 وبحث عنها. وفي المرات العديدة التي التقيت بها كانت ايرينا تردد دوما :

«إن ما حدث اصبح في طيات الماضي .. وانا سعيدة بأنني تعرفت عليه وانجبت منه ابنتنا الوحيدة سوزان لأنني لم ألتق ابدا برجل مثله في دماثة الخلق وحلاوة المعشر والثقافة العالية ، لهذا احبه جميع الاصدقاء والمعارف .ولو قيض لي ان اتزوج مرة أخرى فأنني كنت سأتمناه دون غيره». لكنها كانت تتجنب ايراد أية تفاصيل عنه او عن علاقتها به.
وبعد وفاتها كنت اواصل اللقاءات مع الابنة سوزان وزوجها ايليا وبقية افراد، كما كانت تحضر مع زوجها احيانا الاحتفال السنوي بتأسيس الحزب في 31 آذار. وتتصدر غرفة الاستقبال في بيتهم الواقع في اطراف موسكو لوحة زيتية كبيرة للرفيق فهد انجزها احد الفنانين من اصدقاء العائلة. ويشير الاحفاد الى اللوحة بإعتزاز «هذا جدي». وبمناسبة اقتراب موعد الذكرى الثامنين لتأسيس الحزب طلبت من سوزان ان تحدثني عن ذكريات امها وكيف تعرفت على الرفيق فهد وكيف كانت علاقاته مع اسرة جدتها التي احبته واصبح واحدا من افراد العائلة انذاك حتى سفره المفاجئ الى الوطن ( العراق) دون ان تعرف ماهو وطنه الحقيقي.
قالت سوزان : «كانت أمي من عائلة ذات اصول سويدية واستونية، حيث كانت الجدة اميليا سويدية اما الجد فرديناند فهو من استونيا . وقد استقرت الاسرة في روسيا واعتنق افرادها الديانة الارثوذكسية. اما والدها فكان فنانا في الحفر على المعادن والسباكة وعمل في دار صك النقود في قلعة بطرس وبافل في سانكت-بطرسبورغ. وقد عرفت اسرته بممارسة هذه المهنة خلال فترة طويلة وتناقلها افرادها ابا عن جد.
انتقلت الاسرة الى موسكو في عام 1918 اي بعد قيام ثورة اكتوبر بسبب تحول العاصمة الى موسكو. وقد توفي رب الاسرة وصارت ارملته (اي جدتي) تعمل في دار صك النقود والميداليات ايضا. ورافقها في الرحلة الى العاصمة الجديدة ابنها البكر رفائيل الذي اصبح موسيقياً يعزف على آلة الفيولونسيل ، وابنتها ايرينا. وحصلت الاسرة على سكن مؤلف من غرفة واحدة في مسكن عمومي يضم ست عوائل ويقع بالقرب من محطة مترو « بارك كولتوري» حاليا اي في وسط المدينة. وقد انهت امي ايرينا الدراسة في دورة تعليم التخطيط الهندسي، ومن ثم في معهد ادارة المكتبات وعملت فترة من الزمن في مصنع الساعات في موسكو. وحدث مرة ان دعتها رئيستها في الورشة لحديث خارج المصنع
وحذرتها من وجوب ترك العمل فورا حيث بدأت مطاردة كل من له علاقة بأجانب. وكان الجميع يعرفون علاقتها بزوجها يوسف سلمان (فرانك) الذي يعرف بكونه قادما من افغانستان ومهنته خبير في زراعة الكروم. واضطرت ايرينا الى ترك العمل في اليوم التالي لأن حملة الارهاب والتي شملت أيضا كل من له علاقة بالاجانب قد بلغت ذروتها آنذاك في عام 1937. وفيما بعد عملت في مكتبة المدرسية الحزبية بمعونة صديقة لها. علما انها تعرفت على ابي في بيت هذه الصديقة بالذات لدى حضورة حفلة عيد ميلاد. وقد انجذب اليها لانها كانت في شبابها مرحة وتجيد الغناء وتحب معاشرة الناس».
واضافت سوزانا قائلة : «لقد حدثتني أمي عن لقاء والدي مع ستالين الذي لم يعجبه قوله للزعيم السوفيتي ان هدف الشيوعيين في العراق حيث يسود النظام الاقطاعي وسيطرة الاستعمار البريطاني هو بناء حكم وطني غير تابع للاستعمار البريطاني ، وفي الوقت الحاضر لا يضعون امامهم مهمة بناء الشيوعية في العراق. وفعلا ان والدي ردد أكثر من مرة - كما قيل لي - انه انغمر في الحركة الوطنية قبل ان يكون شيوعيا. ويبدو ان هذا الكلام لم يحظ برضى ستالين كثيرا.
لكن ابي لم يتحدث ابدا مع امي عن وطنه العراق والاحوال السائدة هناك بحكم ظروف السرية التي كانت تحيط بدراسته الخفية في المدرسة الحزبية (الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق) وبإسم مستعار. لكنه كان يظهر معرفة جيدا بالتاريخ العربي والاسلامي حيث كان يدور الكلام عن الاوضاع في العالم العربي والاسلامي.

