سـلام على مثقــــل بالحديد

سـلام على مثقــــل بالحديد

علي حسين
صنع يوسف سلمان يوسف (فهد)، إرثه السياسي من حكايات الناس ومعاناتهم.فهو من أسرة مسيحية ضربت جذورها الأولى في العراق، جاءت من الموصل الى بغداد وفيها ولد، وكان والده مثل معظم العراقيين انذاك كادحا فقيراً مثل الموت، ومثل الاسى. وتزوج من فقيرة أخرى، صبية موصلية تتقاسم خبزها مع اناس اكثر فقراً، وقد سكن الاب في بغداد، بيتاً عتيقاً ورطبا،

مع مستأجرين آخرين، رجل عركته الحياة واعطته ثلاثة اولاد، داود اكبرهم وكان يعمل في البواخر البريطانية، ويليه الاوسط »يوسف» ثم »فرج» وهو أصغر الابناء وكان أيضاً ماركسياً أحرقت أصابعه في سجن بالناصرية، وكأن القدر أراد ان تقع أسرته في عذاب أليم طويل من أجل وطن مفدى سلفاً في أعماقهم الانسانية عذبة الرؤى

وبعد وفاة الوالد تبدا الاسرة هجرة ثانية الى البصرة ثم هجرة ثالثة الى الناصرية هناك يبدا الفتى يوسف يعارك الحياة، حيث كان في الصباح يدير معملاً صغيراً لصناعة الثلج، وفي المساء يقطع تذاكر ماكنة سينمائية، وهو في هذا الزحام كان يكتب تقارير عن الفلاحين الفقراء في الناصرية وعن كابسي التمور في البصرة ويرسلها الى جعفر ابي التمن لنشرها في الصحف البغدادية، وفي يوم التقى الأثنان في مقر حزب»الوطني»حزب ابي التمن، وقال ابو التمن:\»يا يوسف انت نقي ومجاهد ولهذا جعلتك عضواً في»الوطني»فأجاب فهد: «شكرا فهذا شرف كبير».ومن ذلك العالم القاسي، كتب البيان التأسيسي للحزب الشيوعي العراقي.درس اشياء وتعمق باخرى. يكتب مصطفى علي: «انه لو كان لهذا العالم شعور وذكاء يوازيان مقدرته على اعطاء العظماء قدرهم، لتذكر وقفة يوسف سلمان يوسف يوم اعدامه كما يتذكر شهداء الانسانية، فهو يمثل الشهادة الدائمة للشعب العراقي\».لم يلتفت أحد بادئ الأمر إلى كتابات هذا الموصلي، كان يطبع مقالاته على آلة طابعة عتيقة هي نفسها التي طبعت اول منشور للحزب الشيوعي العراقي، يلتزم بوصية استاذه ديمتروف:- «عليك منذ الآن تطهير الحزب ووضعه ضمن القواعد التي درستها في الجامعة\».وعندما أصدر رفائيل بطي جريدته (البلاد) واصل فهد نشر تقاريره واعمدته فيها مراسلا للصحيفة من الناصرية، فاضحاً الأيادي الخفية التي تدير لعبة الكراسي في الوزارات العراقية...في مذكراته يتحدث الجواهري عن لقاء في عام 1942، هو الأول، مع رجل لا يعرفه ويقول:\»قربته الى جانب وبعد تجاذب أطراف الحديث على فنجان قهوة استل الرجل من جيبه حزمة أوراق قائلا»هذه مقالة، ان رضيت عنها، فبوسعك نشرها... ولك الفضل\»وردا على هذا الرجل المتواضع ينادي الجواهري على أحد العاملين في الجريدة ويطلب ان تكون المقالة افتتاحية لعدد اليوم التالي. ويتحدث الجواهري كيف ان الرجل حدق في وجهه بذهول وتعجب قائلا»يا أستاذ، إلا تريد ان تقرا ما فيها أولا\»، ويرد الجواهري عليه بثقة\»لا، لن أقرا ما تكتبه أنت!\»، ويقول الجواهري بعد نشر المقالة: «ان العارفين من الطبقة المثقفة أعلنوا بصوت واحد ان المقال له: يوسف سلمان يوسف فهد\».وبعد سنوات وفي حفل نقابة المحامين العراقيين عام 1951 يبث ألجواهري لواعجه الى عشاقه مقتحما صرح الطغاة مستذكرا الشهيد فهد الذي اعدم في شباط عام 1949 دفاعا عن حرية العراقيين.
سـلام على مثقــــل بالحديد
ويشــمخ كالقائد الظافر
كـان القيود على معصميــه
مفاتيح مستقبل زاهـــــر
تنزهت من صدا الطارئـات
لأنك مـــن معدن نـــــــــــادر
وأنت المؤدي عن الارشدين
; ديـات المقصـر والقاصــران
ويتذكر الجواهري في حواره مع زهير الجزائري ان « الحديث عن قصيدتي في مؤتمر المحامين، فقد كنت عائداً من باريس ووصلت الى بغداد في ((يوم المشانق)). وعلمت بالخبر الاليم وانا في طريقي من المطار الى البيت. وكانت الشوارع حزينة صامتة. حتى الناس في المقاهي صامتون. وملأت المرارة والغضب نفسي فرأيت ان صرخة لبغداد لا بد وان تنطلق في هذه المناسبة، ومن داخلي جاءت الاشارة بأنه يُراد مني شيء لا يمكن ان يكون، لا في مفهومه ولا منطوقه ولا زمانه. فالمشانق منصوبة، ومع ذلك شعرت بأنه يُراد مني ما لا يُراد اصلاً. وقدّرت ان عقوبة ما افعله لن تقل ابداً عن خمس سنوات من السجن حسب القوانين العرفية السائدة ومع ذلك اعددت نفسي للنزال فبدأت ببيع المطبعة بسعمئة دينار. وكان هذا المبلغ للبيت واحتفظت بستين ديناراً وقلت لاهلي ان يحضروا انفسهم للذهاب الى النجف. وفصلت بدلة جديدة لـ ((اكشخ))”أتباهى”استعداداً للمناسبة، وعندما أكملت القصيدة قرأتها امام أم نجاح (زوجته) ووصلت ((حشدوا عليّ المغريات)) قالت أم نجاح ((عوافي!)) وتعني عند النساء العربيات ((ليكن ما يكن!)).
نقرا كتابات فهد ليست فقط تجربة في السياسة، بل هي تجربة على طريق الاحزان والظلم في ارض العراق، العراق الذي عانى من الظلم لعقود طويلة،نقرا سيرة العراقي المسيحي فهد، دائما نتعلم منه، دائما نستدل على القضايا الانسانية في عالم بالغ التوحش والاسى، هذه المرة يعلمنا»فهد»كيف يكون الانسان متبصرا يعطي لنفسه حق الذكرى.