وكانت جدتي تحبه كثيرا وتطهي له خصيصا حساء (البورش) الموسكوفي الذي كان يحبه لدى زياراته الكثيرة لبيت العائلة . وكان يحب عموما طراز الحياة الروسي من لبس حذاء اللباد (فالينكي) الى وضع قبعة الفرو ذات الاذنين فوق رأسه. علما انه كان ذواقاً في الملبس ويهتم بالنظافة . والاهم من ذلك اهتمامه بالمحاضرات التي كان يلقيها الاساتذة في الجامعة. علما انه ارتبط مع العديد منهم بعلاقات مودة وكان يزورهم في بيوتهم. ناهيك عن كثرة المطالعة باللغة الانكليزية التي كان يتقنها. كما كان يحب ارتياد المسارح مع أمي ولاسيما لمشاهدة العروض الكلاسيكية . بالرغم من ان لغته الروسية لم تكن كافية لتفهم ما يقوله الممثلون، حيث كانت امي تساعده في الشرح. كما كان يحب التجول في ازقة وسط موسكو ، لأنه كان يعيش في القسم الداخلي التابع للجنة المركزية مقابل مطعم اراغفي عند تمثل يوري دولغوركي ومجلس بلدية العاصمة. ولهذا كان يتجول مع أمي في البولفارات ( الحزام الاخضر) الممتد من ساحة بوشكين القريبة من المكان.
وحثتني أمي مرة عن كيف انقذ أبي والدة امرأة ارادت الانتحار بالقفز من جسر كريمسكي الى نهر موسكفا. وكان في تلك اللحظة مع والدتي التي شهقت لدى رؤية المرأة تعتلي حاجز الجسر . فنزع والدي فورا الجاكتة وطلب من أمي ان تحافظ عليها مثل حدقة العين لان فيها جميع وثائق الهوية الشخصية وقفز وراء المرأة الى النهر . وتجمهر الناس هناك وشاهدوا كيف اخرج والدي المسكينة الى الضفة وساعد في نقلها الى سيارة الاسعاف التي جاءت الى المكان.


وكما قلت ان أمي لم ترغب في التحدث عن أبي بل كانت تكتفي بالقول انه رجل طيب احبته بكل صدق وبادلها هذا الحب نفسه. وقد عرفت بنبأ اعدامه في عام 1958 فقط حين جاءت وفود الحزب الى موسكو ، واستُدعيت آنذاك الى مقر اللجنة المركزية حيث جاءت سيارة خاصة لنقلها الى هناك. وحدثها مسئول قسم الشرق الاوسط مالافانوف عن زوجها واسمه الحقيقي وجنسيته وكيف جرت محاكمته واعدامه في بغداد. ويومذاك جاءت الى البيت في حالة صعبة واستغرقت في ركن الغرفة بالبكاء. اذ كانت تأمل رغم كل شئ ان يعود زوجها الحبيب اليها مرة أخرى.
وكثرت زيارات الشخصيات الحزبية القادمة من العراق الى غرفتنا في المسكن العمومي فزارنا سلام عادل مرتين وزارنا جمال الحيدري ومحمد العبلي والدكتورة نزيهة الدليمي وغيرهم عدة مرات واستمرت الزيارات حتى نكبة شباط. وطبعا كنا نلتقي مع الشخصيات القادمة في الفنادق او في بيت ثمينة عادل او اماكن اخرى ايضا. وفي السنوات الاخيرة قبل وفاتها وبعد ان استلمنا شقة منفصلة كانت امي نادرا ما تغادر البيت بسبب حالتها الصحية».